حياة البرزخ للشيخ عمر الأشقر
عناصر الموضوع لقد أخبر الله عز وجل أنه لابد للإنسان من رحلة يرحلها من الدنيا إلى الآخرة، إنها رحلة تبتدئ من سكرات الموت والاحتضار وتنتهي بالبعث والنشور الذي أنكره كثير من الملاحدة، وينقسم الناس خلال هذه الرحلة إلى قسمين لا ثالث لهما: أهل الجنة وأهل النار، وقد ذكرنا ربنا جل جلاله ونبينا عليه الصلاة والسلام ما يلاقي أهل الجنة أثناء الرحلة من البشرى والنعيم، وما يلاقي أهل النار من البشاعة والزجر والعذاب الأليم.
| ||
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. إن الإيمان باليوم الآخر مفرق طريق يبن المسلم والكافر، بين المؤمنين والكفار، وعلامة المسلم: أنه ينظر في كل أعماله وأقواله وتصرفاته إلى ذلك اليوم، فهو يريد بعمله أن يتقرب إلى الله عز وجل، أن ينال رحمة الله سبحانه وتعالى، أن ينال جنة الله عز وجل، فهو يمتنع عن كل محرم وكل منهي عنه؛ خوفاً من الله عز وجل وخوفاً من ناره وعذابه، لذلك وصف الله المؤمنين بأنهم يريدون رحمته ويخافون عذابه. لشدة تأثير الإيمان باليوم الآخر في نفس المسلم وصف الله سبحانه وتعالى هذا اليوم وصفاً دقيقاً، وفصله رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه تفصيلاً بيناً، حتى كأنما المؤمن ينظر من خلال كتاب الله ومن خلال كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك اليوم، بل كأنه يعيش فيه، ولذلك فإن هذا اليوم حي في نفس المؤمن، دائماً يتراءى له عند منامه وقيامه، وهو يعيش بين الناس منفرداً وحده، بل جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يبكي منفرداً خائفاً من الله سبحانه وتعالى ومن غضب الله عز وجل أحد الأصناف الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، حيث قال: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) وقال: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين حرست في سبيل الله). والكفار والفجار والمجرمون لا يريدون أن يستقيموا على منهج؛ لأنهم يرون في هذا المنهج تقييداً لفكرهم وأعمالهم، ويرون في ذلك ضياعاً للمتع والشهوات التي يظنون أن فيها خيراً وسعادة، ولذلك فهم يكفرون بهذا اليوم، ومن قبل كان الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم يستبعدون هذا اليوم لقضية أشكلت عليهم، وهذه القضية لا تزال تراود كثيراً من الناس، وهي: كيف يعود الإنسان حياً سميعاً بصيراً متحركاً بعد أن وضع في التراب وتقطعت أجزاؤه وأصبح لحمه رماداً؟ كيف يبعث مرة أخرى بعد أن تبلى عظامه؟! هذه قضية أشكلت على عقول الناس، وقد ناقشها القرآن كثيراً، وكثير من الناس يؤمن بوجود الله ويصدق بوجوده، وأنه خالق الكون والإنسان، ولكنه لا يصدق بأن هناك بعثاً بعد الموت، فما السر في ذلك؟! يقولون: أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة:10]، تقول العرب: ضل الملح في الطعام إذا غاب فيه، يعني: فني فيه، فإذا غبنا في الأرض، وأصبحنا جزءاً من هذه الأرض، فبليت عظامنا ولحومنا، وأصبحنا من هذه الأرض، وتحولنا إلى تراب، أبعد ذلك يكون هناك خلق جديد؟!...... |
| ||||
قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] (جاء كافر من أهل مكة بعظم بال متفتت، وسحقه في يده، ثم نفثه في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! أتزعم أن الله يحيي العظام بعد أن أصبحت رميماً؟ قال: نعم، يميتك الله، ثم يحييك، ثم يدخلك النار)، وأنزل الله قوله جل وعلا: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس:78-80]. هذه الشبهة احتاجت إلى بيان وإيضاح ونحن بحاجة إلى أن نتبينها كي نرد على الذين ارتابت قلوبهم وتشككوا في هذا اليوم نتيجة لهذا الشبهة. الملحدون ليس لنا كلام معهم، الملحدون الذين لا يصدقون بوجود الله قضيتنا معهم قضية إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، إنما الكلام مع غالب البشرية الذين يصدقون بوجود الله ولكنهم يشركون بالله أو يستبعدون قدرة الله على أن يعيد الأجساد مرة أخرى، فهؤلاء ناقشهم الله سبحانه وتعالى بعدة أنواع من الأدلة. فمن ذلك هذه الآية التي يذكرهم الله سبحانه وتعالى بدليلهم أنفسهم قال تعالى: (( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ )) الذي يقول بهذه المقالة ويريد الدليل على أن من قدرة الله أن يجمع الناس ويحييهم مرة أخرى، فذات هذا السائل دليل على البعث، فالذي أنشأه من عدم قادر على أن يعيده، وكلنا عندما يحسب عمره ثم يقدم على أول عمره سنة أو سنتان، يعلم أنه كان عدماً، كما قال الله جل وعلا: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1] أي: قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، سواء آدم قبل أن يخلق كان عدماً، أو كل واحد منا قبل أن يخلق في بطن أمه كان عدماً. فأنت -أيها السائل- دليل على قدرة الله سبحانه وتعالى على البعث والنشور، والذي أنشأ هذا الإنسان من عدم بعد أن لم يكن موجوداً هو الذي سيعيده، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27] قد استقر في فطرة الناس أن الإعادة أسهل من البداءة، فالذي صنع شيئاً يسهل عليه أن يعيده أو يعيد مثله، فهنا يقول: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، فإذا كان الله سبحانه وتعالى أنشأ الناس من العدم، فهذا الخلق السوي بهذه الحواس المتكاملة، وبهذا القلب النابض، وبهذا الفكر الواعي، وبهذه الأحاسيس والمشاعر؛ كيف وجدت؟ أوجدها السميع العليم البصير الخبير القوي القاهر القادر. فالله عندما يقول: أنا سأحييكم مرة أخرى بعد بعثكم، ليس في ذلك غرابة، فمن صنع أول مرة فهو قادر على أن يعيد الإنسان مرة أخرى. ...... | ||||
| ||||
| ||||
| ||||
| ||||
| ||||
| ||||
| ||||
...... | ||||
| ||||
| ||||
| ||||
|