مكونات الخلاف الفقهي
الحلقة الأولى
من تعليق العلامة الشيخ يوسف الغفيص - حفظه الله - على رفع الملام لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -
أسباب الخلاف تتعلق بأربع جهات، وإذا أُخذت هذه الجهات الأربع ونُظر إليها نظراً منطقياً؛ وُجد أنها هي الجهات المكونة للخلاف الفقهي - أي: عنها يتكون الخلاف الفقهي- ، وهي كما يلي:
الجهة الأولى: جهة الدليل، والدليل فيه ثلاث حيثيات:
الحيثية الأولى: الدليل من حيث التعيين.
الحيثية الثانية: الدليل من حيث درجة الاحتجاج أو درجة الحجية.
الحيثية الثالثة: الدليل من حيث الثبوت.
الجهة الثانية: جهة المدلول من حيث الإفادة للحكم، وهي جهة الدلالة كما تسمى.
الجهة الثالثة: جهة المستدل، وهذه الجهة الكلام فيها قليل عند أهل الأصول، وإذا تكلموا فيها فإنما يتكلمون فيها من معتبر واحد في الجملة.
والمستدل: هو الفقيه، سواء كان مجتهداً أو لم يكن مجتهداً، ومعلوم أن أكثر من يتكلم ويفتي ليس هم أهل الاجتهاد؛ لأن المجتهدين أقل من الفقهاء غير المجتهدين، وهذه نتيجة طبيعية، فإن الذين يستطيعون أن يجيبوا عن كثير من المسائل -اليوم- هم كثير، ولكن إذا نظرنا إلى المجتهدين الذين بلغوا رتبة الاجتهاد العالية وجدناهم قليلين بالنسبة لسائر الفقهاء.
إذاً: المقصود بالمستدل من يفتي الناس وينقل لهم أقوال الفقهاء، أو يرجح في الخلاف الفقهي، سواء كان من أهل الاجتهاد، أي: من مؤسسي الخلاف، أو كان من ناقليه ومقرريه والمنتصرين له بوجه من الوجوه.
والمستدل فيه أربعة معتبرات:
المعتبر الأول: من حيث المجموع العلمي عنده، والمجموع العلمي في الغالب هو ما يذكره الأصوليون فيما يسمونه بشروط المجتهد، ومما يذكرون: أن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ، عارفاً بأحاديث الأحكام، عارفاً بدلالة اللغة.. إلخ.
المعتبر الثاني: البيئة الخاصة -وهذه الأسماء أو المصطلحات قد تكون جديدة من بعض الحيثيات، ولكن من حيث الحقائق هي مؤثرة، وقد أشار إلى درجاتها في التأثير جماعة من العلماء منهم المصنف[ أي: ابن تيمية ]، وابن حزم ، والشاطبي.. وغيرهم- والبيئة الخاصة قد تكون بيئة مذهبية؛ كانتحال الفقيه لمذهب فقهي، كانتحال الشافعي لمذهب الشافعية، وانتحال الحنفي لمذهب الحنفية، فهذه البيئة التي عاشها تؤثر فيه: أهو من متقدمي الأحناف أو من متأخريهم؟ وعلى أي كتب المذهب تمذهب؟ وعلى أي درجات فقه المذهب تمذهب؟ .. وهكذا.
فالبيئة الخاصة قد تكون بيئةً مذهبية فقهية على أحد المذاهب الأربعة، وقد تكون بيئة على مذهب أهل الحديث؛ كبعض الصور التي ظهرت في التاريخ بعد عصر الأئمة، وهي أحوال لبعض أهل الحديث في الانفكاك من المذاهب الفقيه أو التمذهب بمذهب فقيه معين، وقصدهم هو التمذهب والالتزام بما دلت عليه النصوص وما إلى ذلك، والبيئة لها صور سيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
المعتبر الثالث: البيئة العامة، سواء كانت بيئة إقليمية تتعلق بإقليم، أو بحدود جغرافية معينة، فيكون أهل هذا البلد لهم طبيعة معينة أو تأثير معين، أو كانت بيئة تتجاوز إقليماً معيناً، وهذا أيضاً يؤثر في النتائج الفقهية.
المعتبر الرابع: التكوين الذاتي، ويقصد بالتكوين الذاتي: طبيعة المستدل: كيف خلقه الله ومن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس متفاوتين، والفقيه واحد من الناس، فقد تكون له طبيعة تختلف عن الفقيه الآخر من حيث حرارة الطبع وبرودته، ومن حيث سعة العقل وعدم سعته، ونحو ذلك مما سنذكره إن شاء الله.
الجهة الرابعة لأسباب الخلاف هي: المسألة المستدل عليها، التي يراد إعطاء حكم لها، وأثر هذه الجهة هو من جهة اعتبار الفقيه لمحل المسألة من الشريعة: هل هي من الرتب الأولى في الشريعة، أم هي مما دون ذلك؟ وهل صرحت بها النصوص أم لم تصرح بها؟ وهل مقصود هذا الباب يتأتى عليها؟ وهذه سنتكلم عنها لاحقاً إن شاء الله تعالى.
هذه هي الجهات الأربع، وإذا تأملتها تأملاً منطقياً -ولا بأس بهذا التعبير- وجدت أن مناط المسائل العلمية لا يخرج عن أثر هذه الجهات الأربع.
( الحلقة الثانية )
الجهة الأولى: الدليل الفقهي.
ذكرنا فيما سبق الجهات الأربع لأسباب الخلاف الفقهي إجمالاً، والآن سنذكرها -إن شاء الله- تفصيلاً، وسنبدأ بالجهة الأولى وهي جهة الدليل الفقهي، وهذه الجهة فيها ثلاثة معتبرات:
-المعتبر الأول: تعيين الدليل الفقهي: هناك ثلاثة أدلة اتفق في الجملة على حجيتها الفقهية، وهي: ( الكتاب، والسنة، والإجماع )، وإنما قلنا: في الجملة؛ لأن مسألة الإجماع فيها بعض التقييدات عند بعض أهل العلم، لكن لك أن تقول: إن الكتاب والسنة والإجماع حجة بالاتفاق، حتى الذين يترددون في: متى يصدق الاجتهاد؟ وهل يمكن الاجتهاد بعد الصحابة أو لا يمكن؟ فإن هذه السؤالات لا تعود إلى التردد في الإجماع؛ بل إن الكل متفقون على أنه متى تحقق الإجماع فهو دليل لازم، ولا أحد يجادل في ذلك.
وبعض الأصوليين من المتكلمين يقولون: إن الإجماع فيه نظر، وهذا ليس بصحيح، نعم، هناك تردد في كيفية إثبات الإجماع، لكن لا يوجد فقيه يقول: إن الإجماع الذي تحقق ثبوته في نتيجته نظر، فإن هذا لم يقله ولم يلتزم به أحد من أهل العلم؛ لأنه خلاف مقتضى الشرع، وخلاف مقتضى العقل، ففيه نوع من التمانع الشرعي والعقلي، إنما هناك سؤالات: هل ينعقد الإجماع بعد الصحابة؟ وهل يمكن أو لا يمكن؟ لكن من يفرض أنه يمكن يقول بأنه حجة، ومن يفرض أنه لا يمكن يقول: لا أعتد به، لا لكونه إجماعاً؛ بل لكونه ليس إجماعاً من هذا الوجه.
ومن المعلوم أن نصوص الشريعة الإسلامية وهي الكتاب والسنة والإجماع -كما يذكر أهل المنطق وأهل الأصول، ومنهم ابن رشد مثلاً- هذه النصوص التي في الأحكام لها حد من حيث التناهي، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال كلاماً في ثلاث وعشرين سنة، في حين أن شريعته باقية إلى قيام الساعة، والفروع التي تنشأ وتحدث عند الناس كثير منها ما يسمى بالنوازل، وإن كانت كلمة (النوازل) أخص من كل ما ينزل، بمعنى: أن النازلة هي مصطلح على القضية الكبرى التي تنزل بالأمة، أما الجديد فلا يسمى نازلة؛ فمثلاً: بعض الناس قد يقول: إن مسألة الأسهم تعتبر من النوازل، والصحيح أنها ليست من النوازل، ولكنها فرع فقهي عادي يقبل الخلاف، ولا يحتاج إلى مرجعيات كلية لتحسم فيه.
والنوازل هي أخص من ذلك، فهي قضايا نازلة تحتاج إلى اجتماع المجتهدين، ولذلك فإن عمر رضي الله عنه -مثلاً- في خلافته عرضت له آحاد من المسائل فكان يحسمها بنفسه، مع أنها تعتبر جديدة، لكن لما جاءت قضية الطاعون اعتبرها عمر تحت مصطلح النازلة، فجمع الصحابة واستشارهم فيها.
ومن النوازل مثلاً: مسألة إقامة المسلمين لظروف ما في غير بلاد المسلمين، واستجابتهم للأحكام المدنية ونحوها في تلك البلاد، فهذه المسألة لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها ويقول رأيه فيها دون الرجوع إلى العلماء، فإن هذه تعتبر اليوم نازلة، وهناك جزء من واقع المسلمين يحتاج إلى تأصيل شرعي مثل هذا.
إذاً: من حيث التعيين فإن هذه الأدلة الثلاثة لا جدال فيها، أما من حيث استيعاب النصوص الصريحة لآحاد المسائل، فإن هذا لا يمكن أن يكون متوافقاً على هذا التمام؛ لأنه ليس كل المسائل قد صرحت بها النصوص، ومن هنا ظهرت هناك جهات من الأدلة بدأت من زمن الصحابة، ثم ظهرت كمصطلحات علمية، ومنها: قول الصحابي والقياس، وهذان الأمران هما من أخص ما تعلق به الفقهاء بعد الأصول الثلاثة التي هي: الكتاب، والسنة، والإجماع. ومن المعلوم أن الفقهاء بعد انتشار الفقه في العراق وغيره صاروا في الجملة أهل اتجاه للأثر -وهو ما اشتغل به المحدثون- أو أهل اتجاه للفقه والرأي -وهو ما اشتهر في الكوفة- فلكثرة اشتغال المحدثين بالسنن والآثار وبآثار الصحابة؛ غلب عليهم التعظيم لأقوال الصحابة بعد الكتاب والسنة والإجماع، فتأثر فقههم أكثر ما تأثر بعد الكتاب والسنة والإجماع بأقوال الصحابة.
أما مدرسة الفقهاء في الكوفة فأكثر ما تأثر فقهها بعد الكتاب والسنة والإجماع بالقياس.
إذاً: من حيث التعيين اتفق أهل الرأي -إن صح التعبير- وأهل الحديث على اعتبار أقوال الصحابة كدليل في الجملة، وعلى اعتبار القياس كدليل في الجملة، فما من فقيه من الكوفيين إلا وهو يعتبر في بعض الصور العمل بما هو من أقوال الصحابة، وما من فقيه من أهل الحديث إلا وهو يعتبر في بعض الصور العمل بما هو من القياس، وإن كان المحدثون ضيقوا القياس، وهم في تضييق القياس درجات، وكذلك أهل الكوفة ضيقوا العمل بالآثار -غير آثار النبي صلى الله عليه وسلم- إلى القياس، وهم أيضاً في ذلك درجات.
ولذلك فإن المصنف يقول هنا -وهذا يذكره حتى المحققون من الأحناف- يقول: "إن أبا حنيفة لم يكن يبطل أقوال الصحابة؛ بل له مسائل أخذ فيها بكلام الصحابة، كما أن أحمد وأمثاله من أهل الحديث لهم أقوال أخذوا فيها بما هو من القياس".
إذاً: هناك ثبوت في تعيين هذين الدليلين. وهاتان الجهتان -جهة الآثار غير النبوية وهي آثار الصحابة، وجهة القياس- هما أكثر المكونات للرأي الفقهي بعد الأصول الثلاثة، وقد ظهرت بعد ذلك عدة أدلة، منها: عمل أهل المدينة، والمصلحة المرسلة، والاستحسان، وهذه الأدلة هي التي عرفت فيما بعد عند الأصوليين بالأدلة المختلف فيها، وهذا التعبير بأنها مختلف فيها لا بد أن نفقهه على أن الاختلاف لا يلزم أن يكون في التعيين، فقد يتفق العلماء على التعيين، كاتفاقهم في الجملة على الاعتداد بالقياس وبآثار الصحابة، مع أنه من المعلوم أن كثيراً من الكتب الأصولية تحكي مذاهب لا ترى القياس، وتحكي مذاهب لا ترى أقوال الصحابة، وليس معنى هذا أنه لا يوجد هذا الدليل الذي لم يقولوا به.
ولذلك فإن ابن حزم رحمه الله صرح بإبطال القياس، وابن حزم متأخر عن داود بن علي الظاهري رحمه الله إمام المذهب الظاهري، فـابن حزم رحمه الله أبطل القياس، ورد كثيراً من قياس الحنفية، وقياس الفقهاء من غير الحنفية، وإذا تعاملنا مع الأمور كمصطلحات فلنا أن نقول: إن من الأصوليين والمتقدمين أيضاً من يبطل القياس ومنهم من يقبله، ومنهم من يأخذ بأقوال الصحابة ومنهم من لا يأخذ بها، لكن إذا جئنا من حيث الواقع العلمي عند هؤلاء وجدنا أن ابن حزم قد استعمل بعض الصور التي هي وجه من القياس، وبنى بعض المحصلات التي هي وجه من القياس، وإن كان المصطلح لا يصدق عليها.
ومن هنا نعلم أن المصطلحات أحياناً تحكم حكاية الخلاف، فـابن حزم صرح بإبطال القياس كثيراً، مع أنه عند التطبيق لا ينفك أحياناً عما هو من القياس، هذا مع غلو ابن حزم في ترك القياس، فما بالك بأهل الحديث المتقدمين! صحيح أن هناك تجافياً عند المحدثين عن كثير من الرأي والقياس إلى آثار الصحابة، هذا أمر موجود، لكن إبطال القياس من حيث الماهية لم يوجد، كما أن إبطال آثار الصحابة وفقههم من حيث الماهية لم يوجد.
وأحياناً يذهب بعض الكوفيين إلى أن أقوال آحاد الصحابة ليست حجة، وأن الصحابة إذا اختلفوا فإن الاستدلال بأقوالهم ليس معتبراً، فإن هذا يصل إليه بعض الكوفيين، أما إبطال فقه الصحابة وآثارهم من كل وجه، أو إبطال القياس من كل وجه، فإن هذه صور حكمتها المصطلحات في كتب الأصول المتأخرة. فإذا قرأت الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله وتأملت فيها؛ وجدت أن الشافعي كأنه قصد أن يكتب صيغة توافقية -ولا أقول: وسطية؛ حتى لا يفرض أن غيره ليس وسطاً- بين مذهب الكوفيين من الفقهاء ومذهب أهل الحديث؛ ولذلك تجد في الرسالة تأكيداً على الأثر والنص كثيراً، وأيضاً تجد فيها تأكيداً على الفقه، وعلى أوجه كثيرة من القياس، كما أن الشافعي تجافى عن بعض أوجه القياس فشدد في القياس، ولما تكلم عن الإجماع أحكم الإجماع بكلام، وانتقد بعض الصور التي تفرض على أنها إجماع؛ لكنه لم يتخلَّ عن الإجماع مطلقاً، ولم يتخلَّ عن القياس مطلقاً، كما أنه لم يلتزم بالآثار على حساب ترك القياس، وكأن الشافعي رحمه الله أراد أن يقول: لا يوجد هناك تمانع بين القياس وبين آثار الصحابة؛ بل هذا فقه معتبر، وهذا فقه معتبر، وهذا أمر بين فيما كتبه الشافعي في الرسالة، فكأنها طريقة توافقية بين طريقة الكوفيين من أهل الرأي وطريقة أهل الحديث.
ولاسيما أن الشافعي لاحظ -كما هو موجود في تاريخ بغداد وغيره- أن بعض أهل الحديث شددوا في ذم أهل الرأي، وبعض هذا الذم قد لا يكون محققاً، كما أن بعضه قد يكون محققاً حينما يكون الذم بمعنى الدعوة إلى التمسك بالنصوص، فإن هذه أمور لا بأس بها، وهي من العلم المقبول، لكن أحياناً يزيد الأمر على ذلك، فكأن الشافعي لم يكن راضياً عن بعض هذا الذم، وأراد أن يبين أن الأمر فيه قدر واسع من التقارب، ولهذا يعتبر أصل الذي كتبه الشافعي من أصدق الصيغ العلمية لدراسة فقه الشريعة، سواء ما كتبه في رسالته، أو في المحاورات التي تكلم فيها عن كثير من الفروع في رسالته أو في كتاب الأم، وأقول فيما كتب الشافعي ، وليس بالضرورة أن يكون ذلك في كل ما كتبه الشافعية من بعده ولاسيما المتأخرين منهم، فمن أراد أن يصطبغ بصبغة فقهية متميزة فليقرأ في تأسيسه الأم والرسالة للإمام الشافعي رحمه الله.
إذاً: هذا من حيث التعيين، أن هناك أدلة يختلفون في تعيينها، وأدلة يتفقون في تعيينها.
ذكرنا أن العلماء اتفقوا في الجملة على القياس، وسواء قيل: إن العلماء اتفقوا في الجملة على القياس، أو قيل: إن القائلين به هم الجمهور فقط؛ فإن هذا ليس هو مقصودنا الآن، إنما المقصود: أنهم لما عينوا القياس أو المعينون للقياس -لو فرضنا أنهم الجمهور فقط- يختلفون في درجة حجيته، فهم قد اتفقوا على حجيته لكنهم اختلفوا في درجة حجيته، وهذا الخلاف من أكثر المسببات للخلاف الفقهي. أن هناك آثار بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمفهومها الواسع، القياس بمفهومه الواسع، لما تأخذ القياس وآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بمفهومها الواسع، وما سلكه بعض المحدثين من اعتبار آثار التابعين؛ لأن بعض المحدثين التزم حتى بآثار التابعين وقدمها على القياس أحياناً، وهذا قد لا يكون له ذلك التبرير في سائر الصور.. المهم وهذا الاختلاف بين قدماء الفقهاء في درجة الحجية بين هذين الأصلين هو الذي تولد عنه كثير من الخلاف أحياناً، هذا إذا كان الخلاف راجعاً إلى القياس أو إلى أقوال الصحابة. ولو رجعنا إلى كلام الإمام الشافعي رحمه الله لوجدنا أنه نظر إلى أن الإشكال الذي قد يتطور ليس أن هؤلاء يقدمون كثيراً من القياس على كثير من الآثار غير النبوية، أو أن هؤلاء يقدمون كثيراً من آثار الصحابة أو حتى بعض آثار التابعين على كثير من القياس، وفعلاً هذا ليس هو الإشكال، إنما الذي حاول الشافعي أن يطوقه هو فرض التمانع بين القياس وآثار الصحابة أو آثار التابعين، وهذا هو الذي تولد فيما بعد عند مدرسة المتأخرين من الأحناف -مثلاً- الذين زادوا في مسألة القياس زيادةً بينة، قد لا تكون هناك مدرسة فقهية انتظمت؛ لأن أكبر الممثلين لمذهب أهل الحديث هو الإمام أحمد كمذهب فقهي، ومع ذلك فإن المذهب انصبغ بالصبغة الفقهية، لكن ربما يوجد بعض الفروق بين بعض الصور التي جاءت في التاريخ أو في هذا العصر كأحوال لبعض أهل الحديث الذين أرادوا الاستمساك بالنصوص وبآثار الصحابة مباشرة، فصار هناك تباين بين المدرستين، ولذلك فإن ما قصده الإمام الشافعي قديماً ينبغي أن يكون مقصوداً للناس من أهل العلم والنظر والفقه اليوم، وهو أن فرض التمانع بين أقوال الصحابة والقياس ليس منهجاً حكيماً، والمنهج الذي درج عليه عامة السلف من المحدثين والفقهاء هو اعتبار القبول للقياس ولأقوال الصحابة.
لكن متى يقدم القياس على قول الصحابي، أو قول الصحابي على القياس؟ هذه مسألة ليست من المسائل الشائكة المشكلة، ولا بأس أن يقع فيها الخلاف؛ لأنه إذا رجعنا إلى آثار الصحابة أنفسهم وجدنا أن اختلاف الصحابة في الجملة يرجع إلى وجه من القياس، فهذا ألحق المسألة بوجه من القياس فرأى رأياً، والآخر ألحقها بوجه من القياس في الشريعة فرأى رأياً آخر، هذا إذا لم يُلتزم في مسألة القياس بالحد الأصولي المتأخر، ومن المعلوم أنه في المنطق يذكرون قياس الشمول وقياس التمثيل، فإذا أُخذ القياس بمفهومه الواسع فهو يؤثر في أكثر الخلاف حتى عند الصحابة أنفسهم، وإن كان مصطلح القياس لم يكن ظاهراً في ذلك الوقت.
-المعتبر الثالث: ثبوت الدليل: قد يكون الدليل معيناً، ودرجة الحجية ثابتة، لكنهم يختلفون في ثبوت الدليل، وهذا محله في الغالب النصوص النبوية، ولك أن تقول: إن محله في سائر الموارد هو الآثار؛ سواء كانت آثار النبي صلى الله عليه وسلم أو آثار الصحابة؛ لأنه من المعلوم أن القرآن قد انتهى أمره بحفظ الله سبحانه وتعالى له، فلا جدل في هذا المقام، أي: من حيث ثبوت القرآن، وإنما الخلاف في ثبوت الأحاديث، أو ثبوت بعض آثار الصحابة، أو ثبوت الإجماع، وهذا الاختلاف في ثبوت الدليل ينتج عنه أيضاً كثير من الخلاف.
وأكثر الأسباب التي ذكرها ابن تيمية هنا تتعلق بهذا المعتبر وهو: ثبوت الدليل.
ومن المعلوم أن المحدثين في باب الثبوت أكثر امتيازاً؛ لأنهم أهل علم بالسنن والآثار، بخلاف الفقهاء من أهل الكوفة، فإنهم لم يكونوا على درجة كبيرة من العلم بالنصوص والآثار، وقد اصطبغ هذا عند كثير من الفقهاء المتأخرين، حتى عند متأخري فقهاء الحنابلة والمالكية، مع أن الإمام أحمد والإمام مالكاً رحمهم الله كانوا من كبار المحدثين، هذا فضلاً عن الشافعية والحنفية، فقد قل العلم بالآثار، أي: من حيث الصحة والضعف، وأحياناً من حيث العلم، أي: عدم العلم ببعض الآثار والسنن، ومعلوم أن أبا حنيفة رضي الله عنه ورحمه كان قليل العلم بالحديث، أي: بطرق المحدثين، وليس معنى ذلك أنه لم يكن لديه علم أصلاً، فإن هذا أمر مستحيل، لكنه لم يكن واسع العلم بالحديث، ولم يكن من الحفاظ الكبار، وقد تكلم بعض المتقدمين كـالبخاري وغيره في حفظ أبي حنيفة بما هو معروف، لكنه كان فقيهاً، ومعه كثير من السنن التي أجرى فيها - مع القرآن وما معه من الأصول- فقهه المعروف.
وهنا ينبه إلى أنه من الحكمة أن ينتظم طالب العلم على فقه واحد، حتى لا تكون نتيجته الأخيرة فيها اضطراب، ولذلك نجد أن أهل الحديث انتظم فقههم، بغض النظر عن الراحج والمرجوح في هذه المرحلة.
ذكرنا فيما سبق الجهات الأربع لأسباب الخلاف الفقهي إجمالاً، والآن سنذكرها -إن شاء الله- تفصيلاً، وسنبدأ بالجهة الأولى وهي جهة الدليل الفقهي، وهذه الجهة فيها ثلاثة معتبرات:
-المعتبر الأول: تعيين الدليل الفقهي: هناك ثلاثة أدلة اتفق في الجملة على حجيتها الفقهية، وهي: ( الكتاب، والسنة، والإجماع )، وإنما قلنا: في الجملة؛ لأن مسألة الإجماع فيها بعض التقييدات عند بعض أهل العلم، لكن لك أن تقول: إن الكتاب والسنة والإجماع حجة بالاتفاق، حتى الذين يترددون في: متى يصدق الاجتهاد؟ وهل يمكن الاجتهاد بعد الصحابة أو لا يمكن؟ فإن هذه السؤالات لا تعود إلى التردد في الإجماع؛ بل إن الكل متفقون على أنه متى تحقق الإجماع فهو دليل لازم، ولا أحد يجادل في ذلك.
وبعض الأصوليين من المتكلمين يقولون: إن الإجماع فيه نظر، وهذا ليس بصحيح، نعم، هناك تردد في كيفية إثبات الإجماع، لكن لا يوجد فقيه يقول: إن الإجماع الذي تحقق ثبوته في نتيجته نظر، فإن هذا لم يقله ولم يلتزم به أحد من أهل العلم؛ لأنه خلاف مقتضى الشرع، وخلاف مقتضى العقل، ففيه نوع من التمانع الشرعي والعقلي، إنما هناك سؤالات: هل ينعقد الإجماع بعد الصحابة؟ وهل يمكن أو لا يمكن؟ لكن من يفرض أنه يمكن يقول بأنه حجة، ومن يفرض أنه لا يمكن يقول: لا أعتد به، لا لكونه إجماعاً؛ بل لكونه ليس إجماعاً من هذا الوجه.
ومن المعلوم أن نصوص الشريعة الإسلامية وهي الكتاب والسنة والإجماع -كما يذكر أهل المنطق وأهل الأصول، ومنهم ابن رشد مثلاً- هذه النصوص التي في الأحكام لها حد من حيث التناهي، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال كلاماً في ثلاث وعشرين سنة، في حين أن شريعته باقية إلى قيام الساعة، والفروع التي تنشأ وتحدث عند الناس كثير منها ما يسمى بالنوازل، وإن كانت كلمة (النوازل) أخص من كل ما ينزل، بمعنى: أن النازلة هي مصطلح على القضية الكبرى التي تنزل بالأمة، أما الجديد فلا يسمى نازلة؛ فمثلاً: بعض الناس قد يقول: إن مسألة الأسهم تعتبر من النوازل، والصحيح أنها ليست من النوازل، ولكنها فرع فقهي عادي يقبل الخلاف، ولا يحتاج إلى مرجعيات كلية لتحسم فيه.
والنوازل هي أخص من ذلك، فهي قضايا نازلة تحتاج إلى اجتماع المجتهدين، ولذلك فإن عمر رضي الله عنه -مثلاً- في خلافته عرضت له آحاد من المسائل فكان يحسمها بنفسه، مع أنها تعتبر جديدة، لكن لما جاءت قضية الطاعون اعتبرها عمر تحت مصطلح النازلة، فجمع الصحابة واستشارهم فيها.
ومن النوازل مثلاً: مسألة إقامة المسلمين لظروف ما في غير بلاد المسلمين، واستجابتهم للأحكام المدنية ونحوها في تلك البلاد، فهذه المسألة لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها ويقول رأيه فيها دون الرجوع إلى العلماء، فإن هذه تعتبر اليوم نازلة، وهناك جزء من واقع المسلمين يحتاج إلى تأصيل شرعي مثل هذا.
إذاً: من حيث التعيين فإن هذه الأدلة الثلاثة لا جدال فيها، أما من حيث استيعاب النصوص الصريحة لآحاد المسائل، فإن هذا لا يمكن أن يكون متوافقاً على هذا التمام؛ لأنه ليس كل المسائل قد صرحت بها النصوص، ومن هنا ظهرت هناك جهات من الأدلة بدأت من زمن الصحابة، ثم ظهرت كمصطلحات علمية، ومنها: قول الصحابي والقياس، وهذان الأمران هما من أخص ما تعلق به الفقهاء بعد الأصول الثلاثة التي هي: الكتاب، والسنة، والإجماع. ومن المعلوم أن الفقهاء بعد انتشار الفقه في العراق وغيره صاروا في الجملة أهل اتجاه للأثر -وهو ما اشتغل به المحدثون- أو أهل اتجاه للفقه والرأي -وهو ما اشتهر في الكوفة- فلكثرة اشتغال المحدثين بالسنن والآثار وبآثار الصحابة؛ غلب عليهم التعظيم لأقوال الصحابة بعد الكتاب والسنة والإجماع، فتأثر فقههم أكثر ما تأثر بعد الكتاب والسنة والإجماع بأقوال الصحابة.
أما مدرسة الفقهاء في الكوفة فأكثر ما تأثر فقهها بعد الكتاب والسنة والإجماع بالقياس.
إذاً: من حيث التعيين اتفق أهل الرأي -إن صح التعبير- وأهل الحديث على اعتبار أقوال الصحابة كدليل في الجملة، وعلى اعتبار القياس كدليل في الجملة، فما من فقيه من الكوفيين إلا وهو يعتبر في بعض الصور العمل بما هو من أقوال الصحابة، وما من فقيه من أهل الحديث إلا وهو يعتبر في بعض الصور العمل بما هو من القياس، وإن كان المحدثون ضيقوا القياس، وهم في تضييق القياس درجات، وكذلك أهل الكوفة ضيقوا العمل بالآثار -غير آثار النبي صلى الله عليه وسلم- إلى القياس، وهم أيضاً في ذلك درجات.
ولذلك فإن المصنف يقول هنا -وهذا يذكره حتى المحققون من الأحناف- يقول: "إن أبا حنيفة لم يكن يبطل أقوال الصحابة؛ بل له مسائل أخذ فيها بكلام الصحابة، كما أن أحمد وأمثاله من أهل الحديث لهم أقوال أخذوا فيها بما هو من القياس".
إذاً: هناك ثبوت في تعيين هذين الدليلين. وهاتان الجهتان -جهة الآثار غير النبوية وهي آثار الصحابة، وجهة القياس- هما أكثر المكونات للرأي الفقهي بعد الأصول الثلاثة، وقد ظهرت بعد ذلك عدة أدلة، منها: عمل أهل المدينة، والمصلحة المرسلة، والاستحسان، وهذه الأدلة هي التي عرفت فيما بعد عند الأصوليين بالأدلة المختلف فيها، وهذا التعبير بأنها مختلف فيها لا بد أن نفقهه على أن الاختلاف لا يلزم أن يكون في التعيين، فقد يتفق العلماء على التعيين، كاتفاقهم في الجملة على الاعتداد بالقياس وبآثار الصحابة، مع أنه من المعلوم أن كثيراً من الكتب الأصولية تحكي مذاهب لا ترى القياس، وتحكي مذاهب لا ترى أقوال الصحابة، وليس معنى هذا أنه لا يوجد هذا الدليل الذي لم يقولوا به.
ولذلك فإن ابن حزم رحمه الله صرح بإبطال القياس، وابن حزم متأخر عن داود بن علي الظاهري رحمه الله إمام المذهب الظاهري، فـابن حزم رحمه الله أبطل القياس، ورد كثيراً من قياس الحنفية، وقياس الفقهاء من غير الحنفية، وإذا تعاملنا مع الأمور كمصطلحات فلنا أن نقول: إن من الأصوليين والمتقدمين أيضاً من يبطل القياس ومنهم من يقبله، ومنهم من يأخذ بأقوال الصحابة ومنهم من لا يأخذ بها، لكن إذا جئنا من حيث الواقع العلمي عند هؤلاء وجدنا أن ابن حزم قد استعمل بعض الصور التي هي وجه من القياس، وبنى بعض المحصلات التي هي وجه من القياس، وإن كان المصطلح لا يصدق عليها.
ومن هنا نعلم أن المصطلحات أحياناً تحكم حكاية الخلاف، فـابن حزم صرح بإبطال القياس كثيراً، مع أنه عند التطبيق لا ينفك أحياناً عما هو من القياس، هذا مع غلو ابن حزم في ترك القياس، فما بالك بأهل الحديث المتقدمين! صحيح أن هناك تجافياً عند المحدثين عن كثير من الرأي والقياس إلى آثار الصحابة، هذا أمر موجود، لكن إبطال القياس من حيث الماهية لم يوجد، كما أن إبطال آثار الصحابة وفقههم من حيث الماهية لم يوجد.
وأحياناً يذهب بعض الكوفيين إلى أن أقوال آحاد الصحابة ليست حجة، وأن الصحابة إذا اختلفوا فإن الاستدلال بأقوالهم ليس معتبراً، فإن هذا يصل إليه بعض الكوفيين، أما إبطال فقه الصحابة وآثارهم من كل وجه، أو إبطال القياس من كل وجه، فإن هذه صور حكمتها المصطلحات في كتب الأصول المتأخرة. فإذا قرأت الرسالة للإمام الشافعي رحمه الله وتأملت فيها؛ وجدت أن الشافعي كأنه قصد أن يكتب صيغة توافقية -ولا أقول: وسطية؛ حتى لا يفرض أن غيره ليس وسطاً- بين مذهب الكوفيين من الفقهاء ومذهب أهل الحديث؛ ولذلك تجد في الرسالة تأكيداً على الأثر والنص كثيراً، وأيضاً تجد فيها تأكيداً على الفقه، وعلى أوجه كثيرة من القياس، كما أن الشافعي تجافى عن بعض أوجه القياس فشدد في القياس، ولما تكلم عن الإجماع أحكم الإجماع بكلام، وانتقد بعض الصور التي تفرض على أنها إجماع؛ لكنه لم يتخلَّ عن الإجماع مطلقاً، ولم يتخلَّ عن القياس مطلقاً، كما أنه لم يلتزم بالآثار على حساب ترك القياس، وكأن الشافعي رحمه الله أراد أن يقول: لا يوجد هناك تمانع بين القياس وبين آثار الصحابة؛ بل هذا فقه معتبر، وهذا فقه معتبر، وهذا أمر بين فيما كتبه الشافعي في الرسالة، فكأنها طريقة توافقية بين طريقة الكوفيين من أهل الرأي وطريقة أهل الحديث.
ولاسيما أن الشافعي لاحظ -كما هو موجود في تاريخ بغداد وغيره- أن بعض أهل الحديث شددوا في ذم أهل الرأي، وبعض هذا الذم قد لا يكون محققاً، كما أن بعضه قد يكون محققاً حينما يكون الذم بمعنى الدعوة إلى التمسك بالنصوص، فإن هذه أمور لا بأس بها، وهي من العلم المقبول، لكن أحياناً يزيد الأمر على ذلك، فكأن الشافعي لم يكن راضياً عن بعض هذا الذم، وأراد أن يبين أن الأمر فيه قدر واسع من التقارب، ولهذا يعتبر أصل الذي كتبه الشافعي من أصدق الصيغ العلمية لدراسة فقه الشريعة، سواء ما كتبه في رسالته، أو في المحاورات التي تكلم فيها عن كثير من الفروع في رسالته أو في كتاب الأم، وأقول فيما كتب الشافعي ، وليس بالضرورة أن يكون ذلك في كل ما كتبه الشافعية من بعده ولاسيما المتأخرين منهم، فمن أراد أن يصطبغ بصبغة فقهية متميزة فليقرأ في تأسيسه الأم والرسالة للإمام الشافعي رحمه الله.
إذاً: هذا من حيث التعيين، أن هناك أدلة يختلفون في تعيينها، وأدلة يتفقون في تعيينها.
ذكرنا أن العلماء اتفقوا في الجملة على القياس، وسواء قيل: إن العلماء اتفقوا في الجملة على القياس، أو قيل: إن القائلين به هم الجمهور فقط؛ فإن هذا ليس هو مقصودنا الآن، إنما المقصود: أنهم لما عينوا القياس أو المعينون للقياس -لو فرضنا أنهم الجمهور فقط- يختلفون في درجة حجيته، فهم قد اتفقوا على حجيته لكنهم اختلفوا في درجة حجيته، وهذا الخلاف من أكثر المسببات للخلاف الفقهي. أن هناك آثار بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمفهومها الواسع، القياس بمفهومه الواسع، لما تأخذ القياس وآثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بمفهومها الواسع، وما سلكه بعض المحدثين من اعتبار آثار التابعين؛ لأن بعض المحدثين التزم حتى بآثار التابعين وقدمها على القياس أحياناً، وهذا قد لا يكون له ذلك التبرير في سائر الصور.. المهم وهذا الاختلاف بين قدماء الفقهاء في درجة الحجية بين هذين الأصلين هو الذي تولد عنه كثير من الخلاف أحياناً، هذا إذا كان الخلاف راجعاً إلى القياس أو إلى أقوال الصحابة. ولو رجعنا إلى كلام الإمام الشافعي رحمه الله لوجدنا أنه نظر إلى أن الإشكال الذي قد يتطور ليس أن هؤلاء يقدمون كثيراً من القياس على كثير من الآثار غير النبوية، أو أن هؤلاء يقدمون كثيراً من آثار الصحابة أو حتى بعض آثار التابعين على كثير من القياس، وفعلاً هذا ليس هو الإشكال، إنما الذي حاول الشافعي أن يطوقه هو فرض التمانع بين القياس وآثار الصحابة أو آثار التابعين، وهذا هو الذي تولد فيما بعد عند مدرسة المتأخرين من الأحناف -مثلاً- الذين زادوا في مسألة القياس زيادةً بينة، قد لا تكون هناك مدرسة فقهية انتظمت؛ لأن أكبر الممثلين لمذهب أهل الحديث هو الإمام أحمد كمذهب فقهي، ومع ذلك فإن المذهب انصبغ بالصبغة الفقهية، لكن ربما يوجد بعض الفروق بين بعض الصور التي جاءت في التاريخ أو في هذا العصر كأحوال لبعض أهل الحديث الذين أرادوا الاستمساك بالنصوص وبآثار الصحابة مباشرة، فصار هناك تباين بين المدرستين، ولذلك فإن ما قصده الإمام الشافعي قديماً ينبغي أن يكون مقصوداً للناس من أهل العلم والنظر والفقه اليوم، وهو أن فرض التمانع بين أقوال الصحابة والقياس ليس منهجاً حكيماً، والمنهج الذي درج عليه عامة السلف من المحدثين والفقهاء هو اعتبار القبول للقياس ولأقوال الصحابة.
لكن متى يقدم القياس على قول الصحابي، أو قول الصحابي على القياس؟ هذه مسألة ليست من المسائل الشائكة المشكلة، ولا بأس أن يقع فيها الخلاف؛ لأنه إذا رجعنا إلى آثار الصحابة أنفسهم وجدنا أن اختلاف الصحابة في الجملة يرجع إلى وجه من القياس، فهذا ألحق المسألة بوجه من القياس فرأى رأياً، والآخر ألحقها بوجه من القياس في الشريعة فرأى رأياً آخر، هذا إذا لم يُلتزم في مسألة القياس بالحد الأصولي المتأخر، ومن المعلوم أنه في المنطق يذكرون قياس الشمول وقياس التمثيل، فإذا أُخذ القياس بمفهومه الواسع فهو يؤثر في أكثر الخلاف حتى عند الصحابة أنفسهم، وإن كان مصطلح القياس لم يكن ظاهراً في ذلك الوقت.
-المعتبر الثالث: ثبوت الدليل: قد يكون الدليل معيناً، ودرجة الحجية ثابتة، لكنهم يختلفون في ثبوت الدليل، وهذا محله في الغالب النصوص النبوية، ولك أن تقول: إن محله في سائر الموارد هو الآثار؛ سواء كانت آثار النبي صلى الله عليه وسلم أو آثار الصحابة؛ لأنه من المعلوم أن القرآن قد انتهى أمره بحفظ الله سبحانه وتعالى له، فلا جدل في هذا المقام، أي: من حيث ثبوت القرآن، وإنما الخلاف في ثبوت الأحاديث، أو ثبوت بعض آثار الصحابة، أو ثبوت الإجماع، وهذا الاختلاف في ثبوت الدليل ينتج عنه أيضاً كثير من الخلاف.
وأكثر الأسباب التي ذكرها ابن تيمية هنا تتعلق بهذا المعتبر وهو: ثبوت الدليل.
ومن المعلوم أن المحدثين في باب الثبوت أكثر امتيازاً؛ لأنهم أهل علم بالسنن والآثار، بخلاف الفقهاء من أهل الكوفة، فإنهم لم يكونوا على درجة كبيرة من العلم بالنصوص والآثار، وقد اصطبغ هذا عند كثير من الفقهاء المتأخرين، حتى عند متأخري فقهاء الحنابلة والمالكية، مع أن الإمام أحمد والإمام مالكاً رحمهم الله كانوا من كبار المحدثين، هذا فضلاً عن الشافعية والحنفية، فقد قل العلم بالآثار، أي: من حيث الصحة والضعف، وأحياناً من حيث العلم، أي: عدم العلم ببعض الآثار والسنن، ومعلوم أن أبا حنيفة رضي الله عنه ورحمه كان قليل العلم بالحديث، أي: بطرق المحدثين، وليس معنى ذلك أنه لم يكن لديه علم أصلاً، فإن هذا أمر مستحيل، لكنه لم يكن واسع العلم بالحديث، ولم يكن من الحفاظ الكبار، وقد تكلم بعض المتقدمين كـالبخاري وغيره في حفظ أبي حنيفة بما هو معروف، لكنه كان فقيهاً، ومعه كثير من السنن التي أجرى فيها - مع القرآن وما معه من الأصول- فقهه المعروف.
وهنا ينبه إلى أنه من الحكمة أن ينتظم طالب العلم على فقه واحد، حتى لا تكون نتيجته الأخيرة فيها اضطراب، ولذلك نجد أن أهل الحديث انتظم فقههم، بغض النظر عن الراحج والمرجوح في هذه المرحلة.
( الحلقة الثالثة )
من الأسباب التي يقع بسببها الخلاف بين الفقهاء: جهة المدلول، أي: الدلالة المستفادة من الدليل، ومنها: جهة المستدل، وهو المجتهد أو الفقيه الذي ينظر في الأدلة ويستنبط منها الدلالة.الجهة الثانية: جهة المدلول
ويقصد بالمدلول: الدلالة، فالكتاب والسنة والإجماع، هذه جهة متعلقة بالدليل، لكن إذا جئنا لتحصيل المدلول من الدليل فإن هذا أيضاً ينتج عنه كثير من الخلاف.
وهناك ما عرف عند الأصوليين بأوجه الدلالات، ومن المعلوم أن في كتب الأصوليين -كالمستصفى لـأبي حامد الغزالي وغيره- نشراً واسعاً لأوجه الدلالات، ومنها مثلاً: دلالات المنطوق، ودلالات المفهوم، وما يتعلق بأقسامها، ومنها: ما يتعلق بدلالات النص والظاهر، ودلالات الإيماء، ودلالات الإشارة، والدلالات في التقسيم المنطقي العقلي الضروري تنقسم إلى: دلالة بينة، ودلالة لسيت بينة، ويدخل في الدلالة البينة دلالة النص والظاهر، ويدخل في عدم البينة ما يسميه أهل الأصول بدلالات الإيماء مثلاً، والدلالات البينة لم تكن محل خلاف عند قدماء الفقهاء، إنما اختلفوا في الدلالات التي هي في درجة بعد البينة.
وحينما نقول: إن الدلالات -كتقسيم عام- تنقسم إلى: دلالات بينة، ودلالات ليست بينة، والدلالات البينة لا يختلف فيها، والدلالات غير البينة يختلف فيها، فهنا أمران:
الأمر الأول: ما التزمه كثير من أهل الأصول في إعطاء مذهبية لحكم الدلالات هل هو التزام صحيح مطرد؟
نقول: إن بعضه -بل كثيراً منه- من حيث الالتزام ليس صحيحاً، فمثلاً: هل الأحناف يعملون بدلالة الإيماء والإشارة أم لا؟ وكذلك حينما يُفرض أن بعض المذاهب عملت بمفهوم المخالفة وبعض المذاهب لم تعمل به، فإن هذه الإطلاقات ليست نصوصاً ولا استقراء يمكن أن يشاهد -إن صح التعبير- مشاهدة بينة في فقه أبي حنيفة و الشافعي ، أو من قبل هؤلاء؛ بل هي محاولة في الاقتباس العلمي وصلوا بها إلى هذه النتائج.
ولذلك فلا أرى أن من الحكمة أن يلتزم طالب العلم تحت هذه المذهبيات في أنواع الدلالات؛ بل المعتبر العام هو بيان الدلالة، ومن المعلوم أن الصحابة والأئمة لم يكن عندهم هذا التقسيم، وهذا لا ينبغي أن يكون أمراً مشكلاً؛ لإنه اصطلاح، والاصطلاح لا مشاحة فيه، لكن بالقطع أن الدلالات منها ما هو بين ومنها ما ليس ببين، ولكن من هو الذي يعين أن هذه الدلالة بينة أو غير بينة؟ الحقيقة العلمية أن التعيين يقع بتقابل ذهن الفقيه مع الكلمة أو الجملة، والحالة التي عليها الفقيه -وهو المستدل- هي التي تحكم أن هذه الدلالة عنده بينة أو ليست بينة.
فمثلاً: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) فهل هذا من دلالة النص والظاهر، أم من دلالة أقل من ذلك كالإيماء والإشارة إلى وجوب غسل الجمعة؟ كثير من الفقهاء بل جماهير الفقهاء لا يرون فيه دلالة نص ولا ظاهر، ولا ربما أقل من ذلك؛ بل يرون أن الحديث لا يتكلم عن الوجوب بالمعنى الاصطلاحي، وقد يقول البعض: إن في الحديث دلالة صريحة، بل ربما قال: دلالة ظاهرة، والدلالة الصريحة والظاهرة معتبرة عند عامة أهل العلم، فيبدأ يرتب الحكم ترتيباً أصولياً، ويظن بعض طلاب العلم أنه قد حل المسألة بمعنى الكلمة؛ لأنه نظمها تحت مصطلحات -إن صح التعبير- بارقة، وهذا ليس ذماً لها، فإنها في حقيقتها مصطلحات بارقة. والذي نريد أن نصل إليه أن تعيين الدلالة لا يرتبط بالنص فقط، وهذا النص من حيث هو لا يعطي دلالة معينة؛ لأنه إذا أعطى دلالة معينة صار نصاً قطعياً، وهذا لا يختلف فيه، وما دام أن النص قد اختلف في دلالته فمعناه أن النص من حيث هو لم يصرح تصريحاً قطعياً بالدلالة، واختلاف التحصيل هنا يرجع إلى المستدل، وفقهه لهذه الدلالة. إذاً: مسألة دلالة الإيماء أو الإشارة ونحو ذلك هل هي حجة أو ليست بحجة؟ هذا طرف من الخلاف، وليس هو جوهر الخلاف؛ لأن الأهم منه هو: متى نقول عن هذه الدلالة في النص: إنها إيماء، أو إشارة، أو نص أو ظاهر؟ لا نستطيع أن نقول: إنها نص؛ إذ كيف نقول: إنها نص، والجماهير المتقدمون لم يعتبروها؟ مع أن الحديث لا نستطيع أن نقول: إنه لم يبلغهم؛ فهو حديث مشهور في كتبهم وسننهم ومسانيدهم، ومع ذلك لم يعتبروا دلالته على الوجوب.
ومسألة تعيين الدلالة وهل تفيد أو لا تفيد؟ هذه لا تندرج تحت مصطلحات معينة، فليس هناك رمز معين لدلالة الإيماء يتفق عليه، أو رمز معين لدلالة الإشارة يتفق عليه، حتى مسألة الصيغ حينما يقولون مثلاً: صيغ العموم ونحوها، هذه أحوال تقرِّب، لكن أحياناً يقف الفقيه متردداً في هل هذا العام عام محفوظ، أم أنه عام مخصوص، أم أنه عام أريد به الخصوص؟ ونحو ذلك، وهذه صور مبثوثة في كتب أصول الفقه.