هل كون المسألة مختلف فيها بين أهل العلم معناه جواز العمل بها
فكثير من البدع التي يفعلها أكثر المسلمين اليوم، قد قال بها بعض أهل العلم، فهل برأيك يصبح فعل البدعة أمرا مستحبا بمجرد أن فيها خلاف؟
ثم أعلم أخي الكريم وفقك الله لما يحبه ويرضاه: أن أكثر البدع لم تظهر في يوم وليلة، وإنما سقط أصحابها باستدراج النفس والهوى على ذلك فأصبحوا في كل مرة لهم جديد.
فباب البدع لا ينبغي أن يفتح، لأنه لن يتوقف عندها بل يتعدها إلى ما هو أعظم منها.
وكما بدأ الأمر بجواز وضع الجريد، إلى غرس الورود، إلى قراءة القرآن عند زيارة القبور، حتى وصل الأمر إلى جواز وضع المصاحف عند القبور !!!.
فالمسلم الكيس الفطن هو من يسد على أهل البدع والأهواء كل المنافذ، حتى لا يُدخِلوا في دين الله ما ليس منه، لأن البدعة تهدم الإسلام، فكلما فُعلت بدعة إلا وقضت على سنة، وكلما فعلت سنة إلا وقضت على بدعة.
ولكن للأسف كثير من الناس يجعل من خلاف العلماء في المسألة، سببا فيجوازها والعمل بها.
فهو لا يأخد بالأرجح والصواب، وإنما يجعل الخلاف سببا للجواز،لأنه موافق لمراده و هواه.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله (1):
<< ووقع فيما تقدم و تأخر من الزمان، الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم، لا بمعنى مراعاة الخلاف، فإن له نظرت آخر، بل في غير ذلك، فربما وقع الإفتاء في
المسألة بالمنع فيقال: لما تمنع والمسألة مختلف فيها؟
فيجعل الخلاف حجة في الجواز، لمجرد كونها مختلف فيها، لا دليل يدل على صحة مذهب الجواز، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع، وهو عين الخطإ على الشريعة، حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا، وما ليس بحجة حجة >>.
كما يفعل كثير في زماننا هذا ممن أدخل المصالح الشخصية أو الحزبية أو حتى القومية في الدين، فتراه يفعل كل ما بوسعه لتكثير سواد الناس عليه، ولو كان ذلك على حساب الدين.
فيجعل القول المرجوح هو الراجح لا لشيء، إلا لأنه هو الأقرب إلى إرضاء الناس.
ولو علم المسكين أنّ إرضاء الناس غاية لا تدرك، وأنّ ما كان لله على وارتفع، وأنّ ما كان لغيره وقع (2).
بل بعضهم من يحارب القول المخالف له، بلا حجة و لا برهان، وإنما حجته أن القول المخالف فيه حرج، أو أنّ الاختلاف رحمة، أو أنه يكفي أنّ فلان(وما أدرك ما فلان) قد قال به.
فهو يتبع الرخص ما أمكن، و كما قال بعض السلف:
<< من تتبع رخص العلماء هلك>>.
كل هذا، أملا منه أن يصبح ذلك جائزا، فهو يلوي الأدلة حتى توافق مراده وهواه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (3):
<< وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص و الإجماع، و دليل مستنبط من ذلك، تقرّر مقدماته بالأدلة الشرعية، لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية، ومن تربّى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه، وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء لا يفرق بين ما جاء عن الرسول و تلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الإيمان به، وبين ما قاله بعض العلماء وتعسر أو يتعذر إقامة الحجة عليه >>.
والصحيح أنّ دليلهم هو اتباع الهوى، فما وافق مذهبهم اخذوا به، وما خالفهم تركوه ولو كان هو الحق والصواب.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله (5) ، (عقب كلام للإمام الخطابي فيمن يجعل الخلاف حجة في الجواز):
<< والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، ويجعل القول الموافق حجة له، ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشرع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إله هواه.
ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الإختلاف رحمة للتوسع في الأقوال و عدم التحجير على قول واحد، ويحتج في ذلك بما روي < أنّ الإختلاف رحمة (6) >، أو بما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين، ويقول له : لقد حجرت واسعا، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من
حرج وما أشبه من ذلك >>.
فالصادق في طلبه لا يجعل الخلاف وسيلة يتقرب بها إلى ربه، ولكن يتحرى الراجح والصواب ما أمكن، لأن الخلاف مهما كان صغيرا أو كبيرا فهو شر، ولا يكون (الخلاف) رحمة أبدا، فكيف يجعله سببا إلى تجويز ما يريد،والله المستعان.
قال الشيخ الألباني رحمه الله (7) :
<< وإن من آثار هذا الحديث السيئة، أنّ كثير من المسلمين يقرون بسببه الإختلاف الشديد
الواقع بين المذاهب الأربعة، ولا يحاولون أبدا الرجوع بها إلى الكتاب والسنة الصحيحة، كما أمرهم بذلك أئمتهم رضي الله عنهم.........وبذلك فقد نسبوا إلى الشريعة التناقض، وهو وحده دليل على أنه ليس من الله عزّوجل، لو كانوا يتأملون قوله تعالى: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلاقا كثيرا}(8)، فالآية صريحة أن الاختلاف ليس من الله، فكيف يصح أذن جعله
شريعة متبعة ورحمة منزلة.
وبسبب هذا الحديث و نحوه ظل المسلمون بعد الأئمة الأربعة إلى اليوم مختلفين في كثير من المسائل الإعتقادية والعملية، ولو أنهم يرون الخلاف شر كما قال ابن مسعود وغيره رضي الله عنهم، و دلت الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الكثيرة، لسعو إلى الاتفاق، ولأمكنهم ذلك في أكثر المسائل، بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة التي يعرف بها الصواب من الخطإ، والحق من الباطل، ثم عذر بعضهم بعضا فيما قد يختلفون فيه (طبعا بعد التعذر بالقطع بوجه الحق في مسائل الخلاف) ........(إلى أن قال):.....وجملة القول: أنّ الاختلاف مذموم في الشريعة، فالواجب محاولة التخلص منه ما أمكن، لأنه من أسباب ضعف الأمةقال تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}(9) أما الرضى به، وتسميته رحمة، فخلاف الآيات الكريمة المصرحة بذمه، ولا مستند له إلا الحديث الذي لا أصل له عن رسول الله صلى الله عنه وسلم...>>.
فانظر يا رعاك الله نظرة العلماء إلى الخلاف، ونظرة أهل البدع إليه.
فأما العلماء فقالوا ينبغي القضاء عليه ما أمكن لأنه من أسباب ضعف الأمة، كيف لا، وهو يفرق شملها وينخر عظمها، والآخرون جعلوه رحمة، لأنه يبلغهم مقصدهم وهو تغير دين الله.
قال ابن حزم رحمه الله (10) (بعد إشارته إلى الحديث المذكور{اختلاف أمتي رحمة} أنه ليس بحديث:
<< وهذا من أفسد قول يكون، لأنه لو كان الاختلاف رحمة، لكان الاتفاق سخطا، وهذا ما لا يقوله مسلم، لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف، وليس إلا رحمة أو سخط >>.
فهل بعد كل هذا يقول قائل أنّ الاختلاف رحمة، أو أن يجعل منه وسيلة لرد الحق.
وكيف يرضى مسلم أن يعبد الله بعبادة مُختلف في صحتها، ويترك الدين الواضح وضوح الشمس.
أخشى أن يكون لمثل هؤلاء نصيب من قوله تعالى:
{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا }(11)، أو قوله عزّوجل:
{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعملا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحبون أنهم يحنون صنعا } (12) .
فالمؤمن الصادق هو الذي يفر من البدع والشبهات، ولا يأخذ دينه على أيّ كانورحم الله
الإمام ابن سرين لمّا قال :
<< إنّ هذا العلم دين، فانظروا على من تأخذوا دينكم >>.
** فعلى طالب الحق أن يجعل همه بيان الحق واتباعه، وهذا فيه إرضاءٌ للحق سبحانه، لا التعصب لأقوال الناس وترك الحق لإرضاء الشيخ أو الإمام !!
فوا الله لأن تكون على الحق خير لك من الدنيا وما فيها.فمن كان قصده اتباع الحق وُفق لاتباعه، ومن كان قصده اتباع هواهُ، أو هوى شيخه صعب عليه الثبات على الحق والدعوة إليه.
ولهذا تجد كثيرا منهم لا يجد دليلا يستدل به على صحة مذهب شيخه، ومع هذا يقلده ويتبعه، بل ويحارب الحق المخالف له.
قال الإمام العز ابن عبد السلام رحمه الله (13):
<< ومن العجب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعا، ومع هذا يقلده، ويترك الكتاب والسنة و الأقيسة الصحيحة لمذهبه، جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالا عن مقلده.......بل لما ألفه من تقليد إمامه، حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه.............. فالبحث معهم ضائع، مفض إلى التقاطع والتدابر، من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب غيره، بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز احدهم عن تمشية مذهب إمامه، قال لعلى إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولم أهتدي إليه >>.
قال الإمام الألباني رحمه الله في مقولته الشهيرة:
<< طالب الحق يكفيه دليل واحد، وطالب الهوى لا يكفيه ألف دليل >>.
جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
( اللهم رب جبريل و ميكائيل و إسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) ([1]4) .
_______________
(1): الموافقات ( 4/141).
(2): ولو بعد حين.
(3): مجموع الفتاوى (2/ 202 ـ 203).
(4): لأنهم ليس معهم دليل.
(5): الموافقات(4/141).
(6): حديث موضوع.
(7): السلسلة الضعيفة(1/86)، بعد أن قال في اللاتي قبلها أن: حديث { اختلاف أمتي رحمة} باطل مكذوب.
(8): سورة النساء الأية 82.
(9): سورة الأنفال الأية 46.
(10): أحكام في أصول الأحكام( 5/64).
(11): سورة الفرقان الأية 23.
(12): سورة الكهف الأية 99.
(13): قواعد الحكام في مصالح الأنام (2/135_136).
([1]4) صحيح : أخرجه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه رقم ( 770 ) 1 / 534 ، وأبو داوود في كتاب الصلاة باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء رقم ( 767 ) 1 / 487 ، والنسائي في كتاب قيام الليل باب بأي شيء يستفتح صلاة الليل رقم ( 1624 ) 3 / 234ـ 235 ، والترمذي في كتاب الدعوات باب ما جاء في الدعاء عند استفتاح الصلاة بالليل رقم ( 342 ) 5 / 451 ـ 452 ، وابن ماجة في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الليل رقم ( 1357 ) 1 / 431 ـ 432 ، و أحمد رقم ( 25266 ) 6 / 156 ، وابن حبان رقم ( 2600 ) 6 / 335 ـ 336 ، وأبو عوانة 2 / 304 ـ 305 ، وأبو نعيم في المسند المستخرج على صحيح مسلم رقم ( 1760 ) 2 / 367 ، والبغوي في شرح السنة رقم ( 952 ) 4 / 70 ـ 71 ، والحاكم رقم ( 1760) 2 / 367 ، والبيهقي في السنن الكبرى رقم ( 4444 ) 3 / 5 .
هنا