السبت، 5 مارس 2011

وصايا من الله للدعاة



( وصايا من الله للدعاة )

عناصر الموضوع :
1.   توجيهات للدعاة
2.   مع أساليب الدعوة إلى الله عند الأنبياء
3.   مراتب الدعوة إلى الله
4.   توجيهات قرآنية لعلاج الأمراض الاجتماعية

وصايا من الله للدعاة:

لقد وصى الله تعالى الناس عموماً والدعاة خصوصاً بواجب الدعوة إليه، وحثهم على استشعار المسئولية ببذل وسعهم في إيجاد الأساليب الناجحة للدعوة، ودلهم على اتباع أساليب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في ذلك، سواءً كان بالكلام أو بالقدوة والفعال.

توجيهات للدعاة:
 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ  [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً  [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً  [الأحزاب:70-71]. عباد الله! لقد أُنزل علينا القرآن الكريم لنتدبر ما فيه ونعمل بمقتضاه، وقد جاءت فيه توجيهات كثيرة في شتى فروع الحياة وأوديتها، وجاءت فيه مواعظ من ربنا لجلاء صدأ قلوبنا، وحمل نفوسنا على السير في الصراط المستقيم، وعدم الإعوجاج، ومن هذه التوجيهات: التوجيهات للدعاة إلى الله تعالى، والتوجيه للناس للقيام بواجب الدعوة إلى الله، وكلنا يجب أن نكون دعاة إلى الله. عباد الله: لقد فرطنا في هذا الواجب الشرعي.. واجب الدعوة إلى الله تعالى، وركنت نفوسنا إلى الدنيا، واشتغلنا بالملذات واتباع الشهوات، وكان الإعراض من الكثيرين عن العمل بالإسلام؛ فضلاً عن الدعوة إليه، والكل واجبات سنسأل عنها يوم القيامة:  وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ  [الزخرف:44] فتعالوا بنا نستعرض شيئاً مما ذكره ربنا عن الدعوة إلى الله، والأمر بها، وأساليبها، وكيفية القيام بها، وتحمل المسئولية واستشعار الواجب في هذا الموضوع الجليل، قال الله تعالى:  وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ  [الأعراف:164]. الاستقامة نصابها العلم والبصيرة، وزكاتها الدعوة والموعظة، والله أوجب علينا بقوله:  وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ  [آل عمران:104] أي: لتكونوا أنتم أمة، صفتها: أنهم يدعون إلى الخير، وعلى فرض أن هذا أمرٌ لبعض الأمة بالدعوة؛ فإنه واجب وفرض على الكفاية لا يسقط إلا في حال تحقق الكفاية، فهل تحققت الكفاية في عصرنا؟! وهل وجد من الدعاة من يغطي الحال؟! كلا. أيها المسلمون! لقد صار واجباً علينا جميعاً أن نكون دعاة إلى الله تعالى، وينبغي أن يتحمل المسلم ما يلاقي في سبيل تبليغ دعوة ربه، وأن يكون الدعاة إلى الله عدتهم الصبر، وعتادهم اليقين بنصر الله وبلوغ أمره (وليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار). الداعي إلى الله تعالى يحزن ويتحسر لمرأى جموع البشر تتخبط في دياجير الظلام؛ فيبادر ليجعل نفسه فتيلاً مشتعلاً في هذا الليل البهيم، والظلمة المدلهمة؛ راجياً الأجر من الله تعالى أولاً، وتنبيهاً للسائرين وإيقاظاً للنائمين ثانياً، ولذلك لما قال بعض بني إسرائيل للدعاة إلى الله منهم:  لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً  [الأعراف:164] أي: لا فائدة من دعوتهم لأنهم مصرون على الباطل والإثم، فلم تشتغلون بدعوتهم؟ فكان جواب الدعاة إلى الله:  مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ  [الأعراف:164] أي: إقامة الحجة والقيام بالأمر وتنفيذ التكليف، ثم:  وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ  [الأعراف:164] أي: لعلهم يهتدون، وحتى لا يفقد الداعية بصيص الأمل، ولا يفقد احتمال الهداية، ولا يفقد أن يوجد من المدعوين من يقبل الدعوة ولو بعد حين، وكلمةٌ على كلمة وبعد كلمة يحصل الأثر بإذن الله، والداعية في عمله لا يتفضل على الناس؛ بل يقوم بواجبه مشفقاً عليهم:  مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ  [الأعراف:164]. أيها المسلمون! إن الدعوة إلى الله تحتاج إلى رجال يتسللون إلى قلوب الناس، ويأسرونهم بحسن سمتهم وخلقهم، ويعرفونهم بالله، ويذكرونهم بأيام الله، ويعينونهم على أنفسهم وعلى الشيطان. 

إن تسهيل طريق الخير أمام الناس، وإزالة العوائق الموهومة، وتأليف قلوبهم، وإشعارهم بمحبة الخير لهم، وأن الداعي بعيد في دعوته لهم عن المصالح الشخصية أمرٌ مهم جداً، قال الله عز وجل:  وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ  [الشعراء:109] وعليه أن يفعل الأسباب المفضية والمؤدية إلى هداية الناس، ودلالتهم، ويقوم بالواجب بغير يأس ولا قنوط، فقد قام نوح بواجب الدعوة ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً، وما آمن معه إلا قليل، لكن ذلك لم يثنه عن الدعوة إلى الله تعالى. أيها المسلمون: إننا شهداء الله في الأرض، يجب أن نقوم بالحق، وقد قال الله تعالى -أيضاً- مبيناً المسئولية التي ينبغي على الدعاة إلى الله أن يقوموا بها، ولا يجعلوا لها فضول الأوقات، وإنما تكون لها الأوقات كلها، قال الله تعالى:  يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ  [مريم:12] أي: أن أخذ الكتاب يحتاج إلى مسئولية وشدة عزيمة وقوة شكيمة, ولا يطيق ذلك إلا من اختاره الله تعالى لأداء هذه المهمة. أيها المسلمون: إن كثيراً من الناس لا يأخذون الكتاب أصلاً، وأعداد يأخذون بعض ما في الكتاب ويكفرون ببعض، وبعضهم يأخذه على ضعفٍ وتراخٍ، والله يقول:  خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ  [الأعراف:171] فالمسألة تحتاج إلى تصميم وعزيمة، والمسالة تحتاج إلى حسن توجه وإلى نيةٍ خالصة حتى تحصل النتيجة.

مع أساليب الدعوة إلى الله عند الأنبياء:

 عباد الله: إن ربنا تعالى ذكر لنا أساليب متنوعة في دعوة الأقرباء والبعداء، ودعوة الأقوام عموماً، ولنأخذ أمثلة على دعوة الأقرباء:

 أسلوب إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه إلى التوحيد:

يقول الله تعالى:  وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً  [مريم:-45].

تأمل يا عبد الله! كيف ترقى وتوخى إبراهيم عليه السلام مسالك الدعوة والحكمة فيها والرفق واللين، والبعد عن التفضل والمنة والازدراء والتحقير والشدة والغلظة، وإنما عمد إلى التملق والتزلف؛ لكي يحاول التسلل إلى قلب خاوٍ، إنه قلب أبيه المشرك، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- معلقاً على هذه الآيات العظيمة: ابتدأ إبراهيم خطابه بذكر أبوته -أبوة أبيه- الدالة على توقيره -بدون كلمة توقير تستهل بها الخطاب أو كلمة احترام تنشئ بها الكلام وتستهله قد لا يفتح لك مطلقاً- ولم يسمه باسمه، ولم يقل: يا آزر، وإنما قال: يا أبتِ، ثم أخرج الكلام مخرج السؤال، فقال:  لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً  [مريم:42] ولم يعمد إلى أسلوب الأمر المباشر والنهي المباشر، فيقول مثلاً: لا تعبد الشيطان، أو لا تعبد ما لا يسمع، وإنما قال:  لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً  [مريم:42]، ثم قال:  يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ  [مريم:43] فلم يقل له: إنك جاهل لا علم عندك؛ بل عدل عن هذه العبارة إلى ألطف عبارة تدل على المعنى، فقال:  جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ  [مريم:43] ثم قال:  فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً  [مريم:43] مثلما قال موسى لفرعون:  وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ  [النازعات:19]، قال إبراهيم عليه السلام:  يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً  [مريم:45] فنسب الخوف إلى نفسه دون أبيه مثلما يفعل الشفيق الخائف على من يشفق عليه، وقال: "يمسك" والمس ألطف من غيره، ولم يقل: ينزل بك، أو يخسف بك، وإنما قال: يمسك، ثم نكَّر العذاب، فقال:  عَذَابٌ  ولم يقل: العذاب، ثم ذكر  الرَّحْمَنِ  ولم يقل الجبار ولا القهار تأليفاً له، واستجلاباً للإيمان بهذا الرحمن، واستشعاراً لرحمته، فأي خطاب ألين وألطف من هذا. ومع ذلك كله كان الرد قاسياً شديداً:  لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً  [مريم:46] ومع ذلك يجيء جواب إبراهيم جواباً تلين له الحجارة؛ لأنه لم يكن يدعو لحظ نفسه حتى يثور، ولم يكن يدعو لأجل أن يقابل بالإيجاب؛ ولذلك لم يثأر ولم ينتقم؛ بل قال:  سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً  [مريم:47].

أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة عمه أبي طالب إلى الإسلام:
وآية أخرى من كتاب الله تعالى في موضوع الدعوة إلى الله، يقول الله تعالى:  إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ  [القصص:56] هذه الآية التي درج بعض الناس على الاستشهاد بها إذا رآك تنصح إنساناً وتدعوه إلى الهدى؛ فسرعان ما يقول لك: دعه دعه؛ فإنك لا تهدي من أحببت، ولكن هذه الآية ليس المقصود بها إيقاف الدعاة عن العمل، أو أن يتحسر الدعاة ويقولون: لا فائدة، وإنما المقصود أن الله تعالى بيَّن فيها أن أحداً لا يملك أن يدخل الإسلام والإيمان في قلب شخص أبداً، ولكن الله هو الذي يهدي من يشاء، فيدخله في الإسلام بعنايته، فكأنه يقول لك: يا أيها الداعية! لا تغتر بعملك ولو أثمرت بعض مجهوداتك، ولا تظن أنك أنت الذي أدخلت الهداية إلى قلبه، ولا تغتر فإن الله هو الذي أدخل الهداية إلى قلبه. ثم فيها فائدة أخرى بخلاف تجنيب الداعية من الغرور، وهي تجنيب الداعية من اليأس والتوقف عن الدعوة بأن يقال له: لقد أديت ما عليك وأجرك قد ثبت، والرجل مصر على الباطل، ولا تستطيع أنت أن تهديه فانظر غيره، ولا تذهب نفسك عليه حسرات، ولا تأسفن عليه:  فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ  [الكهف:6] أي: مهلك نفسك أنهم لا يؤمنون، فهذه الآية نزلت تسلية وتسرية للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذهب إلى عمه أبي طالب يدعوه إلى الله تعالى، ولكن سبق القدر فيه، واختطفه من يده، واستمر على الكفر والعياذ بالله. والنبي - صلى الله عليه وسلم- يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله) فأبى أن يقول، فأنزل الله تعالى  إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ  [القصص:56] ومات أبو طالب الذي كان نصير الدعوة، والمدافع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمادح لأفكاره وآرائه ومعتقداته، وهو الذي كان ينصره ويحميه من أذى قريش، مات هذا الرجل في نهاية غير مرجوة أبداً، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرجو له لقاء هذه المجهودات-وهو عمه وأقرب الناس إليه- في أن يهتدي، ولكن الله أراد أن يعلم رسوله والمؤمنين درساً عظيماً، في أن الإنسان مهما بذل الأسباب؛ فإن الله إذا لم يشأ فلا يحدث المأمول أبداً، كما بين الله تعالى أن ميزان العقيدة هو الميزان الأول، وأن النسب لا ينفع القريب قريبه فيه أبداً، فيجعل الله يوم القيامة أبا طالب في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه، فليعلم الناس أن عليهم بذل الأسباب، والله يتكفل بالنتائج، والله معهم مقدر كل شيء، وأن الله إذا أراد هداية شخص فربما يهتدي بحلم من الأحلام أو مرض أو حادث، ولا يكون لأي داعية سبب في ذلك، وإذا أراد الله أن يضل شخصاً، واجتمع الناس كلهم على هدايته ما استطاعوا هدايته أبداً.

مراتب الدعوة إلى الله:
 ثم إن الله ذكر في كتابه مراتب الدعوة، فقال عز وجل:  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ  [النحل:125] وهذا أمر يقتضي الوجوب:  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  [النحل:125] فمن الناس من هو جاهل يحتاج إلى تعليم، والحكمة: هي القرآن والسنة، فنعلمه ما يجهل، ونبين له حكم الله تعالى، ونبين له ما في القرآن والسنة، ومن الناس من ربما يكون عنده علم لكن فيه غفلة وقسوة قلب فيحتاج إلى تليين، والتليين يكون بالوعظ؛ ولذلك ينتقل الداعية إلى المرحلة الثانية وهي الموعظة الحسنة، فإن بعض الناس يحتاجون إلى موعظة للهداية، وبعضهم يحتاجون إلى تعليم للهداية، فهذه سبيل أخرى ذكرها الله تعالى آمراً نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يعلم من يحتاج إلى تعليم، وأن يذكر من يحتاج إلى تذكير،وأن يجادل من عنده شبهة أو هوى بالتي هي أحسن. 

هذه المراتب العظيمة من تأملها وطبقها على الناس، عرف أن الله ذكر الدواء الناجع لكل نوع من أنواع المدعوين، النوع الذي يجهل ويقبل التعليم ولو عُلِّم لتبع، والنوع الذي عنده غفلة وتأخر فيدعى بالموعظة الحسنة، وهو الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب وهما من أعظم أنواع الوعظ، ثم هناك معاند جاحد يجادل بالتي هي أحسن؛ بالبرهان والحجة واللسان القويم، وربما يكون عند بعض الناس خلفيات ثقافية، أو معلومات مسبقة خاطئة، فيحتاجون إلى محاورة، ومجادلة لكشف زيف ما يعتقدونه، والرد على الشبهات التي يأتون بها. وقد حاور النبي -صلى الله عليه وسلم- وفد نصارى نجران لما جاءوه، ونزلت سورة آل عمران محاورة ومجادلة لأهل الكتاب، ولوفدهم الذين جاءوا من نجران ، وحاور النبي -صلى الله عليه وسلم- عدي بن حاتم وقد كان من زعماء النصارى، فحاوره بما هو موجود عنده في الكتاب، وبما يعلمه من دينه، وحاوره بأشياء، وأوقفه على أمور عجيبة، وسأل عمران فقال: (كم إلهاً تعبد؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء)، فسأله عن الإله الذي يعده للرغبة والرهبة، وعند نزول الملمات، وفي الأحوال الخطيرة وأي واحد هو من هذه الآلهة السبعة؟ فكانت نتيجة المحاورة أن قال: (إنه الذي في السماء) إذاً هو أولى بالعبادة. كما حاور عليه الصلاة والسلام أشخاصاً كثيرين. ولم يتوانَ صلى الله عليه وسلم في بذل أساليب الدعوة، سواء كان بالكلام، أو بالقدوة والفعال، كما ربط الأسير في المسجد ليسمع كلام الله وينظر أفعال المسلمين، وكيف يعيش المجتمع الإسلامي، وأرسل الرسائل إلى عظماء الأرض يدعوهم إلى الله. أيها المسلمون! حري بنا أن نتبع الأساليب الناجعة في الدعوة إلى الله، وألا نيأس من هداية الخلق، وأن نقوم بهذا الواجب الذي فرطنا فيه، فكم يوجد بيننا ممن لا يعلم شيئاً عن الإسلام؟! فتاة تقدم إليها أحد الخطاب، وهي ممن ينتسب إلى جمهور المسلمين، فحدثها عن الصلاة والحجاب؟ فقالت: أما الصلاة فلا أصلي، قال: لِمَ؟! قالت: لا أعرف كيفية الصلاة، قال: ما رأيت أناساً يصلون؟ قالت: نادراً، قال: ما تعلمت الصلاة في المدرسة؟ قالت: أدخلتني أمي مدرسة إنجليزية، فما علمونا الصلاة -وهي تعيش بين المسلمين- قال لها: المسألة بسيطة طهارة وصلاة، فقالت: الدنيا برد!! إذاً: ربما يوجد بين المسلمين من أبناء المسلمين من يجهل الدين بالكلية، ويوجد من ذهب إلى الكفار، ورجع وهو مغسول الدماغ، يستقبل صاحبه المبتعث في المطار، وقد كان يعرفه قبل الابتعاث إنساناًً مستقيماًَ أو مصلياً على الأقل، ولما رجع به من المطار بعد عناق واستقبال حار، كان وقت الصلاة قد حان؛ فأوقف السيارة بجانب أحد المساجد، وقال لصاحبه: ننزل، قال: ولِمَ؟ قال: لنصلي، قال: تغير علمك، لقد أصبحتُ نصرانياً، وأخرج الصليب من صدره فأراه إياه. إذاً يوجد -أيها الإخوة- مرتد يحتاج إلى دعوة، ويوجد من المسلمين جهلة بالإسلام، وخصوصاً العمالة الموجودة من بلادٍ إسلامية، ما علمناهم شيئاً أبداً، فانتهت عقودهم ومدة خدمتهم، ورجعوا إلى بلادهم ولم يستفيدوا شيئاً ألبتة، ويوجد كفار أصليون وغافلون من المسلمين يحتاجون إلى دعوة، وكل واحد من هؤلاء يحتاج إلى نوع خاص من الأساليب والوسائل. فهلاَّ تحركت الغيرة في قلوبنا، والقيام بالمسئولية، والخوف من السؤال يوم القيامة، والرغبة في الأجر، فإنك لا تدعو إلى خير إلاَّ وتؤجر عليه، وإذا عمل العامل بما نصحته فلك مثل أجره، ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما عليها. نسأل الله تعالى أن يجعلنا بدينه مستمسكين، ولسبيله من السالكين، ولهذا الإسلام من الحاملين والدعاة المناصرين، ونسأله تعالى أن يحيينا على الإسلام، وأن يميتنا على الإيمان،وأن يتقبلنا في عباده الصالحين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

توجيهات قرآنية لعلاج الأمراض الاجتماعية:

 الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الملك الحق المبين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي القيوم، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء، خلق فسوى، وقدر فهدى، سبحانه وتعالى، وأشهد أن محمداً رسول الله، الداعي إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وذهب إلى الله وذمته بريئة من كل مسئولية، فقد أدى ما عليه وبقي ما علينا نحن، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الدعاة من بعده وفي حياته، وعلى التابعين بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله! إن هذا القرآن الذي ذكرنا منه أمثلة في الدعوة إلى الله تعالى، وآيات في الحث عليها والترغيب؛ وبيان الوسائل والأساليب. إن في هذا القرآن عبراً، وأنا أذكر لكم أمثلةً قليلة مما يوجد في القرآن, وهو مجال التدبر والتفكر الذي طلبه الله منا.

 وقفات مع قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ...).
إن هذا القرآن يشتمل على توجيهات كثيرة جداً للدعاة وغير الدعاة، وفيه لطائف وحكم وأحكام، فتأمل مثلاً قول الله تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ  [التوبة:34-35]. إذاً: يحمى عليها بالمنافيخ وغيرها؛ مما يضاعف حرها، فإذا اشتد العذاب جاءت مرحلة الكي، فيكوى في جبهته وجنبه وظهره ويكون في هذه المواضع، لأنه كما قال العلماء: إذا جاءه الفقير السائل صعر بوجهه، ثم إذا أعاد السائل عليه ولاه جنبه، زيادة إعراض، فإذا ألح عليه، ولاه ظهره وأعرض، فلذلك جعل الكي في هذه المواضع الثلاثة: الوجه والجنب والظهر، الكي في هذه المواضع أشد على الإنسان من غيرها، والكي في الجنب والوجه والظهر هو الكي في الجهات الأربع: الأمام في الجبهة، والخلف في الظهر، واليمين والشمال في الجنبين، فجاءه الكي في المواضع التي هي فيها شدة، ثم التي حصل بها الاعراض، فجوزي على عمله، والجزاء من جنس العمل. تأمل قول الله تعالى :  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً  [مريم:59]. قال الله:  وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ  ، بمعنى أرادوها وصارت هي همهم، ولم يقل: إنهم تناولوا منها؛ لأن الشهوات منها ما يكون حلالاً، فتناول الشهوة الحلال مباح، لكن تأمل السر في قوله:  اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ  صارت متبوعاً، وقائداً وهم منقادون، صارت مطاعة وهم مطيعون  اتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ  وكم الذين يتبعون الشهوات في زماننا، أناس كثر جداً، جعلوا الشهوات هي مقصودهم، والغربيون عندهم مبدأ اللذة هي الهدف الكلي؛ لذلك فسعيهم للذة المال، والمتعة، والجنس، وغير ذلك من أنواع اللذات إلا لذة الإيمان واليقين، وكثير من المسلمين يتبعون الشهوات؛ فيأخذ المال من حرام وحلال من أجل شهوة المال، ويرتكب أسباب العلاقة المحرمة بالجنس الآخر اتباعاً للشهوات؛ ولذلك كثير من الأوقات تذهب في المعاكسات الهاتفية، والمواعيد المحرمة، وارتكاب الفواحش، واتباع مطلق للشهوات. أيها المسلمون: هاتان آيتان تعرضان شيئاً من الأمراض الاجتماعية الموجودة، كالبخل والشح واتباع الشهوات، وهذان المرضان جديران بأن يدقق الدعاة إلى الله تعالى فيهما؛ لأنهما أعظم ما أصيب به المجتمع، وهذان المرضان -فعلاً- بحاجة إلى دراسة وتقويم، ثم بحاجة إلى علاج، ويحتاج الذين وقعوا فيهما أن يرجعوا إلى الله تعالى، فهذان مرضان في المدعوين يحتاج الدعاة إلى التأني والتأمل، ومعرفة السبيل الناجع في المداواة، ويبقى السبيل هو التعليم والوعظ والجدال بالتي هي أحسن. ولكن الاهتداء إلى موضع الخلل يحتاج إلى تدبر وتأمل؛ ولذلك بعض الناس ربما يدعو لكن لا يعرف أي شيء يقصد في دعوته، وما هو الهدف الذي يوجه إليه وسائل دعوته، نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا الحكمة والخطاب الحسن، ونسأله عز وجل أن يهدي ضال المسلمين.

اللهم ردهم إلى الحق رداً جميلاً يا رب العالمين، اللهم افتح قلوبهم بنور من عندك، واسلك بهم سبيل النور، وأخرجهم من الظلمات إلى النور يا أرحم الراحمين، ويا رب العالمين. اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد والعناد، وانشر رحمتك على العباد،وارحمنا يوم المعاد، وارزقنا الثبات يوم التناد، اللهم إنا نسألك الرحمة والمغفرة لموتى المسلمين، اللهم ارحم موتانا،واشف مرضانا، اللهم إنا نسألك أن تثبتنا عند اللقاء، وأن تثبتنا على الصراط يا رب العالمين. اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد، اللهم آمنا في البلاد،وأصلح الأئمة ولاة العباد. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 

وصايا من الله للدعاة

فضيلة الشيخ محمد صالح المنجد



هنا