الثلاثاء، 4 يناير 2011

رفقاً أهل السنة بأهل السنة



بسم الله الرحمن الرحيم

ومرة أخرى: رفقاً أهل السنة بأهل السنة


الحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه

وبعد، فإن المشتغلين بالعلم الشرعي من أهل السنة والجماعة السائرين على ما كان عليه سلف الأمة هم أحوج في هذا العصر إلى التآلف والتناصح فيما بينهم، لاسيما وهم قلة قليلة بالنسبة للفرق والأحزاب المنحرفة عما كان عليه سلف الأمة، وقبل أكثر من عشر سنوات وفي أواخر زمن الشيخين الجليلين: شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين رحمهما الله اتجهت فئة قليلة جداً من أهل السنة إلى الاشتغال بالتحذير من بعض الأحزاب المخالفة لما كان عليه سلف الأمة، وهو عمل محمود ومشكور، ولكن المؤسف أنه بعد وفاة الشيخين اتجه بعض هذه الفئة إلى النيل من بعض إخوانهم من أهل السنة الداعين إلى التمسك بما كان عليه سلف الأمة من داخل البلاد وخارجها، وكان من حقهم عليهم أن يقبلوا إحسانهم ويشدوا أزرهم عليه ويسددوهم فيما حصل منهم من خطأ إذا ثبت أنه خطأ، ثم لا يشغلون أنفسهم بعمارة مجالسهم بذكرهم والتحذير منهم، بل يشتغلون بالعلم اطلاعاً وتعليماً ودعوة، وهذا هو المنهج القويم للصلاح والإصلاح الذي كان عليه شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز إمام أهل السنة والجماعة في هذا العصر رحمه الله، والمشتغلون بالعلم من أهل السنة في هذا العصر قليلون وهم بحاجة إلى الازدياد لا إلى التناقص وإلى التآلف لا إلى التقاطع، ويقال فيهم مثل ما قال النحويون: ((المصغَّر لا يصغَّر))، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (28/51): ((وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين تأليف القلوب واجتماع الكلمة وصلاح ذات البين؛ فإن الله تعالى يقول، ويقول: ، ويقول: ، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف وتنهى عن الفرقة والاختلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة؛ كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة)).

وقد كتبت في هذا الموضوع رسالة بعنوان: ((رفقاً أهل السنة بأهل السنة)) طبعت في عام 1424هـ، ثم في عام 1426هـ، ثم طبعت ضمن مجموع كتبي ورسائلي (6/281ـ327) في عام 1428هـ، أوردت فيها كثيراً من نصوص الكتاب والسنة وأقوال العلماء المحققين من أهل السنة، وقد اشتملت الرسالة بعد التقديم على الموضوعات التالية: نعمة النطق والبيان، حفظ اللسان من الكلام إلا في خير، الظنُّ والتجسُّس، الرِّفق واللِّين، موقف أهل السنَّة من العالم إذا أخطأ أنَّه يُعذر فلا يُبدَّع ولا يُهجَر، فتنة التجريح والهجر من بعض أهل السنَّة في هذا العصر وطريق السلامة منها، بدعة امتحان الناس بالأشخاص، التحذير من فتنة التجريح والتبديع من بعض أهل السنة في هذا العصر.

ومما يؤسف له أنه حصل أخيراً زيادة الطين بلة بتوجيه السهام لبعض أهل السنة تجريحاً وتبديعاً وما تبع ذلك من تهاجر، فتتكرر الأسئلة: ما رأيك في فلان بدَّعه فلان؟ وهل أقرأ الكتاب الفلاني لفلان الذي بدَّعة فلان؟ ويقول بعض صغار الطلبة لأمثالهم: ما موقفك من فلان الذي بدَّعه فلان؟ ولابد أن يكون لك موقف منه وإلا تركناك!!! ويزداد الأمر سوءاً أن يحصل شيء من ذلك في بعض البلاد الأوربية ونحوها التي فيها الطلاب من أهل السنة بضاعتهم مزجاة وهم بحاجة شديدة إلى تحصيل العلم النافع والسلامة من فتنة التهاجر بسبب التقليد في التجريح، وهذا المنهج شبيه بطريقة الإخوان المسلمين الذين قال عنها مؤسس حزبهم: ((فدعوتُكم أحقُّ أن يأتيها الناس ولا تأتي أحداً ... إذ هي جِماعُ كلِّ خير، وغيرها لا يسلم من النقص!!)). (مذكرات الدعوة والداعية ص 232، ط. دار الشهاب) للشيخ حسن البنا، وقال: ((وموقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ففرَّقت القلوبَ وبلبلت الأفكار، أن نزنها بميزان دعوتنا، فما وافقها فمرحباً به، وما خالفها فنحن براء منه!!!)) (مجموعة رسائل حسن البنا ص 240، ط. دار الدعوة سنة 1411هـ)، ومن الخير لهؤلاء الطلاب ـ بدلاً من الاشتغال بهذه الفتنة ـ أن يشتغلوا بقراءة الكتب المفيدة لأهل السنة لاسيما كتب العلماء المعاصرين كفتاوى شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز وفتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء ومؤلفات الشيخ ابن عثيمين وغير ذلك، فإنهم بذلك يحصِّلون علماً نافعاً ويسلمون من القيل والقال وأكل لحوم بعض إخوانهم من أهل السنة، قال ابن القيم في الجواب الكافي (ص203): ((ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنى والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يُرى الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً ينزل بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورع عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول)).

وإذا وُجد لأحد من أهل السنة كلام مجمل وكلام مفصَّل فالذي ينبغي إحسان الظن به وحمل مجمله على مفصله؛ لقول عمر رضي الله عنه: ((ولا تظننَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً)) ذكره ابن كثير في تفسير سورة الحجرات، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على البكري (ص324): ((ومعلوم أن مفسر كلام المتكلم يقضي على مجمله، وصريحه يُقدَّم على كنايته))، وقال في الصارم المسلول (2/512): ((وأَخْذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم وما تقتضيه أصولهم يجرُّ إلى مذاهب قبيحة))، وقال في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4/44): ((فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتُعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به)).

والناقدون والمنقودون لا عصمة لهم ولا يسلم أحد منهم من نقص أو خطأ، والبحث عن الكمال مطلوب، لكن لا يُزهَد فيما دونه من الخير ويُهدر، فلا يقال: إما كمال وإلا ضياع، أو إما نور تام وإما ظلام، بل يحافظ على النور الناقص ويُسعى لزيادته وإذا لم يحصل سراجان أو أكثر فسراج واحد خير من الظلام، ورحم الله شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز الذي وقف حياته للعلم الشرعي تعلماً وعملاً وتعليماً ودعوةً وكان معنياً بتشجيع المشايخ وطلبة العلم على التعليم والدعوة، وقد سمعته يوصي أحد المشايخ بذلك، فاعتذر بعذر لم يرتضه الشيخ، فقال رحمه الله: ((العمش ولا العمى))، والمعنى: ما لا يُدرك كله لا يترك بعضه، وإذا لم يوجد البصر القوي ووُجد بصر ضعيف وهو العمش فإن العمش خير من العمى، وقد فقد شيخنا رحمه الله بصره في العشرين من عمره ولكن الله عوضه عنه نوراً في البصيرة اشتهر به عند الخاص والعام، وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (10/364): ((فإذا لم يحصل النور الصافي بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف وإلا بقي الناس في الظلمة، فلا ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة إلا إذا حصل نور لا ظلمة فيه، وإلا فكم ممن عدل عن ذلك يخرج عن النور بالكلية))، ويشبه هذا مقولة بعض الناس: ((الحق كلٌّ لا يتجزأ فخذوه كله أو دعوه كله))، فإنَّ أخْذه كله حق وتركه كله باطل، ومن كان عنده شيء من الحق يوصى بالإبقاء عليه والسعي لتحصيل ما ليس عنده من الحق.

والهجر المحمود هو ما يترتب عليه مصلحة وليس الذي يترتب عليه مفسدة، قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (28/173): ((ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة))، وقال أيضاً (28/206): ((وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر)) إلى أن قال: ((إذا عُرف هذا، فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صواباً، فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به كان خارجا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله)).

وقد ذكر أهل العلم أن العالم إذا أخطأ لا يتابَع على خطئه ولا يُتبرأ منه وأنه يُغتفر خطؤه في كثير صوابه، ومن ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/349) بعد كلام سبق: ((ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة الإسلام، يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة، بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرق جماعة المسلمين...))، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/39): ((ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قُمنا عليه وبدَّعناه وهجَرناه، لَمَا سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحقِّ، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة))، وقال أيضاً (14/376): ((ولو أنَّ كلَّ من أخطأ في اجتهاده ـ مع صحَّة إيمانه وتوخِّيه لاتباع الحقِّ ـ أهدرناه وبدَّعناه، لقلَّ مَن يسلم من الأئمَّة معنا، رحم الله الجميعَ بمنِّه وكرمه))، وذكر ابن الجوزي أن من التجريح ما يكون الباعث عليه الهوى، قال في كتابه صيد الخاطر (ص143): ((لقيت مشايخ أحوالهم مختلفة يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه وإن كان غيره أعلم منه، ولقد لقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة ويخرجونها مخرج جرح وتعديل ... ولقد لقيت عبد الوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف ولم يُسمع في مجلسه غيبة...))، وقال في كتابه تلبيس إبليس (2/689): ((ومن تلبيس إبليس على أصحاب الحديث قدح بعضهم في بعض طلباً للتشفي، ويُخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي استعمله قدماء هذه الأمة للذب عن الشرع، والله أعلم بالمقاصد))، وإذا كان هذا في زمن ابن الجوزي المتوفى سنة (597هـ) وما قاربه فكيف بأهل القرن الخامس عشر؟!

وقد صدر أخيراً رسالة قيمة بعنوان: ((الإبانة عن كيفية التعامل مع الخلاف بين أهل السنة والجماعة)) تأليف الشيخ محمد بن عبد الله الإمام من اليمن وقد قرَّظها خمسة من مشايخ اليمن، وقد اشتملت على نقول كثيرة عن علماء أهل السنة قديماً وحديثاً، ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمهما الله، وهي نصيحة لأهل السنة لإحسان التعامل فيما بينهم، وقد اطلعت على كثير من مباحث هذه الرسالة واستفدت منها الدلالة على مواضع بعض النقول التي أوردتها في هذه الكلمة عن الإمامين ابن تيمية وابن القيم، فأنا أوصي بقراءتها والاستفادة منها، وما أحسن ما قاله في هذه الرسالة (ص170): ((وقد يجرِّح المعتبرُ بعضَ أهل السنة فتنشب فتن الهجر والتمزيق والمضاربات، وقد ينشب القتال بين أهل السنة أنفسهم، فعند حصول شيء من هذا يعلم أن الجرح قد أدى إلى الفتن، فالواجب إعادة النظر في طريقة التجريح والنظر في المصالح والمفاسد، وفيما تدوم به الأخوة وتحفظ به الدعوة وتعالج به الأخطاء، ولا يصلح الإصرار على طريقة في الجرح ظهر فيها الضرر)).

وما من شك أن المشايخ وطلبة العلم الآخرين من أهل السنة يشعرون بما شعر به هؤلاء الإخوة اليمنيون ويتألمون لهذه الفُرقة والاختلاف ويرغبون تقديم النصح لإخوانهم وقد سبق إليه الإخوة اليمنيون فجزاهم الله خيراً، ولعل لهذه النصيحة نصيباً من قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان يمان والحكمة يمانية)) رواه البخاري (3499) ومسلم (188)، والمأمول أن تكون هذه النصيحة من الإخوة اليمنيين محققة للغرض من كتابتها ونشرها، ولا أظن أن أحداً من أهل السنة يؤيد هذا النوع من التجريح والاهتمام بالمتابعة عليه وهو الذي لا يثمر إلا العداوة والبغضاء بين أهل السنة وغِلظ القلوب وقسوتها.

ولا ينتهي عجب العاقل أنه في الوقت الذي يسعى فيه التغريبيون للإفساد في بلاد الحرمين بعد إصلاحها، ولاسيما الكارثة الأخلاقية في منتداهم في جدة الذي سموه زوراً: ((منتدى خديجة بنت خويلد)) والذي كتبت عنه كلمة بعنوان: ((لا يليق اتخاذ اسم خديجة بنت خويلد عنواناً لانفلات النساء))، أقول: في هذا الوقت يكون بعض أهل السنة منشغلين بنيل بعضهم من بعض والتحذير منهم.

وأسأل الله عز وجل أن يوفق أهل السنة في كل مكان للتمسك بالسنة والتآلف فيما بينهم والتعاون على البر والتقوى ونبذ كل ما يكون فيه فُرقة أو خلاف بينهم، وأسأله تعالى أن يوفق المسلمين جميعاً للفقه في الدين والثبات على الحق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله صحبه.

16/1/1432هـ،

عبد المحسن بن حمد العباد البدر


منقول 

هنا