اعلم رحمني الله وإياك أن الدنيا دار بلاء وفتنة
اعلم رحمني الله وإياك أن الدنيا دار بلاء وفتنة، لا تثبت على قدم ولا يدوم لها حال، ولا يطمئن لها بال، ومن عرف الدنيا حق المعرفة لم يفرح فيها برخاء ولم يحزن على بلوى.
قال ابن القيم رحمه الله:
"إذا ابتلى الله عبده بشىء من أنواع البلايا والمحن، فإن ردّه ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به، والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجل عوض وأفضله، وهو رجوعه الى الله بعد أن كان معرضا، وللوقوف على أبواب غيره متعرضا، وكانت البلية في حق هذا عين النعمة وإن ساءته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه، فربما كان مكروه النفوس أن محبوبها سبب ما مثله سبب، وقوله تعالى فى ذلك هو الشفاء والعصمة: {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}، وإن لم يرده ذلك البلاء إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشرّ به فهذا إذا أقلع عنه البلاء ردّه إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء، فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل".
وبالابتلاء يعلم العبد أنه لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين، فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه وأرضه عن مكانهم، وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه عبده ورسوله:{ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا}.
فكلنا ضعيف، ولولا فضل الله جل وعلا على عباده ورحمته بهم لما قويت قلوبهم على ثقل الحمل، مع ما يمر لهم عليهم في هذه الدنيا من أصناف الهموم والمنغصات.
فلا تستطيل البلاء فلعله أن يكون سبباً لك في الخير إذا ما اقترن بصدق التوبة واللجوء إلى الله، وتأمل كم سيعيش المرء في هذه الدنيا وماذا يأمل؟
إن الدنيا طويلها قصير، وكثيرها حقير، ومتأمل السعادة فيها إنما يعيش في غرور، فمن نجا من البلاء ومن سلم من الابتلاء..؟، ولكن السعيد من لجأ الى ربه وخالقه عند حلول الابتلاء ووقوع النقم.
قال ابن القيم رحمه الله:
"إذا أراد الله بعبده خيرا فتح له أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به، وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون السيئة به سبب رحمته حتى يقول عدوّ الله ياليتني تركته ولم أوقعه، وهذا قول بعض السلف: "إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار. قالو: كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه خائفا منه مشفقا وجلا باكيا نادما مستحيا من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه منكسر القلب له، فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخول الجنة، ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه شيئا ويعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت، فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه".
فإذا أراد الله بهذا المسكين خيرا ابتلاه بأمر يكسره به ويذلّ به عنقه ويصغر به نفسه عنده، وإذا أراد به غير ذلك خلاّه وعجبه وكبره، وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه، فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق هو ألا يكلك الله إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله إلى نفسك.
فمن أراد الله به خيرا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانه، ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده.
فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين، لايمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فارقه واحد منهما فهو كالطير الذى فقد أحد جناحيه، قال شيخ الاسلام: "العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس، فمشاهدة المنة توجب له المحبة والشكر لولى النعمة، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت، وألا يرى نفسه إلا مفلساً".
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وأن يرزقنا من اليقين ما يهون به علينا مصائب الدنيا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.