حديثٌ طالما في النفس منه أشياء, وقد تراجع العلامة الألباني عن تصحيحه فجزاه الله خيراً.......
بسم الله الرحمن الرحيم
في درس من دروس شيخنا عبد المحسن العباد البدر-حفظه الله- وذلك قبل سنتين أو ثلاث تقريباً في شرحه لجامع الترمذي.
سُئِل الشيخ سؤالاً –كما يقال يطرحُ نفسه- عن حديثٍ مشهورٍ بين الخاصة والعامة, ويستدلُ به بعض أهل الأهواء على مقصدٍ غير صحيحٍ ألا وهو (((جواز الكذب في مصلحة الدعوة!))) وعلى إثرها قاعدتهم الهزيلة (((الغاية تبرر الوسيلة!))) والحزبيون أكثر من يرددها! ولقد سمعت شريطاً لأحدهم وهو يُقَعِّد لهذا المسلك الخطير, على حديثٍ لا يصح, وللأسف!.
ومن المعلوم أن علم الحديث في وادٍ وهم في وادٍ آخر وفاقد الشيء لا يعطيه!
وهذا الحديث هو:
من حديث عَبْدُ الرَّزَّاقِ, عن مَعْمَرٌ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: (كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ, قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ, فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ, فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى, فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا, فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- فَقَالَ: إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ قَالَ نَعَمْ.
قَالَ أَنَسٌ: فكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ, فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا, غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا. فَلَمَّا مَضَتْ الثلاث لَيَالٍي, وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ, قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! إِنِّي لَمْ يَكـُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلا هَجْرةٌ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَاتٍ:
((يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاثَ مِرَات, فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ؟ فَأَقْتَدِيَ بِهِ, فَلَمْ أَرَكَ عملتَ كبيرَ عَمَلٍ, فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ قَالَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ, غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا, وَلا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ).
هل تعلمون ما هو جوابُ شيخنا لما قُرأ عليه؟ بادر الشيخ بالاستنكار للحديث, وكأنه لأول مرة يسمعه, وقال كيف أن صحابي يفعل مثل هذا؟! قال الشيخ لا أظن مثل هذا يصح عنه.
فقلت لشيخنا: قد صحح الشيخ الألباني-رحمه الله- هذا الحديث, فأتيت به في اليوم التالي, فقُرء على شيخنا ولازلتُ أرى الاستنكار على وجهه!-حفظه الله- فبحثتُ أخرى عن الحديث فوجدتُ أن الشيخَ الألباني-رحمه الله- قد تراجع عن تصحيحه إلى تضعيفه! وبيًّن ذلك في ضعيف الترغيب والترهيب قائلاً:
" أخرجه عبد الرزاق في المصنف, ومن طريقه جماعة منهم أحمد: قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخبرني أنس بن مالك. وهذا إسناد ظاهر الصحة, وعليه جرى المؤلف والعراقي وجرينا على ذلك برهة من الزمن, حتى تبينت العلة, فقال البيهقي في الشعب عقبه: ورواه ابن المبارك عن معمر, فقال: عن معمر عن الزهري عن أنس. ورواه شعيب بن أبي حمزة عن الزهري, قال: حدثني من لا أتهم عن أنس.., وكذلك رواه عقيل بن خالد عن الزهري
ولذلك قال الحافظ عقبه في النكت الظراف على الأطراف: فقد ظهر أنه معلول". [ضعيف الترغيب والترهيب (2/245-247)].
فلما أخبرت شيخنا بهذا التراجع فرح بذلك واستبشر, وقال: هذا الذي ينبغي أن يكون, والصحابة أرفع من ذلك.
قلت: وهناك نكارة في متنه وهي ما يلي:
الأولى: أن هذا الذي الصق بهذا الصحابي هو كذبٌ محض لا تورية فيه؛ وهو إخبار بشيءٍ على خلاف الحقيقة!, وحاشا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقعوا في مثل هذا, أو أقل من ذلك.
فالغاية لا تبرر الوسيلة عندهم, ومن المعلوم عند أهل العلم أن " الوسائل لها أحكام المقاصد"
[القواعد السعدية (ص39) القاعدة الثانية].
فما بني على حرام فهو حرام وما من جسد نبت من سحت فالنار أولى به. وكلام العلماء في هذه القاعدة معروف فليرجع له.
ولذا فقد استنكر هذه القصة العلامة محمد تقي الدين الهلالي-رحمه الله- قائلاً: " ولكن عندنا هنا إشكالاً في ادعاء عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنه خاصم أباه فغضب عليه, واتخذ ذلك وسيلة إلى أن يكون ضيفاً عند الأنصاري ليراقب عمله بالليل من صلاة, وقراءة قرآن ودعاء, فهل كان جائزاً أن يتذرع المرء بالكذب البحت,ليتوصل إلى خير, وهو ما يسمونه في لغة أهل هذا الزمان المأخوذة من اللغات الأجنبية!: (الغاية تسوغ الواسطة!), والذي نفهمه من أدلة الكتاب والسنة أن الكذب في مثل هذا لا يجوز, فهي هفوة ارتكبها هذا الصحابي الناشئ,حرصاً منه على الخير..." [تقويم اللسانين, للعلامة محمد تقي الدين الهلالي (ص83)].
ولو قيل إن هذا قياس على قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها, و والكذب في الحرب, والكذب ليصلح بين الناس).
فإن هذا ليس مما يجوز القياس عليه, وهو قياسٌ مع الفارق, لأن في ذلك نص يمنع القياس وهو استثناؤه -صلى الله عليه وسلم- بعد عموم تحريم الكذب, ومثل ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسله-(كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى, قالوا: من أبى يا رسول الله؟! قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى), فلا يستثنى من بعد استثناءٍ شيئاً.
وأيضاً فإن جمهور العلماء على أن المقصود بالكذب في الحديث هو التعريض كما فعل إبراهيم -عليه السلام- وعدهن ثلاث كذبات وهي من باب التورية واستعمال المعاريض, وكما فعل يوسف -عليه السلام-.
وقد نصَّ على ذلك العلماء منهم النووي وابن حجر وابن بطال وابن رجب وغيرهم.
الثانية: قوله (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ).
وهذا مستبعدٌ عن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- الذين عدلهم الله تعالى من فوق سبع سماوات, أنهم لا يطيقون ذلك!.
قال تعالى عنهم:
﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحشر:8).
وهذه في حق المهاجرين, وفي حق الأنصار قال الله تعالى:﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر:9).
قال الحسن البصري-رحمه الله-: "﴿وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً﴾ يعني: الحسد".
[تفسير القرآن العظيم, لابن كثير (8/69)].
ولا شك أن المهاجرين أفضل من الأنصار كما قرره علماء السنة؛ لجمعهم بين النصرة والهجرة, فلهم زيادة فضل.
قال ابن جرير الطبري-رحمه الله- وذكر بإسناده إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " وسلامٌ على عباده الذين اصطفى" أي: أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- اصطفاهم الله لنبيه".
جامع البيان (20/2), وانظر: لوامع الأنوار, للسفاريني (2/384).
قال العلامة ابن كثير في وصفهم -رضي الله عنهم-: " فالصحابة -رضي الله عنهم- خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم وقال مالك -رحمه الله-: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة -رضي الله عنهم- الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة...إلى أن قال: ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ قال: فكذلك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع".
تفسير القرآن العظيم (4/173-174).
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن توفقنا لكل خير وأن تجنبنا كل شر, كما نسأله تعالى أن يرضى عن الصحابة الكرام وأن يحشرنا في زمرتهم مع سيد المرسلين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.