الأربعاء، 14 سبتمبر 2011

مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ


قال الترمذي في سننه

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، قَالُوا :
حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ ،عَنْ إِسْمَعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمَاعَةَ ،
عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ،عَنْ قُرَّةَ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ
" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ
"

سنن الترمذي / تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني-رحمه
الله-/ 34 - كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم /
باب : 11 / حديث رقم : 2317 / التحقيق : صحيح
هنا
ومكتبة الشيخ الألباني الإلكترونية
والدرر السنية



شرح حديث
(
مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)
رواية ودراية للعلامة الخضير

الشيخ/ عبد الكريم الخضير
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فسنة النبي -عليه الصلاة والسلام- مصدر، بل المصدر الثاني من حيث قوة الثبوت، وإن كانت في لزومها للمكلفين والتزام المكلفين بما دلت عليه بمنـزلة القرآن؛ لأنها وحي كالقرآن، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وسنته بياناً لما جاء في كتاب الله -جل وعلا-، فهي حجة ملزمة لمن يقتدي به ويأتسي-عليه الصلاة والسلام-، ولم يقل بخلاف ذلك أحد ممن يعتد بقوله من أهل العلم بل كلهم مجمعون على أن هذه السنة أصل مستقل، وإن كانت بياناً لما جاء في كتاب الله -جل وعلا- ففيها من الأحكام ما لا يوجد في القرآن، وإن جاء في القرآن ما يشير إليه ويشمله بعمومه، فقد جاء مبيناً مفصلاً في كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- وفي فعله، فجاء فعله بياناً لما أجمل في كتاب الله، وكذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- وأحاديثه -عليه الصلاة والسلام- متنوعة، فمنها ما جاء تفسيراً للقرآن، ومنها ما جاء بياناً لما يلزم اعتقاده في الله -جل وعلا- وما يجب له، ومنها ما جاء في بيان الأحكام والآداب وغيرها من أبواب الدين، ومنها الأحاديث الجوامع التي تشمل جميع أبواب الدين، أو جل أبوابه، من هذه الأحاديث الجوامع ما أودعه الإمام الحافظ النووي -رحمه الله تعالى- في كتابه الأربعين وما زاده الحافظ ابن رجب عليها.
الكلام على سند الحديث:
فمن هذه الأحاديث ما أشير إليه في المقدمة، وهو ما رواه أبو عيسى الترمذي وابن ماجة في كتابيهما من رواية الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن بن حيويل عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) وقال عنه الترمذي: حديث غريب، والغالب أن ما يحكم عليه الترمذي بهذا الحكم مجرداً عن الحكم بالصحة والحسن الغالب عليه الضعف، لكن حسنه النووي -رحمه الله تعالى-.
وقال ابن رجب: حسنه المصنف -رحمه الله تعالى– يعني النووي– لأن رجال إسناده ثقات، رجال إسناده ثقات، قرة بن عبد الرحمن بن حيويل مختلف فيه، وثقه قوم وضعفه آخرون، وقال ابن عبد البر: هذا الحديث محفوظ عن الزهري، بهذا الإسناد من رواية الثقات، وهو موافق لتحسين النووي له، بل كلام ابن عبد البر أقوى من كلام النووي.
يقول: هذا الحديث محفوظاً عن الزهري بهذا الإسناد، عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، موصولاً مرفوعاً إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، لكن قال ابن رجب: وأما أكثر الأئمة فقالوا: ليس هو بمحفوظ بهذا الإسناد، الإمام الحافظ إمام أهل المغرب ابن عبد البر يقول: محفوظ بهذا الإسناد عن الزهري، وابن رجب وهو من الأئمة المطلعين أهل الخبرة والنقد يقول: وأما أكثر الأئمة فقالوا: ليس هو بمحفوظ بهذا الإسناد، وإنما هو محفوظ عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً، كذلك رواه الثقات عن الزهري منهم مالك في الموطأ، ويونس ومعمر وإبراهيم بن سعد إلا أنه قال: ((من إيمان المرء تركه ما لا يعنيه)) عندنا تحسين النووي وقول الإمام الحافظ أبي عمر ابن عبد البر، أنه محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات، يقابل هذا حكم الترمذي على الحديث بأنه غريب، وعرفنا أنه غالباً ما يحكم على الحديث الضعيف بهذا، إذا جرد ذلك عن الحكم بالصحة والحسن، عندنا تحسين النووي وشهادة ابن عبد البر للحديث بأنه محفوظ عن الثقات بهذا الإسناد، يعني موصولاً.
وقول الحافظ ابن رجب أن أكثر الأئمة قالوا: ليس هو بمحفوظ بهذا الإسناد -يعني بإسناد متصل- وإنما محفوظ عن الزهري عن علي بن الحسين مرسلاً، يقول: كذلك رواه الثقات عن الزهري منهم مالك في الموطأ، ومالك في الموطأ -رحمه الله تعالى- كثيراً ما يعمد على الإرسال، وإن كان الحديث محفوظاً متصلاً بل قد يكون في الصحيحين متصل والإمام مالك -رحمه الله- يسوقه مرسلاً؛ لأن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- لا فرق عنده بين المرسل والمتصل، هو يعمد إلى الطرق المرسلة ويترك -رحمه الله تعالى- الطرق الموصولة؛ لأن المرسل عنده حجة كالمتصل، فكون الإمام مالك يخرجه مرسلاً لا يقدح في الحديث؛ لأنه كثيراً ما يعمد إلى الأحاديث المتصلة فيسوقها من الطرق المرسلة؛ لأنه لا فرق عنده بين المرسل والمتصل، وهو يحتج بالمرسل –كما هو معروف في مذهبه– وأشار إلى ذلك جميع أصحابه، وكذلك ممن يعمل بالمرسل الإمام أبو حنيفة.

    
                         واحتج مالك كذا النعمان     ***                          به وتابعوهما ودانوا
لكن المرسل في قول أكثر أهل العلم ضعيف، فهل نرد على ابن البر الذي يقول: أنه محفوظ بالسند المتصل لكون مالك أخرجه مرسلاً، قد يكون موجود عند مالك على الوجهين، والإمام مالك -رحمه الله تعالى- كثيراً ما يعمد إلى الأحاديث المتصلة المعروفة بالاتصال التي لا إشكال في أسانيدها ويرويها مرسلة، وموطأه شاهد طافح بمثل هذا النوع، يونس ومعمر أيضاً رووه مرسلاً عن علي بن الحسين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وممن قال أنه لا يصح إلا علي بن الحسين مرسلاً الإمام أحمد ويحيى بن معين والبخاري والدارقطني، هؤلاء أئمة هذا الشأن، يقول: قد خلط الضعفاء في إسناده عن الزهري تخليطاً فاحشاً والصحيح فيه المرسل، يقول: ورواه عبد الله بن عمر، عن عمر معروف المكبر، عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، عن أبيه فيكون حينئذ متصلاً، وجعله من مسند الحسين بن علي، وخرجه الإمام أحمد في مسنده من هذا الوجه، والعمري ليس بالحافظ كما هو معروف، وخرجه أيضاً من وجه آخر عن الحسين عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وضعفه البخاري في تاريخه من هذا الوجه، وقال: لا يصح إلا عن علي بن الحسين مرسلاً، وقد روي عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من وجوه أخر وكلها ضعيفة.

الإمام أحمد حكم على أن الطريقة المرسلة هي المحفوظة، وخرجه في مسنده عن عبد الله بن عمر العمري عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه متصلاً، فكيف يحكم على المرسل بأنه هو المحفوظ ويخرجه في مسنده متصلاً، الإمام أحمد -رحمه الله- لم يلتزم في مسنده بالصحة، وهنا مسألة وهي تعارض الوصل والإرسال، وهي مسألة معروفة عند أهل العلم، لا تتعارض الطريق الأولى المخرجة في الترمذي وابن ماجة من رواية الأوزاعي عن قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، مع رواية علي بن الحسين مرسلاً، لكن تعارض الوصل والإرسال فيما أخرجه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر العمري عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه، هنا يكون الوصل والإرسال، ولا شك أن من رواه مرسلاً أكثر، ومن رجح إرساله من الأئمة أحفظ، فالمرجح هو الإرسال.

لكن يبقى هل نقول: إن هذا الخبر المرسل يمكن أن يشهد له الطريق الموصول الذي خرجه الترمذي وابن ماجة، يكون شاهداً من حديث أبي هريرة، يكون علي بن الحسين مرة يروى عنه مرسلاً، ومرة موصولاً عن أبيه، ويشهد له حديث أبي هريرة المخرج في سنن الترمذي وابن ماجة، وعلى كل حال الحديث وإن سمعنا ما فيه من أقوال الحفاظ، وقد اختلف في وصله وإرساله وإن كان الراجح فيه الإرسال عند أكثر الحفاظ وهو المحفوظ حينئذ والموصول على قولهم هذا يسمى شاذ، فالذي يعمل بالمرسل كالإمام مالك، وقد خرجه كذلك في موطأه لا إشكال عنده فيه؛ لأنه يعمل بالمرسل، والذي لا يعمل بالمرسل كالإمام أحمد -رحمه الله- يشكل على أصوله؛ لأنه لا يعمل بالمرسل ورجح إرساله وأخرجه في مسنده موصولاً، فيرد على الإمام أحمد لكن مثل هذا الكلام وإن اختلف في وصله وإرساله إلا أن معناه صحيح، وضعفه ليس بشديد، الذي وصله عبد الله بن عمر العمري ضعيف عند الحفاظ من قبل حفظه، لكن ضعفه ليس بشديد، فإذا ضممنا روايته إلى الرواية الأولى إن كانت محفوظة على كلام ابن عبد البر والنووي فشاهد القول يكون له، وحينئذ يبلغ الخبر درجة الحسن، وإن قلنا: أنه وهم من راويه ورفعه خطأ والصواب إرساله، يبقى مرسلاً وينظر في متنه، ينتقل النظر فيه إلى المتن.

الحديث من حيث المعنى: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) من حيث المعنى صحيح، وضعفه –كما ذكرنا– ليس بشديد؛ لأن عبد الله بن عمر العمري ضعيف من قبل حفظه، لكن ضعفه ليس بشديد، فعلى فرض أن رواية الترمذي وابن ماجة محفوظة يشهد أحدهما للآخر، ويصل إلى درجة الحُسن والاحتجاج، وعلى كل حال المعنى صحيح، معناه صحيح، وعمومات الشريعة تدل على أنه له أصلاً، وله ما يشهد له.

معنى: (من حسن إسلام):

فقوله في الحديث: ((من حسن إسلام المرء)) هذه (من) تبعيضية؛ لأن ترك ما لا يعني ليس هو كل حسن إسلام المرء، فـ(من) هذه تبعيضية، بل بعض إسلام المرء تركه ما لا يعنيه؛ لأن الإسلام مشتمل على واجبات، ومشتمل على ترك محرمات، ومنها ترك ما لا يعنيه، فـ(من) هذه تبعيضية، يقول الطوفي في شرحه على الأربعين: إنما جميع حسن إسلام المرء ترك ما لا يعني، وفعل ما يعني -يعني إذا انضم إلى ترك ما لا يعني فعل ما يعني، ترك ما لا يعني إذا انضم إليه فعل ما يعني صار جميع حسن الإسلام، لماذا لا يكون هو الإسلام كله؟ يقول: فإذا فعل ما يعنيه وترك ما لا يعنيه فقد كمل حسن إسلامه، لماذا لا يكمل إسلامه؟ يكمل حسن الإسلام ولا يكمل الإسلام على قوله.

الآن حسن الإسلام أليس هو قدراً زائداً على أصل الإسلام؟ فإذا كمل القدر الزائد على الأصل المطلوب ألا يكمل الأصل من دون كماله؟ من باب أولى، هذا ما قرره الطوفي يقول: إنما جميع حسن الإسلام ترك ما لا يعني وفعل ما يعني، فإذا فعل ما يعنيه وترك ما لا يعنيه، فقد كمل حسن إسلامه ........

وفي الحديث: ((من حسن إسلامه)) ولم يقل إيمانه؛ لأن الترك لما لا يعنيه متعلق بالأمور الظاهرة والإسلام كذلك، الترك لما لا يعنيه متعلق بالأمور الظاهرة والإسلام كذلك، وأما الإيمان فتعلقه بالأعمال الباطنة.

إذا كان في خاطره خواطر وهواجس تدور في نفسه وتسترسل معه وهي لا تعنيه من قريب أو بعيد، تجد الواحد من الناس الذي لا يعنيه أمر العامة في نفسه يزور أعمال ورجال يقومون بهذه الأعمال، وهو في نفسه، وهو ليس بيده حل ولا قيد، ليس بيده شيء، هذا العمل الذي يزوره في نفسه لا يعنيه؛ فهل نقول: أن مثل هذا لا يدخل في الحديث؟ يعني الخواطر إذا استرسلت فيما لا يعني الإنسان، تجد الإنسان يسترسل في أمور كثيرة، يجر بعضها بعضاً وتعوقه عن كثير من أذكاره وأوراده والتفكر، وفيما هو أهم من ذلك، هل نقول: أن ترك هذه الأمور لا تعنيه؟ تعنيه، فالحديث يشمل الجوارح وما يعمل بالجوارح من الأعمال الظاهرة، ويشمل أيضاً الخواطر والهواجس على ما سيأتي.

يقول: وأما الإيمان فتعلقه بالأعمال الباطنة أظهر، وإن كانت الأعمال شرطاً في الإيمان إلا أن الشرط خارج عن الماهية كما هو معروف ومقرر عند أهل بخلاف الركن.

يقول الطوفي: والترك والفعل ضدان ((من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه)) والترك والفعل ضدان، إنما يتعاقبان على الأعمال الظاهرة دون الباطنة؛ لأن الظاهرة حركات اختيارية يتأتى فيها الترك والفعل اختياراً، ماذا يريد أن يقرر الطوفي؟ الطوفي يقول: لماذا قال: ((من حسن إسلام المرء)) ولم يقل من حسن إيمانه؟

أولاً: جاء لفظ: (من حسن إيمان) في بعض طرق الحديث.

الأمر الثاني: أن الإسلام إن أطلق مجرداً دخل فيه الإيمان والعكس، وهو يريد أن يقرر، لماذا قال: من حسن إسلامه ولم يقل من حسن إيمانه؟ يقول: لأن الترك متعلق بالأفعال الظاهرة، والإيمان أمر خفي باطن، فما دام الترك متعلق بالأفعال الظاهرة إذن هو مما يخرم العمل الظاهر وهو الإسلام، ولا علاقة له بالإيمان؛ لأنه عمل قلبي، والمقرر أن الذي يخرم الإسلام يخرم الإيمان، فإذا أخل ببعض الأعمال الواجبة نقص من إيمانه بقدر هذا الخلل، فهناك ترابط والتزام بين الإسلام والإيمان.

وقال في الحديث: من حسن إسلامه ولم يقل من إسلامه؛ لأن ترك ما لا يعني ليس هو نفس الإسلام، ولا جزءاً منه، شخص رأى آخر يشيد مبنى، فدخل هذا الفضولي وقال: لو فعلت هذا، لو جعلت المجلس هنا، لو جعلت الباب هنا، لو هدمت هذا، لا يعنيه، يقول: إن هذا لا علاقة له بالإسلام المبني على الأركان المعروفة والواجبات التي بينت الشريعة، لا علاقة له، لم يقل: من إسلامه؛ لأن ترك ما لا يعني ليس هو نفس الإسلام ولا جزء من الإسلام، يعني كون هذا الفضولي يدخل على هذا المبنى، ويقول لصاحبه: سكر الباب هذا، وافتح هذا، أو انقل هذه الغرفة إلى المكان الفلاني، نعم شل الدرج من الجهة هذه وضعها في الجهة هذه، هذا لا يعنيه بالفعل، ومن حسن إسلامه تركه هذه الاقتراحات؛ لأنها لا تعنيه، لكن هل هي من الإسلام؟ هل هي من صلب الإسلام أو جزء من أجزاء الإسلام؟ ليست منه، وليست جزءاً من أجزائه، ولذا لم يقل: من إسلامه، وإنما قال: من حسن إسلامه، لكن قد تكون هذه التصرفات الفضولية، وتصرف الإنسان فيما لا يعنيه، قد يخل بإسلامه مباشرة، يأتي إلى شخص يصلي، يقول: ليش تكلف نفسك تطلع تصلي مع جماعة؟ هذا الأمر لا يعنيك من جهة، لكن هذا يخدش إسلامك، لأنك إيش؟ ماذا فعلت؟
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى}[(10) سورة العلق] غير منصوص عليها في الشريعة، وإن كان عمله فعلاً وتركاً لا يعنيك، لكن عملك أنت، يعني أنت معاقب ومحاسب عليه، هذه المسألة فيها دقائق واستطرادات وأمور لا يمكن الإحاطة بها؛ لأن هذا الحديث من الجوامع، يدخل في كل شيء، في كل باب من أبواب الدين.
قال في الحديث: من حسن إسلامه، ولم يقل من إسلامه؛ لأن ترك ما لا يعنيه ليس هو نفس الإسلام ولا جزءاً منه بل هو وصفه وهو حصنه، الحصن ليس هو ذات الشيء، إنما هو وصف من أوصافه، وحسن الشيء ليس هو ذاته ولا جزؤه، هذا من كلام الطوفي أيضاً.

والإسلام جاء تعريفه في حديث جبريل المشهور لما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- أجابه بقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)) وهذا الحديث متفق عليه كما هو معروف من حديث أبي هريرة، وتفرد به مسلم من رواية عمر، والإسلام في الأصل: الإذعان والانقياد والاستسلام.

معنى قوله: (المرء):

((من حسن إسلام المرء))
المرء: الرجل، المرء هو الرجل يقابله المرأة، يعني هذا مما يفرق بينه وبين مؤنثه بالتاء، مرء وامرأة، وإن جاء للرجال هل معنى أن النساء لا يخاطبن بمثل هذا الحديث؟ ((من حسن إسلام المرء)) ألا تدخل المرأة في المرء؟ المرء هو الرجل يقابله المرأة، وجاء في الحديث ((من حسن إسلام المرء)) هل معنى هذا أن النساء في حل من مثل هذا الحديث؟ يحسن إسلامها ولم لم تترك ما لا يعنيها؟ والخبر إن جاء في الرجال؛ فالرجال نُص عليهم من باب التغليب، ويدخل في خطاب الرجال النساء، يدخلن في عموم خطاب الرجال، كما قال -جل وعلا- عن مريم -عليها السلام-: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}[(12) سورة التحريم] يعني الخطاب متمحض لامرأة، يعني ما تدخل في عموم الرجال؟ يعني لو قال: كانت من القانتات، لأن الخطاب يخصها، لكن لما كان مخاطبة الشريعة كلها جاءت للرجال أو جلها للرجال من باب التغليب يدخل في ذلك النساء إلا إذا دل الدليل على اختصاص الرجال بشيء، أو اختصاص النساء بشيء آخر
معنى الترك:
((تركه)) الترك يقابل الفعل، والترك عمل قلبي، الترك عمل، لئلا يقال: ((إنما الأعمال بالنيات)) والصيام ترك إذن لا يحتاج إلى نية، نقول: لا، الترك عمل قلبي داخل في الأعمال، ولذا سماه الصحابي عملاً في قوله:

لئن قعدنا والنبي يعملُ *** فذاك منا العمل المضللُ

إن قعدوا عن مساعدته في بناء المسجد وتركهم لمساعدته سماه عملاً.

لئن قعدنا والنبي يعملُ *** فذاك منا العمل المضللُ

والترك وإن كان عملاً قلبياً إلا أنه ترك لأعمال ظاهرة.

الأمور التي لا تعني الإنسان:

((تركه ما لا يعنيه)) (ما) هذه اسم موصول، وهي في الأصل لغير العاقل، بمعنى الذي، ويؤتى بها للتعميم؛ لأن الغالب غير العقلاء، مما لا يعنيه، و(لا) هذه نافية، و((يعنيه)) يقال: عناه الأمر يعنيه إذا تعلقت عنايته به، وكان من غرضه وإرادته.

يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: والعناية شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه، كثيراً ما يقال: عُني به فلان، وقد يقال: اعتنى به فلان، هذا الشيء عُني به فلان، أو اعتنى به فلان، أيهما الأفصح؟ مثلاً كتاب -كتاب لإمام من الأئمة- حققه شخص، قال: اعتنى به وخرج أحاديثه، ورقم آياته وقابل نسخه فلان، اعتنى به، وقد يقال: عني به أو بعناية فلان، أيهما أفصح؟

طالب: اعتنى به.

اعتنى به أفصح، كيف؟

أيهما أفصح يا شيخ؟

طالب:.........

لا هم ينصون على أن عني به أفصح؛ لأن المصدر عناية أفصح من اعتنى به، وإن جاز في اللفظ الثاني ليس هناك ما يمنع من استعمالها، إلا أنها أقل؛ لأن الاعتناء بالشيء والعناية به متقاربان، لكن أصل المادة العناية.

وهنا قال: ((ما لا يعنيه)) ما قال: يعتني به، يقول الطوفي: والذي يعني الإنسان من الأمور ما يتعلق بضرورة حياته في معاشه وسلامته في معاده، وذلك يسير بالنسبة إلى ما لا يعنيه، فإذا اقتصر الإنسان على ما يعنيه من الأمور سلم من شر عظيم عميم، وذلك يكون بحسن الإسلام؛ لأن السلامة من الشر خير عظيم، والسلامة من الشر من حسن  إسلام المرء.

والإنسان إذا عرف الهدف من وجوده، الهدف لماذا خلق؟ وحدد الهدف، وسعى لتحقيق هذا الهدف، وما يخدم هذا الهدف، سلم من شر كبير، وارتاح الراحة التامة، ونعم باله، وسلم من كثير من الأمور التي يتعرض لها كثير من الناس من أسباب الشقاء في هذه الحياة، إذا عرف الإنسان أنه مخلوق للعبادة، مخلوق لعبادة الله -جل وعلا-، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[(56) سورة الذاريات] وسعى لتحقيق هذا الهدف، وجاء من باب التبع لتحقيق هذا الهدف، ما يُعِينه على البقاء في هذه الدنيا لتحقيق هذا الهدف، فالهدف من الوجود ومن الخلق العبادة، لكن هل تستطيع أن تعبد الله -جل وعلا- من غير أن تأكل أو تشرب أو تنام أو تلبس؟ لا تستطيع، إذن هذه الأمور وسائل لتحقيق الهدف الأعظم، هذه الوسائل بعض الناس يجعلها هي الأهداف، لما كانت هذه وسائل جاء التنبيه عليها في قوله -جل وعلا-: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[(77) سورة القصص] الذي يقال له هذا الكلام من تصور الهدف وسعى لتحقيقه، لو تصور الهدف من وجوده، وسعى بالفعل جاداً لتحقيقه، يقال له: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} لكن الذي هدفه الدنيا، ينبغي أن يقال له: يا أخي لا تنس الآخرة، كما هو حال كثير من الناس اليوم، وما أصيب الناس بالشقاء والأمراض سواء كانت العضوية أو النفسية إلا لما كان هدفهم وغايتهم.........

أقول: من سعى لتحقيق الهدف من وجوده ارتاح الراحة التامة من كثير مما يعانيه الناس اليوم من أمراض عضوية ونفسية، لماذا؟ لأن هدفه محدد، غير مشتت، هدفه أن يرضي الله -جل وعلا- بعبادته التي خلق من أجلها، فهو يسعى لتحقيق هذا الهدف، وما يعين على تحقيق هذا الهدف من باب التبع، لا على سبيل الاستقلال، لا على جهة الاستقلال، لكن إذا كان هدفه الدنيا تشتت، الدنيا كما يقول الناس: لا يلحق لها طرف، أمورها لا تنتهي، مطالبها لا يمكن الإحاطة بها، وجاءت الإشارة إلى هذا المعنى في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من أصبح والدنيا همه شتت الله شمله)) بلا شك يريد أن يحوش الدنيا بحذافيرها لا يستطيع، الدنيا لا يمكن الإحاطة بها، ونهم الإنسان إذا انفتح على هذه الدنيا لا يمكن أن يرتاح له بال؛ لأنه أي شيء يراه بحيث يعجبه عند فلان أو علان يريده، ذكر عند فلان بيت قصر منيف، سعى لتحقيق هذا الهدف، ذكر عند علان سيارة فارهة، سعى لتحقيق هذا الهدف، ذكر عند فلان امرأة جميلة أو بنت سعى لتحقيق هذا الهدف، كيف يحيط بهذه الأمور؟ لا يمكن أن يحيط بهذه الأمور ولو بذل جميع ما أوتي من.... وما مد له من عمر، واستغل جميع اللحظات من عمره لا يستطيع أن يحقق مثل هذه الأمور، ولن يحصل له من دنياه إلا ما كتب له، لكن من جعل الهدف الشرعي الحقيقي وهو عبادة الله -جل وعلا- على مراده -جل وعلا- وعلى ضوء ما جاء عن نبيه -عليه الصلاة والسلام- القدوة الأسوة، يجتمع همه، ولا يتفرق شمله، ويحدد مساره وحينئذ يرتاح يمشي على نور وعلى بينة، وعلى برهان، وعلى بصيرة.

يقول: والذي يعني الإنسان من الأمور ما يتعلق بضرورة حياته في معاشه وسلامته في معاده، وهذا الأهم وذلك يسير بالنسبة إلى ما لا يعنيه، فإذا اكتفى الإنسان على ما يعينه من الأمور سلم من شر عظيم، وذلك يعود بحسن الإسلام؛ لأن السلامة من الشر خير عظيم، والسلامة من الشر من حسن إسلام المرء.

ثم قال: والذي يعني الإنسان من أمر معاشه –يعني الذي بواسطته يحقق الهدف من وجوده– ما يشبعه من جوع، لكن لو زاد على ذلك؟ عاد عليه بالضرر، زاد عليه بالتخمة والأمراض، ويرويه من عطش، فإن زاد على ذلك؟ كذلك، ويستره من ظهور عورته، ويعفه من زنا، وما تعلق بذلك على جهة دفع الضرورة، لا على جهة التلذذ والتمتع والاستكثار، ولا يمنع الشرع من أن يتمتع الإنسان بهذه الوسائل التي يحقق بها الهدف، ولذلك جعل في بضع أحدكم صدقة، أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: ((نعم)) له أجر، الشرع لا يمنع من التلذذ ولا يمنع من الانتفاع بما أباحه الله -جل وعلا-.

لكن الإنسان إنما يستعمل هذه الأمور ليستعين بها على طاعة الله -جل وعلا- لينال بها وهي أمور عادية، أمور يضطر إليها الإنسان تنقلب بالنية الصالحة بالاستعانة بها على طاعة الله -جل وعلا- تنقلب عبادات والذي يعنيه من أمر معاده الإسلام والإيمان والإحسان، والذي يعنيه من أمر معاده ما جاء في حديث جبريل، الإسلام والإيمان والإحسان، والإمعان في هذا والاستكثار منه أولى من الإقلال والاختصار بخلاف الأول، الإمعان من أركان الإسلام وشرائعه من الإيمان وما يعالج أمراض القلوب من الإحسان والمراقبة لله -جل وعلا-، الإكثار من هذا أولى من الإقلال، بخلاف الإكثار من أمور الدنيا أمور المعاش، الإقلال منها أولى، لكن لا يصل الحد من الإقلال في أمور الدنيا، إلى أن يصل إلى حد يتضرر به البدن، بحيث لا يستطيع القيام بما أوجب الله عليه، ولا يصل الإكثار من بعض أبواب الدين الإخلال بما هو أهم منها وأوجب، جاء في الحديث: ((أعني على نفسك بكثرة السجود)) يعني الإكثار من الصلاة، من نوافل العبادة، من قراءة القرآن، من الذكر، من نفع الناس العام والخاص، النفع المتعدي واللازم، هذه أمور مطلوبة شرعاً؛ لكن مع التوازن.

ومن المصالح العظيمة في هذه الشريعة الكاملة تنوع العبادات، نعم بعض الناس يفتح له باب وتصعب عليه أبواب، وهذا الباب يكون أنفع لقلبه، نقول: الزم هذا الباب ولا تنس الأبواب الأخرى، فبعض الناس عنده استعداد يجلس يقرأ القرآن في اليوم عشر ساعات، لكن يقوم ليصلي ركعتين أثقل عليه من الجبل، وبعض الناس عنده استعداد أن يصلي من ارتفاع الشمس إلى الزوال أكثر من ركعة، لكن تقول له: اجلس اقرأ القرآن صعب عليه، نعم نقول: من فتح له باب موصل إلى مرضاة الله يلزم هذا الباب، لكن لا يفرط في الأبواب الأخرى، ولذا تنوع العبادات في الشرع مقصد عظيم والجنة لها أبواب وكل باب يدعى منه فئة من الناس، لكن من الناس من يدعى من جميع هذه الأبواب، يعني من عمل بجميع شرائع الدين يدعى من جميع هذه الأبواب، ومنهم أبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه-، لكن بعض الناس تثقل عليه الصلاة ويخف عليه الصيام يثقل عليه الصيام ويخف عليه تلاوة القرآن، يثقل عليه الذكر ويهون عليه الجهاد وهكذا، هذه أبواب كلها موصلة إلى الجنة وإلى مرضاة الله -جل وعلا- فعلى الإنسان أن يلزم ما فتح له من أبواب، وسهل عليه من طريق، ولا ينس الأبواب الأخرى، لا سيما ما أوجب الله عليه منها.

يقول الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: "ليس المراد أن يترك ما لا عناية له به، ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإسلام، ولهذا جعله من حسن الإسلام" أيش معنى هذا الكلام؟

بعض الناس يترك كثير من الأمور لأن هواه ورغبته لا تقبل مثل هذا الأمور، يترك التدخل في أمور الآخرين لبعدهم عنه مثلاً، هو لا يستطيع أن يكلف نفسه أن يذهب إلى فلان أو علان، تركه لا تبعاً لما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- ولا بحكم الشرع وإنما لهوى النفس، فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات كما في حديث جبريل، ويدخل فيه ترك المحرمات كما في حديث أبي موسى في الصحيحين وغيرهما عن النبي -عليه الصلاة والسلام- سئل: أي المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) حديث جبريل في الأفعال، فسر الإسلام بالأفعال، وهذا الحديث يدل على أن ترك المحرمات من الإسلام، أي المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)) يعني ترك ما يضر بالآخرين، وسلم الناس منه، وهذا في باب الترك. 

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((المسلم أخو المسلم، فلا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) وهذا في انتهاك المحرمات.

إذا حسن إسلام المرء بفعل الواجبات وترك المحرمات اقتضى ترك كل ما لا يعنيه، كل ما لا يعنيه اقتضى تركه، إذا حسن إسلامه بفعل الواجبات اقتضى حسن إسلامه ووفق لترك كل ما لا يعنيه من المحرمات مرة أخرى والمشتبهات والمكروهات ومن المباحات التي لا يحتاج إليها، قد يقول قائل: المباحات لماذا تترك؟ الإكثار من المباحات وتمرين النفس عليها، وتعويد النفس عليها لا شك أنها تكون وصف ملازم لهذه النفس، بحيث لو طلبها فلم يجدها من بابها، من أبوابها المباحة لا شك أن النفس تستدعيه إلى أن يطلبها من الوجوه التي فيها شيء من الكراهة، إذا لم يجد في الأبواب التي فيها الكراهة وتساهل في أمور الشبهات ثم بعد ذلك قاده ذلك وجره إلى ارتكاب المحرمات، ولهذا كان السلف يتركون كثير من المباحات خشية أن يقعوا أو يجرهم الاسترسال في هذه المباحات إلى انتهاك المحرمات؛ لأن النفس راغبة إذا رغبتها، إذا رغبتها راغبة، لكن إذا ترد إلى قليل تقنعُ.

النفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضا وإن تفطمه ينفطم

النفس لا شك أنها تحتاج إلى الوقوف إلى أن تؤطر وتقصر ما لا يمكن تجاوزه، فإذا ترك المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها فإن هذا كله -مما ذكر- لا يعني المسلم، المحرمات لا تعنيه، المكروهات لا تعنيه ليس بحاجة إليها، إذا ترك فضول المباحات لم يحتج إلى المكروهات، وإذا ترك المكروهات ففراره عن المحرمات من باب أولى، والمسألة توفيق من الله -جل وعلا-، وبذل من الإنسان وسعي من الإنسان، الإنسان إذا فطم نفسه عن بعض المباحات التي لا يحتاج إليها لا شك أنه سوف يوفق إلى ترك المكروهات فضلاً عن المحرمات.

إذا كمل إسلامه وبلغ إلى درجة الإحسان، كمل إحسانه وتم إيمانه وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله -جل وعلا- كأنه يراه، نعم من الذي دعاه إلى ترك هذه المباحات؟ وما الذي حمله على ترك المكروهات والمحرمات؟ مراقبته لله -جل وعلا-، هذه المراقبة بعد أن راقب الله -جل وعلا- في ترك المباحات، ترك فضول المباحات، لا ..... مباحات، لأن الله أحل الطيبات، ترك الفضول من المباحات والمكروهات والمحرمات الذي دعاه إلى ذلك المراقبة لله -جل وعلا-، هذه المراقبة إذا تولدت عند الإنسان هي درجة الإحسان، وهذه الدرجة أن يعبد الله -جل وعلا- كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه وإطلاعه عليه فقد حسن إسلامه، يعني الأكمل أن تعبد الله -جل وعلا- كأنك تراه، فاستحضر هذا، إن لم تستحضر هذا والمسألة يعني عون من الله -جل وعلا- استحضر أن الله -جل وعلا- مطلع عليك، وحاسب نفسك وراقب ربك في أي عمل تريده،  فمن عبد الله على استحضار قربه منه ومشاهدته بقلبه أو على استحضار قرب الله منه وإطلاعه عليه فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في إسلام وليشتغل بما يعنيه فيه.

كثير من الناس جهودهم يضيع أكثرها في لا شيء، تجده وهو سائر في الطريق .......، هذه العمارة لو أن لونها كذا كان أفضل، لو أن الحجر من هنا، لو أن كذا، يضيع عمره في هذا، فلان لو عمل كذا لو قدم كذا لو أخر كذا، عليك بخاصة نفسك، ما أنت مسؤول عن غيرك، نعم أنت مكلف بدعوة الآخرين بإرشاد الآخرين بتوجيه الآخرين في منعهم مما يضرهم، نعم أنت مكلف بهذا، لكن الأمور التي لا قيمة لها والتي ليست من المقاصد، وليست مما خلقت من أجله ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).

إذا حقق المسلم منـزلة المراقبة واستحضر قرب الله منه استحيا منه، يعني لو تصورنا أن الزاني وهو يزاول هذه الفاحشة يستحضر أن الله -جل وعلا- مطلع عليه، ما أقدم على هذه المعصية، لو استحضرنا أن المرابي وهو يعقد الصفقة يستحضر أن الله مطلع عليه وأنه يزاول حرب الله -جل وعلا- ما أقدم على هذا العمل، لكن الذي يقود إلى هذه الأمور الغفلة، والغفلة عقوبة من الله -جل وعلا-، سببها ما يغطي القلوب من غشاوة الذنوب، هذا هو الران، إذا حقق المسلم منـزلة المراقبة واستحضر قرب الله منه واستحيا منه، وترك ما يسخطه بل ما لا يقرب إليه، واهتم بما يقرب منه حتى تقر عينه بعبادته، ويأنس بمناجاته، ويستوحش من غيره، يعني نسمع في سير المتقدمين التلذذ بمناجاة الله، الوحشة من مجالسة المخلوقين، أظن هذا ضرب من الخيال لماذا؟ لأن الإنسان يؤدي هذه العبادة على وجه قد لا يكتب له من أجرها شيئاً، يأتي بشروطها وأركانها، لكن لا يحضر قلبه في جزء منها، مثل هذه العبادة يتلذذ بها صاحبها؟ يرتاح بها المتعبد؟ هذه الصلاة التي يكبر تكبيرة الإحرام ويسلم وما استحضر منها شيء مثل هذه العبادة يتلذذ بها صاحبها؟! يتلذذ بمناجاة ربه إذا سجد وانطرح بين يديه؟ أبداً، تجده متى ينتهي من أداء هذه العبادة الآن وجدت الساعات في جدران المساجد تجد الإنسان ينظر إليها من دخوله من تكبيره الإحرام إلى السلام وعينه في الساعة متى ينتهي؟ لماذا؟ يروح يستأنس مع فلان وعلان، عكس ما عليه سلف هذه الأمة، من أنسهم بالله وتلذذهم بمناجاته واستياحشهم من غيره، والله المستعان.

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد.

أقول: إذا حقق المسلم منـزلة المراقبة واستحضر قرب الله منه واستحيا منه وترك ما يسخطه وما لا يقرب إليه واهتم بما يقرب منه حتى تقر عينه بعبادته ويأنس بمناجاة ربه ويستوحش من غيره كما حصل ذلك لسلف هذه الأمة، بخلاف من غفل عن مراقبة الله -جل وعلا- فإنه لا يتلذذ بالعبادة، بل تثقل عليه ويأنس بغيره وهذا أمر مشاهد ومجرب.

مكانة هذا الحديث عند أهل العلم:

هذا الحديث كما قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: أصل عظيم من أصول الأدب، ويعني بالأدب الأدب الشرعي، المراد بالأدب هنا الأدب الشرعي، المستمد من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- بخلاف ما تعارف عليه الناس من تسمية العلم القسيم للتاريخ وغيره من العلوم بعلم الأدب الذي هو يسمى أدب درس لا أدب نفس، هذا العلم المسطر في كتب غالبها لا يسلم من قلة الأدب، بل من فقد الأدب، جل كتب الأدب -مع الأسف الشديد- لا يسلم من فقد الأدب من المجون والسخرية والاستهتار وإيراد ما ينافي الفضائل من أخبار المردان وقصصهم التي يستحي العاقل من قراءتها بمفرده فضلاً عن ذكرها وروايتها كالأغاني وغيره من الكتب التي سودت بها الصحف.

فالحديث كما قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: أصل عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح، مع الأسف الشديد أن يوجد من يروج لمثل هذا الأدب الماجن، وينعى على من يتكلم فيه، أو يهذب كتبه، نعم ينتقد بعض الأدباء المعاصرين ينتقد كتاب (زهر الآداب) للحصري، هذا الكتاب من أنظف كتب الأدب، يقول: أنه أغفل جانب مهم من جوانب الأدب من أهم جوانب الأدب الذي هو المجون، يقول: الحياة تفقد حيويتها حينما تكون أدب خالص، هذا كلام عاقل هذا؟ هذا كلام عاقل يتعامل مع نصوص الكتاب والسنة؟ هذا كلام أقل أحواله أنه سكران، أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن بعض الغي رشد، هذا أدب هذا؟ هذا سوء أدب.

فالحديث أصل عظيم من أصول الأدب، وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح عن أبي محمد بن أبي زيد إمام المالكية القيرواني في زمانه أنه قال: جماع آداب الخير وأدلته تتفرع من أربعة أحاديث: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل: خيراً أو ليصمت)) يعني من التزم هذا الأدب يقول: خير أو يصمت، هذا يرتاح من أمور كثيرة، ويرتاح أو يسد على نفسه باب عظيم من أبواب كسب السيئات، يقول: خيراً أو ليصمت، وقوله: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) وقوله -عليه الصلاة والسلام- لمن طلب منه الوصية: ((لا تغضب)) وقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) والحديث منطوقه يدل على مدح ترك ما لا يعني، منطوق الحديث يدل على مدح ترك ما لا يعني، مفهومه يدل على الحث على اشتغال الإنسان بما يعنيه، يعني إذا مدح في ترك ما لا يعنيه، فمفهومه –مفهوم المخالفة لهذا الخبر– أنه يمدح بفعل ما يعنيه، الحث على اشتغال الإنسان بما يعنيه من أمور الدين والدنيا، فالحديث بمنطوقه ومفهومه من جوامع الكلم التي تجمع خيري الدنيا والآخرة.

يقول الطوفي: واعلم أن كل شيء فإما أن يعني الإنسان أو لا يعنيه، وعلى التقديرين: فإما أن يفعله الإنسان أو يتركه، فهي أربعة أقسام، يعني قسمة منطقية، تمامها أربعة أقسام ذكر منها اثنين، القسم الأول: فعل ما يعني وترك ما لا يعني، وهما حسنان، يعني فعل ما يعني وترك ما لا يعني هذان حسنان يقول، الثاني: يقابله، ترك ما يعني وفعل ما لا يعني، وهما قبيحان، ترك الثالث والرابع للعلم بهما، أنه للتزاوج، فعل ما يعني وما لا يعني هذا حسن من وجه قبيح من وجه، الرابع: ترك الأمرين، ترك ما يعني وما لا يعني، هذا أيضاً قبيح من وجه وحسن من وجه، وإذا عرفنا هذا فمما لا يعني فضول الكلام، فضول الأكل، فضول النوم، فضول النظر، الفضول بعمومها لا تعني المسلم، والخطرات، الهواجس، الأماني كلها لا تعني المسلم التي تحول دون الإنسان وتحصيل ما ينفعه في معاشه ومعاده، وهي من أعظم مداخل الشيطان إلى قلب العبد، فمن وفق لترك ما لا يعني من الكلام من المباح فضلاً عن المحرم من الغيبة والنميمة وغيرها لا شك أن هذه علامة لإرادة الخير للإنسان، ومن كلام السلف: من علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه إلا فيما ينفعه، أن يقل خيراً.

وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- : من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه.

قال ابن رجب -رحمه الله تعالى- وهو كما قال: فإن كثيراً من الناس لا يعد كلامه من عمله فيجازف فيه، ولا يتحرى، وقد خفي هذا على معاذ بن جبل -رضي الله عنه- حتى سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنؤاخذ بما نتكلم به؟ فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال-: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)).

احفظ لسانك أيها الإنسانُ *** لا يلدغنك إنه ثعبانُ

ومع الأسف الشديد أن حال كثير من المسلمين اليوم بل يوجد في طلبة العلم -مع الأسف الشديد- من وظف نفسه للقيل والقال فيما لا يعني.

يقول ابن رجب: وهذا يدل على أن كف الإنسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله، وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه، وقال: والمراد بحصائد الألسنة جزاء الكلام المحرم، وعقوباته فإن الإنسان يزرع بهذه الدنيا بأقواله وأعماله، يقول: فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات، يعني فاختر لنفسك. يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيراً من قول أو عمل حصد الكرامة، ومن زرع شراً من قول أو عمل حصد غداً الندامة، وحديث معاذ يدل على أن أكثر ما يدخل النار النطق؛ لأن معصية النطق يدخل فيها الشرك بالله -جل وعلا- وهو أعظم الذنوب عند الله -عز وجل-، ويدخل فيها القول على الله بغير علم، وهو قرين الشرك، القول على الله بغير علم {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ}[(116) سورة النحل] يعني الفتوى بغير علم تدخل دخولاً أولياً في مثل هذا، ولو لم يكن في الباب إلا قوله -جل وعلا-: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ}[(60) سورة الزمر] الأمر ليس بالسهل ليس بالهين، احفظ لسانك، ويدخل فيها شهادة الزور التي عادلت الإشراك بالله -عز وجل- ويدخل فيها القذف وغير ذلك من الكبائر والصغائر، كالكذب والغيبة والنميمة وسائر المعاصي الفعلية لا يخلو غالباً من قول يقترن بها يكون...... عليها, هل يمكن أن ينفك غناء عن قول مثلاً؟ ما يمكن، هل ينفك ربا عن قول؟ ما يمكن، فأكثر ما يورد الناس المهالك هو القول، لأنه قد وجد دون فعل، والفعل لا يمكن أن يوجد دون قول، وفي حديث معاذ السابق الذي سبق بعضه، سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن عمل يدخل الجنة ويباعده فيه عن النار، وأخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سأله عن عظيم، لكنه يسير على من يسره الله عليه، فأخبره بشرائع الإسلام المدخلة الجنة، قال بعد ذلك: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله)) قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: ((كف عليك هذا)) قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟.. الحديث، فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ)).

ففي هذا بيان خطر اللسان، وأنه هو الذي يوقع في المهالك، وأن ملاك الخير في حفظه حتى لا يصدر منه إلا ما هو خير، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة)) وقال -عليه الصلاة السلام- وقد تقدم ذكره: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل: خيراً أو ليصمت)) وثبت في الحديث الصحيح: ((وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)) وهذا الحديث الصحيح.......

فالأمور خطيرة جداً، فليحذر المسلم -لا سيما طالب العلم- من الوقيعة في الناس، لا سيما في أهل العلم، أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، عذاب القبر بسبب أمرين: الاستنزاه من البول، والمشي بين الناس  بالنميمة، والنميمة قول، من حصائد اللسان، فليحذر طالب العلم من الوقيعة في الناس لا سيما أهل العلم، والملاحظ أن من يعتني بذلك ويتصدى له أنه في الغالب يخسر بركة العلم والعلم، عقوبة من الله -جل وعلا-، ويزين له الشيطان أنه على ثغرة، جرح وتعديل والكلام في فلان وعلان، هذا يا أخي أهل العلم إنما جوزوا الكلام في الرواة في الجرح والتعديل للأثر المترتب على ذلك، بل أوجبوه لماذا؟ لأنه لا يمكن معرفة الصحيح من الضعيف من سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا بهذا، لكن جرحت فلان أو علان من الناس لا دخل له من قريب ولا بعيد في الرواية أنت الآن عرضت نفسك، فاحفظ لسانك أخي.

وأما فضول الأكل، فلا شك أن الإنسان إذا أكثر الأكل ثقل بدنه وعاقه ذلك عن تحصيل الفضائل، وجره إلى الإخلاد إلى الراحة والكسل وكثر نومه وحرم بسبب ذلك النشاط للعبادة، فمن كان هذا وصفه لا شك أن يستثقل العبادة من الصلاة والصيام وغيرهما مما يقرب إلى الله -عز وجل-.

النوم، النوم لا سيما الذي يعوق عن تحصيل الفضائل سببه الأكل، ففضول هذا يجر إلى فضول هذا، وكلاهما مذموم، وأما السهر فهو مكروه شرعاً، والمذموم من النوم سببه كثرة الأكل قد يكون للسهر دخل في كثرة النوم؛ لأن الإنسان إذا سهر في الليل وطال الكلام وأمضى ليله بدون فائدة، فإنه لا شك أنه يعاقب بأن ينام اليوم التالي ولا يفيد النوم، والسهر كما هو معروف مكروه شرعاً، فكان -عليه الصلاة والسلام- يكره الحديث بعد صلاة العشاء، والمذموم من النوم هو القدر الزائد على ما يحفظ الصحة ويعين على الطاعة. والكلام في هذا يطول جداً.

أما فضول النظر أيضاً لا شك أنه يقود إلى ما لا تحمد عقباه، لا سيما النظر إلى المحرمات، وقد كان الناس منهم المبتلى بالنظر إلى النساء، والنساء خروجهن قليل، والمبتلى بهذا قليل، لكن الآن بعد انتشار هذه الآلات ودخولها في أعماق البيوت، هذه ابتلي بها كثير من المسلمين مع الأسف الشديد، بل يوجد من كبار السن من ابتلي بمشاهدة هؤلاء النسوة العاريات المومسات، الإنسان يستثقل ويستبشع دعوة أم جريج عليه، ويقع فيها كل ليلة، لا يموت حتى يرى وجوه المومسات، تجد هذا ليل ونهار ينظر في وجوه المومسات الأمر ليس بالسهل، وقد عوقب كثير من المسلمين بالتخلف عن الصلوات بسببها، تجده من قناة إلى قناة إلى أن يخرج وقت الصلاة، كبار سن عمار مساجد في الستين والسبعين كانوا عمار مساجد ابتلي بالسهر مع هذه القنوات، ومع ذلك الآن يتركون صلاة الفجر مع الجماعة، هذه عقوبات، هذه فيها خطر أن يفتن في آخر لحظة إذا ابتلي بهذه الأمور.

الخطرات والهواجس والأماني:

وأما الخطرات والهواجس والأماني التي تعوق عن ذكر الله -عز وجل-، بحيث ينشغل الإنسان بها عن ذكر الله -عز وجل- والتفكر في عظمته وبديع صنعه فأمر خطير جداً، وكذلك الأماني التي تعوق عن الاستعداد ليوم المعاد، كما جاء في الحديث الصحيح: ((يشب ابن آدم ويشب معه خصلتان: حب الدنيا، وطول الأمل)) فمن أطال الأمل لا شك أنه يسوف في العمل، فإذا جاءه أمر الله بغتة ندم ولات ساعة مندم، فحري بالمسلم -لا سيما طالب العلم- أن يشمر في طلب ما يرضي الله -عز وجل- ويقرب إليه ويترك ما لا يحتاج إليه من هذه الأمور، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة:
*هذا سائل يقول: يا فضيلة الشيخ ورد عن بعض الصحابة قولهم إذا سئلوا في أمر: أوقع هذا؟ فإن وقع حدثوا فيه بما يعلمون، وإن لم يقع قالوا: دعوه حتى يقع؟ فهل يدخل هذا في ترك ما لا يعني؟ وما حكم الاشتغال بمعرفة أحكام ما لا يتعلق بالذمة، أو ما لم يقع؟ وهل يعتبر ناقل الفتوى من القائل على الله بغير علم؟
أما ما عرف عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين من تدافعهم الفتوى، لعلمهم بخطرها، وعظم شأنها فالمفتي موقع عن الله -جل وعلا-، فإذا وجد من ينوب بها ويقوم بها ويسقط الواجب فعلى الإنسان أن يدفعها، ومن وجوه الدفع أن يقال للسائل إذا كان السؤال لا فائدة عملية من ورائه، أن يسأل: هل وقع أم لم يقع؟ وهذا وجه من وجوه الدفع، أما إذا كان السائل من طلاب العلم الذي يريد أن يعرف هذه المسألة، وما تفرعت عنه، ويقيس عليها نظائرها، كما وجد من العلماء الأئمة المتبوعين في كتبهم و كتب أتباعهم من تفريع المسائل وتشقيق المسائل لتمرين الطلاب، لتمرين الطلاب عليها، هذا لا بأس والحاجة داعية إليه، لكن إذا عرف من السائل أنه لا يستفيد من هذا السؤال، يصرف عنه، ويصرف عنه بما هو أهم منه، فإذا سأل شخص أمر لا يحتاجه أجيب بما يحتاج إليه، بقدر الإمكان، وهذا يسمونه الأسلوب الحكيم، قد يسأل الإنسان سؤال ليس بحاجته، سأل طفل في الثالثة ابتدائي سأل أحد الشيوخ قال: ما حكم حلق شعر الصدر؟ الطفل ما بعد صار له شيء، قال: أنت هذا السؤال لا ينفعك ولا يفيدك، فاسأل عما يفيدك، مثل هذا السؤال تعرف أنه ليست واقعة نازلة لا يجوز كتم العلم فيها، هذه كتمها فيها مندوحة، فكون الإنسان يصرف عن سؤاله إلى ما هو أهم منه، لا سيما إذا ظهر من السائل أنه لا علاقة له بالسؤال، أو لا يعنيه السؤال، كالعامي أو آحاد الناس، يسأل في مسائل عملية كبرى، قد يكون فيها مصير للأمة بكاملها، يسأل واحد من أفراد الناس، يصرف عنها، هذا السؤال لإنسان له دور له أثر، إذا عرف الجواب، فيصرف إلى ما يعنيه، فالسؤال يدخل، الذي لا يعني الشخص يدخل دخولاً أولياً في حديث اليوم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) قد يجاب بعض الناس إذا سأل بعض الأسئلة أن يقال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ويجاب بهذا؛ لأن هذا الأمر لا يعنيك.
أما ناقل الفتوى إذا كان المفتي الأول ممن تبرأ الذمة بقوله، فناقل الفتوى مأجور، مأجور مشيع للخير، أما إذا كانت الفتوى ممن لا تبرأ الذمة به، أو مما هو من زلات العلماء فهذا لا شك أنه إشاعة لمثل هذه الزلات، ولا يجوز.
وهذا يقول: كثير من الشباب الذين يشتغلون بطلب العلم ضعفت همتهم وخفت عزيمتهم بسبب الظروف الراهنة، والمصائب الحالة على المسلمين، وصرنا نسمع عبارات منها قول بعضهم: إلى متى تقرؤون هذه الكتب القديمة، وإخوانكم يقتلون في كل مكان، إلى آخر مثل هذه الأقوال. فما توجيهكم حفظكم الله؟
هذا الأسلوب أسلوب تخذيل؛ لأن الإنسان الذي يقول مثل هذا الكلام لم يسع إلى حل ينفع الأمة ويخرجها من مأزقها أبداً، هو يردد هذا الكلام ليخذل من شمر في طلب العلم، وليس بيده حل آخر، ولا أنفع للأمة بكاملها من الرجوع إلى دين -جل وعلا- وإلى كتابه إلى دستورها العظيم.

هو الكتاب الذي من قام يقرؤه *** كأنما خاطب الرحمن بالكلم
فيه المخرج من جميع الفتن، فإذا تركنا كتاب الله -جل وعلا-، وتعلقنا بتحليلات صحف وأخبار إذاعات وقنوات ماذا نجني؟ ماذا نجني من ضياع الوقت في هذه الأمور التي نجد أننا على ثغر ونتابع الأخبار وقد لا نقدم ولا نؤخر، لكن على طالب العلم أن يعنى بما هو بصدده من طلب العلم وتحصيله وإصلاح نفسه وإصلاح من تحت يده، ومن يستطيع إصلاحه، هذا هو الواجب في مثل الظروف، والالتفات إلى أهل العلم والالتفاف حولهم، والاقتداء بالنبي -عليه الصلاة والسلام- وبسلف هذه الأمة.
كثيرة الأسئلة التي سطرت بمحبتك في الله يا فضيلة الشيخ؟
أحبكم الله الذي أحببتموني فيه.
وهذا سائل يقول: ما رأيك بما يستشهد بهذا الحديث على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جاء الأمر به والتأكيد عليه، حتى عده جمع من أهل العلم ركن من أركان الإسلام ((من رأى منكم منكراً فليغيره...)) هل نستطيع أن نقول: هذا لا يعنينا؟ هل يستطيع مسلم أن يقول: هذا لا يعنيني؟ مع قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((من رأى منكم منكراً فليغيره....)) {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}[(104) سورة آل عمران] مع هذه النصوص يستطيع ساذج فضلاً عن طالب علم أن يقول: هذا الأمر لا يعنينا ليدخل في الحديث: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) هو يعنيك بالدرجة الأولى، لا سيما إذا رأيت هذه المنكرات، فالحديث: ((من رأى منكم منكراً...)) المنكر يعني كل من رآه، فهو مأمور بتغييره، لكن التغيير يختلف من شخص إلى شخص، منهم من يستطيع التغيير بيده، يلزمه ذلك، منهم من لا يستطيع التغيير بيده ينتقل على الثاني يغير بلسانه، منهم من لا يستطيع التغيير بلسانه ينتقل إلى التغيير بالقلب، على أن لا يغير المنكر بما يترتب عليه منكر أعظم منه، المسألة تحتاج إلى سياسة شرعية، أما كون المنكر لا يعنينا هذا الكلام ما هو بصحيح، يعنينا بالدرجة الأولى، نحن مأمورون بتغييره، كل من رأى المنكر مأمور بتغييره، إلى أن يتغير المنكر، ويأثم من لم يغير المنكر.
الأمر الثاني: أن المنكر لا سيما المنكر الظاهر، سبب لهلاك الجميع، فإذا كثر الخبث وانتشر ولا يوجد من يغيره ومن ينكره هلك الناس، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) فإذا تتابع الناس على عدم الإنكار وتواطؤا على ذلك، وشاعت المنكرات انتشرت فما يقال: بكثير من المعاصي الآن عمت بها البلوى، هل تريدون مثل هذا أن تعم البلوى بالزنا؟ أن تعم البلوى بالربا؟ فلا يستطيع الناس الانفكاك منه، إذا تواطأ الناس على تركه رآه فلان وفلان وعلان ........ بينهم بحيث لا يستطيعون دفعه، تواطأ الناس على السكوت على بعض المنكرات التي هي في نظرهم صغيرة استفحلت وانتشرت بحيث صح فيها أن يقال: أنها عمت بها البلوى، فلا نستطيع إنكارها، عموم البلوى بها ضريبة السكوت الأول، فإذا كان مثل هذا القائل يرى أن الناس لا ينكرون المنكرات يرى هذا خلا بامرأة، وهذا يعقد صفقة ربا، وهذا يقذف فلان ولا ينكر، إيش معنى هذا الكلام؟ هذه المخالفة لأمره -عليه الصلاة والسلام- وأمر الله -جل وعلا- من قبل ذلك؛ فلا شك أنها من أعظم المنكرات، وإذا رأى الناس المنكر ولم يغيروه ماذا يحدث لهم؟ أوشك الله أن يعمهم بعقابه، نسأل الله -جل وعلا- أن يلطف بنا.
*وهذا سائل يقول: ما رأيك في موقع الدرر السنية على الإنترنت الخاص بالحكم على الأحاديث من خلال أقوال العلماء وهل هو موثوق؟
أنا لا أدخل في المواقع ولا أعرفها، لا أدخل المواقع ولا أعرفها، لكن ينقل لنا بعض الأشياء من بعض المواقع لكن تصوري ليس بكامل عن هذا الموقع، فلا أستطيع الحكم عليه.
وهذا سائل يقول: هل الحديث عن الأحوال التي تمر بها الأمة وتحليلها ومتابعة أحداثها كما يحصل في العراق وفلسطين وغيرها يوماً بعد يوم يعد من ترك ما لا يعني؟
أما الاهتمام بشؤون المسلمين، الاهتمام بأمور المسلمين هذا أمر لا بد منه، ولا بد أن يكون الإنسان على اطلاع، لا يكون الإنسان مغيب، لا وجود له في المجتمع، عليه أن يطلع، لكن عليه بالتوازن، يطلع إطلاع ينفعه، وينفع غيره، يقدم حلول ممكنة، أما يطلع ويختفي بعدين ثم الفائدة إيش؟ لا بد إذا اطلع أن يسعى بجهده وطريقته بالأسلوب المناسب لبذل ما ينفع في حل هذه المشكلات، أما أن يصرف جهده ووقته ويفني عمره بالإطلاع من دون حل هذا لا ينفع، بل ينصرف إلى ما هو أهم منه.
فعلى الإنسان ألا يكون غفل لا يعرف ما يدور في أمته وحوله، وعليه أيضاً ألا يصرف جهده إلى مثل هذه الأمور التي نفعها -إن وجد- لا سيما من آحاد الناس الذين لا يقدمون ولا يؤخرون، نفعها أقل من الانصراف بالكلية إلى تعلم العلم الشرعي والعمل به.
*وهذا هو السؤال الأخير يقول: فضيلة الشيخ آمل من فضيلتكم أن تضعوا قواعد يوازن الشباب بها بين طلب العلم والدعوة والعبادة والجهاد ومجالات النفع للمسلمين وجزاكم الله خيراً؟
أما بالنسبة للتوازن فللعبادة الخاصة عليه أن يعنى بما أوجب الله عليه، وما يسدد به ويرقع به خروم هذه العبادات، من نوافلها المطلوبة لتكميلها، عليه الصلوات المفروضة وتكميلها بالرواتب، وعليه بما حافظ النبي -عليه الصلاة والسلام- عليه، وبما حث عليه وما جاء عنه، عليه بالصيام والإكثار من نوافل الصيام من الأيام التي جاء الحث على صيامها ولا يصرف همه إلى عبادة من العبادات بحيث تعوقه عن غيرها، عليه أن ينوع هذه العبادات فتنويع العبادات كما أشرنا سابقاً من مقاصد الشرع.
لكن قد يفتح للإنسان باب يسهل عليه التلذذ بهذه العبادة وينشرح صدره لها ويسهل عليه غيرها، فيكثر من هذه العبادة ولا ينسى غيرها مع أن الطالب في دور الشباب عليه أن يتجه إلى العلم، إلى تحصيل العلم، وما علمه يعمل به، ويدعو غيره إليه، وعليه أن يكون في أموره متوازناً بحيث لا يتجه إلى العلم بالكلية ويترك الأمر والنهي والدعوة ويترك أيضاً نوافل العبادات مشتغلاً بالعلم؛ أهل العلم يقولون: أن الاشتغال بالعلم أفضل من نوافل العبادات، لكن يبقى أن المسألة توازن، يعني أفضل من نوافل العبادات هل تترك الرواتب من أجل تحصيل العلم؟ لا تترك الرواتب وهي من نوافل العبادات من أجل تحصيل العلم، نعم الذي له عادة يقرأ القرآن في ثلاث، وقراءته القرآن في ثلاث تعوقه عن متابعة تحصيل العلم، نقول: يا أخي اقرأ القرآن في سبع واصرف بقية الوقت لتحصيل العلم، الذي يصلي اليوم والليلة مائة ركعة، نقول: صل أربعين ركعة وزد عليها الشيء اليسير بحيث تصرف بقية الوقت إلى تحصيل العلم، وهكذا بقية نوافل العبادة، على الإنسان أن يكون في أموره كلها متوازناً.
والله المستعان.

و