الثلاثاء، 12 أبريل 2011

كلمة حول [ أحداث مصـــــر ] لشيخنا عليّ الحلبيِّ الأثريِّ -حفظه الله- / صوتية ومفرغة


كلمة حول [ أحداث مصـــــر ] لشيخنا عليّ الحلبيِّ الأثريِّ -حفظه الله- /

صوتية ومفرغة

بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهَ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وِأشْهَدُ ألا إِلهِ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ، وِأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًَا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
أمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيْثِ كَلامُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وِكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّارِ.
وَبَعْدُ :
فَقَد وَرَدَ عن الصَّحّابي الجَليْل عَليِّ بنِ أبي طَالبٍ ضِمْنَ وَصِيَّةٍ جَمِيْلةٍ جَليْلةٍ أدَّاهَا لأَحَدِ أصْحَابِهِ -وهو كُمَيْلُ بن زِيَاد-، أنَّه قَال لَهُ -مِن ضِمْنِ ما قَال-: «النَّاسُ ثَلاثةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌ، وَمُتَّبِعٌ عَلى سَبِيْلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أتْبَاعِ كُلِّ نَاعِقٍ».
لا يخرُجُ النَّاسُ -كيفَمَا كانُوا، وأيْنَمَا كانُوا- عَنْ هَذهِ الأصْنَافِ الثَّلاثَةِ.
«عالمٌ ربانِيٌ»: أيْ منْسُوبٌ إلى الرَّبِّ العَظيم -جَلَّ جَلالُه-، ويُربي النَّاسَ عَلى ذَلك.
أو «مُتَّبِعٌ عَلى سَبِيْلِ نَجَاةٍ»: لَيْسَ مُقَلِّدَا، ولا مُتَعَصِّبًا، ولا مُتَحزِّبًا، وإنَّما يُريدُ اللهَ والدَّارَ الآخرةَ؛ لأنَّهما عنوان النَّجاة، وما سوى ذاك؛ فإِلى الخُسران المُبين، بِقدرِ تَخلُّفِه عن هذا؛ يَنالُه مِن ذاك؛ فمُقلٍّ أو مستكثر.
والصِّنف الثَّالث: «همجٌ رعَاعٌ، أتباعُ كلِّ ناعِقٍ»: ليست عندهم القواعدُ العِلميَّة، ولا الأصولُ الشَّرعيَّة، ولا السُّبُل والأُسس المَرعيَّة، في إطار الشَّريعة الإسلاميَّة، وإنَّما يَصيحون مع كلِّ مُنادٍ، ويَتيهون في كلِّ وادٍ، همجٌ رَعَاعٌ، ليس مِن عِلمٍ يُحرِّكُهم، ولا مِن شريعةٍ تدفعُهم، أتباعُ كلِّ ناعقٍ، بِقدر ما كان نُعاق هذا النَّاعق أشدَّ، وبقدر ما كان صِياحُه أعلى؛ بِقدرِ ما وجد مِن الأَتباع أكثر، ومِن الأعداد أوفر.
وكلُّ ذي عقلٍ، وكلُّ ذي نُهًى يرفض أن يكون كهذا الصِّنف الثَّالث، وإن كان -عند غلبةِ العواطف، وعند ثورة الحماسات- قد يكون منهم، أو بينهم، أو المقدَّم فيهم؛ فلْيُراجع نفسَه، وليتأمل مواضِعَ قَدَمَيْه، وحركاتِ فُؤادِه، وتحرُّكات لسانه؛ حتى لا يكون عنده مِن الإثم، ومِن المخالفة بِقَدر ما عنده مِن التَّبعيَّة والعصبيَّة والجهل والحَمِيَّة.
وكذلك في حال رفضِه أن يكونَ مِن هذا الصِّنف الثَّالث؛ فإنَّه بما آتاه الله مِن عقلٍ يَعرف أنه ليس مِن أهل الصِّنف الأوَّل.
فالصِّنف الأوَّل: هم العلماء الرَّبانيون، الذين يجبُ على الأمَّة أن تتَّبعهم، لا تعصُّبًا وإنَّما تسنُّنًا، ولا تحزُّبًا وإنَّما ثباتًا واستقامةً على شرعِ الله، وعلى كِتابِ الله، وعلى سُنَّة رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.
وإذ هو لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء؛ فإنَّه يَسعى جهدَه، ويبذلُ وُسعَه في أن يكون مِن الوسط بين البَيْنَيْن، ليس هو أهلًا لأن يكون عالِـمًا ربَّانيًا، ويستنكف ويأنفُ أن يكونَ مِن الهمج الرَّعَاع -وما أكثرَهم في البلاد والأصقاع! وللأسف الشَّديد!-.
لكنْ: إذْ قد رضي أن يكون مِن الصِّنف الوسط، اتِّباعًا على سبيل نجاة..
فهل هذا الصِّنف الوسط يُنال بالأمانيِّ؟
يُنال بالأحلام؟
يُنال بالرُّؤى والمنام؟!!
لا بُدَّ له حتى أن يكون منه مِن بذل جهدٍ، ومجاهدةِ نفسٍ، ومُصابرةٍ في طلب العلم، وثباتٍ على أمرِ الله، ولو كانت داخلةُ نفسِه تَأبى عليه في بعضِ الأمرِ إلا أن يَسلكَ بعضَ السُّبُل، وأن يتَّبِع بعضَ الطُّرق -ولو كانت على غيرِ هدىً مِن الله، وعلى غير استقامةٍ لأمرِ الله-؛ فمثلُ هذا ينبغي أن يَدفعَه، وأن يُدافع نفسَه عنه، وليتذكَّرْ -دائمًا- قول الشَّاعر -مُذكِّرًا به نفسَه وغيرَه-:
فهذا الحقُّ ليسَ بهِ خَفاءُ ... فدَعْنِي مِن بُنَيَّاتِ الطَّريقِ
هذه -كلُّها- مِن بُنيَّات الطَّريق، من السُّبُل المنعرِجةِ والمتعرِّجة، والقصيرة غيرِ المستقيمة التي تكونُ على جانِبَي الصِّراطِ القويم، والنَّهجِ المستقيم الذي أمرَ اللهُ به ليتَّبعه رسولَه الكريم - صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين -، وهو نفسُه الذي أمرَ اللهُ به، وهو الذي أمرَ رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- به أمَّتَه وأَتباعَه وأصحابَه وإخوانَه -مِن بَعدِه- صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم -.
أن تَكونَ مُتَّبِعًا على سبيل نجاة؛ فإنَّ هذا يحتاج جِهادًا للنَّفس، واللهُ -تَعالى- يَقولُ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، ويَقولُ النَّبيُّ الكريمُ -صلَّى اللهُ عليهِ وعَلى آلِه وصحبِهِ أجمَعينَ-: «المُجاهِدُ مَن جاهَدَ هَواهُ في ذاتِ اللهِ».
وليست مجاهدةُ الهوى -أيُّها الإخوة- دائمًا تكونُ مجاهدةً للشَّهوات؛ فقد تكون -في بعض الأمرِ- مُجاهَدةً للشُّبُهات، وهي أجلُّ مِن ذلك وأعظمُ بدرجاتٍ ودرجاتٍ.
سهلٌ أن تُجاهِدَ شَهوتَك -إذا وفَّقك الله-؛ ولكنْ: ليس مِن السَّهل أن تُجاهد الشُّبهةَ، التي قد تَرِدُ عليك -أو إليك-؛ فتَفتنُك، وعن جادَّة الحقِّ والصَّواب تُبعدك!
هذه نُقطة أساسيَّة؛ لا أقول فيما أنا بِصددِه والتَّذكير به في هذه الأمسيَةِ المبارَكة -إن شاء اللهُ-المبارَكة بما يُعطِّر أجواءَها مِن كلام الله، والمبارَكة بما فيها مِن هَدي رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، وأنفاسِ أهلِ العِلم الرَّبَّانيِّين، وفتاواهم الصَّادقة الواثقة-؛ أقولُ:
هذا كلُّه بين يدي التَّنبيه على أمرٍ واقعٍ نَسمعُه ويُسمِعُنا، ونَعيشُه ويُقلِقُنا، لا يُقلقنا -فقط- في شأنِ الدُّنيا؛ بل يُقلِقُنا ويُزعِجُنا ويَأزُّنا في شأنِ الدِّين -سواءً بِسَواء-.
وحتى نَحكُمَ على المستجَدات والحوادث حُكمًا صحيحًا مُعتَبَرًا: يجبُ أن يكون هذا الحُكمُ مَبنيًّا على التَّأصيلِ الجليلِ، وعلى التَّدليلِ الجميل، بِـ(قال اللهُ.. قال رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-)؛ كما قال الإمامُ الذهبي -رحمهُ اللهُ-:
العِلمُ قـال اللهُ قـالَ رَسولُـهُ ... قالَ الصَّحابَةُ لَيس بِالتَّمويهِ
ما العِلمُ نَصبَكَ لِلخِلافِ سَفاهَةً ... بين الرَّسولِ وبَينَ رَأيِ فَقِيهِ
فلننظرْ إلى ما يَجري في مِصرَ -كما نَظرنا إلى ما جرى-قريبًا-في تُونس-، ولنتأملْ ما يَجري -هذه الساعةَ- في لُبنان؛ بل ما وقع -اليومَ- في عمَّان، وما جرى ليس بعيدًا عن صنعاء، في أمورٍ مُستجدَّة تكاد أمَّتُنا لم تَمرَّ بها، ولم تَعرِفْها!!
ولكنْ: لا نزالُ -إلى هذه السَّاعة- نفتقدُ الصَّوتَ الشَّرعيَّ الحُرَّ الذي يَحكُم على الأمور بِدلائِلِها -لا بِقائِلها-.. بِحُجَّتِها -لا بِنسبَتِها-؛ ليكون الحُكم النَّاتجُ -عن هذا وذاك- حُكمًا شرعيًّا أدنى إلى الصَّواب، وأقربَ إلى الحقِّ -بغير ارتيابٍ-.
وكم سَمِعنا مَن يقولُ مُصطلح «فِقهِ الواقعِ»؛ وهو مُصطلَحٌ تتصارَعُه فِئتان:
الفئةُ الأولى: فئة الدُّعاة الثَّوريِّين السِّياسيِّين العاطفيِّين الحماسِيِّين الذين جعلوا «فِقهَ الواقع» تتبعًا للأخبار السِّياسيَّة، ودرايةً بالأساليب الصحفيَّة، وغير هذا وذاك؛ تثويرًا للحماساتِ، وإطلاقًا للعواطفِ الجامِحات!
وأمَّا الفئة الثَّانيةُ: فهي فئة أهلِ العِلم الرَّبَّانِيِّين، نعم؛ الرَّبانيِّين -أنفسِهم- الذين فَهِموا فِقهَ الواقع على تأصيلٍ ذَكَرَهُ الإمامُ ابنُ قَيِّم الجوزيَّة -في غيرِما كتابٍ مِن كُتُبه-.
فـأولًا: «فقهُ الواقع» ليس أمرًا محصورًا في السِّياسة وذُيولها؛ إنَّما «فِقه الواقع»: هو طريقةُ التَّصوُّر لسائرِ الأمور؛ حتى تكونَ النَّتيجةُ صحيحةً وعادلة -سواء أكانت هذه الأمور سياسيَّة، أو شرعيَّة، أو -حتَّى- مادية دنيويَّة-.
هكذا نفهمُ معنى «فِقهِ الواقع الشَّرعي»؛ وهو الذي ذكرَهُ أهلُ العلم في كُتب الاصطِلاح ضِمن قَولِهم وتأصيلِهم واصطِلاحِهم بِقولِهم: (الحُكم على الشَّيءِ فَرعٌ عن تَصوُّرِه).
فنُقرِّب بين العبارتين، ونستلهِم المعنى الصَّواب بين الجُملتَين والاصطِلاحَين؛ فنقولُ:
فقهُ واقِعِ أيِّ أمر يُعينُك على تَحديدِ الموقف الصَّوابِ منه؛ بينما لو لَم تَفقه هذا الواقعَ على وجهِ الحقِّ؛ فسيكونُ بُعدُكَ عن الصَّوابِ بِمِقدار نقصِ عِلمِك به وفِقهِك له.
هذا هو الصَّواب، وليس ذاك المعنى المُمتلِئَ بِالإثارةِ والتَّثوير، والمُضَيَّق في حُدود السِّياسة وأهلِها؛ فليس الأمرُ كذلك -البتَّة-!
أقول هذا -مقدِّمةً أخرى- بين يدَي آيةٍ وحديثٍ وأثَرٍ وقاعِدةٍ فِقهيَّةٍ وفتوى لأهلِ العلم؛ أُدير عليها مَجلسَنا المبارَك -في هذه الليلةِ-إن شاء اللهُ-؛ مِن باب قولِ اللهِ: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾ رَضِي مَن رَضِي، وسَخِط مَن سَخِط، واتَّهم مَن اتَّهم، وطَعَن مَن طَعَن، ونَبَز مَن نَبَز؛ فإنما علاقة العبدِ بِرَبِّه علاقة عُلويَّة؛ إنَّما يكون فيها الصِّدقُ هو الشِّعارَ والدِّثار -بِغَضِّ النَّظر عمَّن خالَف أو وافَق-؛ فهو قِبلتُه وَجهُ الله، ومَهجُ فُؤادِه سُنَّة رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِهِ ومَن والاهُ-.

أما الآيةُ؛ فقولُ اللهِ -تَبارَكَ وتَعالَى-: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
كلمة المُفسِّرين -جميعًا- في هذه الآية مُتعلِّقةٌ بأمرَيْن:

الأمر الأوَّل: أن الأمورَ العامَّة تكون مِن المُشكِلات التي لا يجوزُ التَّوسُّع بها، ولا إِذاعتُها إلا بِهذا الأمرِ الثَّاني؛ وهو:

أن يكونَ ذلك مِن شأنِ أهلِ الاختِصاص مِن أهلِ العِلم؛ وهم أهل الاستِنباطِ؛ كما قال الإمامُ الطَّحاوي، وكما قال الإمامُ ابنُ تيميَّة، وكما قال الإمامُ الطَّبريُّ، وغيرُهم مِن أهل العِلم..

فالأمورُ العامَّةُ في الأمَّة لا يُفتي فيها، ولا يُعطي الحُكمَ بِشأنِها إلا أهلُ العِلم الرَّبَّانيُّون، الذين جَعلوا قِبْلتَهُم كتابَ الله، ومُهجةَ قُلوبِهم سُنَّةَ رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-..

فهُم يُريدون للأمَّة، ولا يُريدون منها..

يُريدون لها الصَّلاحَ، والاستِقامة، والسَّعادةَ، والفَلاح، ولا يُريدون مِنها أيَّ شيءٍ مِن دُنياها -أو دُنياهم -في قليلٍ، أو في كثيرٍ-.

فهذا هُو الأصلُ الأوَّل، والنَّصُّ الأوَّل -فيما نحنُ بِصددِ بَيانِه-.

أمَّا الثَّاني: فهو الحديثُ المَروِيُّ في «صحيحِ مُسلمٍ» مِن حديثِ أبي هريرةَ -رَضِيَ اللهُ-تَعالَى-عَنهُ- قالَ: قالَ رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «العِبادةُ في الهَرْجِ كَهِجْرةٍ إِليَّ».

الهَرجُ: هو القَتلُ والاختِلاطُ والاضطِرابُ والفِتَن، والنَّاس في الإطارِ، وفي هذا المضمار تَطيشُ قلوبُهم، وتذهلُ عُقولهم، ولا تَطمئنُّ نُفوسُهم؛ فيَكونُ الواحدُ منهم -والحالةُ هذه- معَ الهَمَجِ الرَّعاعِ، يَنتشرُ في الأصقاع، ليسَ بِواعٍ ولا بِمُتَفَهِّمٍ؛ لأن الفتنةَ صَعقَتْهُ وضربَتْه؛ مما جعلَهُ يَقع في الذي هو أدنَى، ولا يَلتفت إلى ما هو أعلَى وأهَمُّ.

هذه مِن إرشاداتِ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، رَسولِ الإسلام، وسيِّد ولدِ آدم -تَعليمًا، وتَنبيهًا، وإرشادًا-: أنَّ في مواطن الفِتنة يجبُ الانشِغال بِالأَولى والأعلى والأَغلى؛ وهو عِبادةُ الرَّبِّ -تَباركَ وتَعالى- المعبودِ بِحقٍّ -سُبحانه في عُلاه-؛ بدلًا مِن الانشِغال بهذه الأمورِ الَّتي تزيدُ الواحدَ بُعدًا عن الله، فتَشغلُه بالمفضولِ -مع وُجودِ الفاضِل-!

تشغلُه بالمفضولِ -وهُو الأصعب-، ويترك الفاضِلَ -وهو الأيسَر-!

تشغلُه بالمفضول -وهو البعيدُ عن الشَّرع-، وتُبعدُه عن الفاضِل -وهو الذي أمر به الشَّرع-!

«العِبادَةُ في الهَرجِ كَهِجرةٍ إِليَّ»..

فلينشَغِلِ النَّاسُ -كلُّهم-، وليفعَلُوا ما يُريدون، وليتجمَّعُوا كما يَشاؤون، ولْيثُوروا كما يَثورون، لا يَلفِتَنَّكَ ذلك عن دِينِك، وعن منهج كتابِ ربِّك، وعن سُنَّةِ نبيِّك -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.

وهذا وذاك -مِن النَّصِّ القُرآنيِّ، أو الحديثِ النَّبويِّ- لا يَجعلُنا نُسوِّي بين الظُّلمِ والعدلِ، أو بين الحقِّ والباطِل؛ وإنَّما يجعلُنا نَضبِطُ طريقةَ تَفكيرِنا، وطريقةَ مُعالجتِنا للأمور؛ بدَلًا مِن الغَوغائيَّة التي لا تُنتِجُ إلا البلاءَ واللَّأواءَ، والمصيبةَ تلوَ المُصيبة!!

فالشَّرعُ الحكيم ضَبَط العقلَ والقَلبَ واللِّسان والجوارِحَ، ضبَطَ ذلك -كلَّه- بما يتناسبُ -تمامًا-، ويتناسق -تَمامًا- مع الطَّبيعة البشريَّة الإنسانيَّة التي خَلق اللهُ النَّاس عليها، وهوالقائلُ -جلَّ في عُلاه وعَظُم في عالي سَماه-: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾؛ اللَّطيف بهم، الخَبير بما يُصلِحُهم.

فبِمقدار بُعدِ أيِّ إنسانٍ عن المنهج الربَّانيِّ الحقِّ؛ بِمقدار ما يكون واقعًا في خذلان، وبِمقدار ما يكون مُتلبِّسًا بِالظُّلم والبُهتان -أعاذنا اللهُ وإيَّاكُم-.

الشَّرع الحكيم ضَبطَ بين أمرَين، قد يظنُّهما البعضُ مُتناقِضَين؛ وهما -في الحقيقةِ- مُؤتَلِفان مُتناسِقان مُتَّفِقان.

أمَّا الأصلُ الأوَّل: فهو النَّهي الشَّرعيُّ الشَّديدُ عن الخروجِ على الحاكِم المسلِم..

نتكلَّم عن الحاكِم المسلِم، ولا نتكلَّم عن الحاكِم الذي يُحارِب الحجابَ، ويُحاربُ الأذانَ، ويُحاربُ اللِّحيةَ، ويُحارِبُ الإسلامَ..

نتكلَّم عن الحاكِم المُسلم؛ ولو أنَّه خالف شيئًا مِن أمرِ الله، ولو أنَّه تلبَّس بشيءٍ مِن الفُسوق أو العِصيان؛ فهذا لا يُخرجُه مِن دائرة الملَّة -بإجماعِ أهلِ السُّنَّة.

هذا هو الإطار الأول.

الإطارُ الثَّاني -الذي ظُنَّ أنه قد يُعارِض هذا الأوَّلَ-: أن هذا الحاكمَ -الذي أنتَ لا تزالُ تَحت حُكمِه، وفي ظلِّ إِمرَتِه- لا يجبُ عليك أن تُحبَّه بِسببِ ما خالَف فيهِ شَرعَ الله، ولا يكون عدمُ حُبِّك له بابًا للخُروج عليه، أو بابًا للتَّثوير عليه؛ وإنَّما هذا داخل في سياقِ قولِ النَّبي -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّم-: «مَن رأَى مِنكُمْ مُنْكَرًا؛ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيدِه، فإن لم يَستَطِعْ فَبِلِسانِه، فَإن لَم يَستَطِعْ فَبِقَلْبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ».

هذا الأصل الثَّاني -الذي أشرتُ إليه، والذي هو مُتناسِقٌ تَمام التَّناسق مع الأصلِ الأوَّل-: هو الذي أشار إليه رسولُ الإسلامِ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بِقولهِ..

واسمعوا هذا الحديثَ النَّبويَّ الشَّريف؛ ما أعجبَهُ! وما أعظمَه! وما أجملهُ وأجلَّه!

يقول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «خَيرُ أُمرائِكُمْ الَّذين تُحِبُّونَهم، ويُحبُّونَكُم، وتَدْعُون لَهم، ويَدْعون لكُم، وشَرُّ أُمرائِكم...»؛ مع أنَّهم شَرٌّ؛ ماذا قال؟ «أُمَرائِكُم»: مُضاف ومضاف إليه؛ «شَرُّ أُمرائِكُم» مع أنَّهم شَرٌّ، ومع أنَّكم لا تُحبُّونهم؛ لكنَّ هذا وذاك ما دامُوا في إطارِ الإسلامِ -ولو على تقصيرٍ، وشيءٍ مِن الفسادِ-؛ لكنَّهم لم يَخرجوا من الملَّة، ولم يَمنَعوا الأمَّة عن الصَّلاة، ولم يحاربوا أحكامَ الإسلام، وهم متمكِّنون متغلِّبون مُنفذِّون للأحكام؛ فإنَّه قال: «أُمرائِكُم»؛ فأثبت لهم إمرَتَهم عليكم.

«وشَرُّ أُمرائِكُمْ الذينَ لا تُحبُّونَهم ولا يُحبُّونكم، وتَدْعون عَليهم ويَدْعُون عليكم».

هذه ضوابط الفِعل، كما هي ضوابطُ القول؛ بحيث يكون لكلِّ إطارٍ مِن هذَين الإطارَين مساحتُه، وبحيث يكونُ لكلِّ بابٍ مِن هذَين البابَين واجهتُه؛ لا أن نَخلِط ونُخلِّط، وأن يُلبَّس علينا، ويُدلَّس علينا، وأن نَنْساقَ سَوْق النِّعاجِ بِغيرِ أدلةٍ ولا احتِجاج، ولا حُججٍ ولا مِنهاج..؛ هذا دأبُ الهمجِ الرَّعاع؛ أمَّا نسقُ أهل السُّنَّة والاتِّباع -مِن طَلَّابي النَّجاة-؛ فهُم الذين ينضبِطُون بالأحكام الشَّرعيَّة، وبالأصول المرعيَّة، وبالقواعد الفقهيَّة -سواء بِسَواء-.

أمَّا الثَّالث: فهو أثر في «الصَّحيحَين»: عن شَقِيق: عن أسامةَ بن زيدٍ قال: قيل له: ألا تَدخُلُ على عثمان فَتُكلِّمَه؟» في فترةٍ فيها شيءٌ من الفِتن، وشيءٌ من المحنِ، وشيءٌ من البلاء.

فتوجَّه بعضُ النَّاس إلى أسامةَ يَسألونه، ويطلبون منه أن يتكلَّم مع الأمير -وعُثمان -يومئذٍ- هو الأمير-؛ حتى يَنظُر إلى الأمور -مِن بابِ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر-؛ قيل له: «ألا تَدخلُ على عُثمان فتُكلِّمه؟»؛ ماذا كان جَوابُه؟ قال: «أتَرَون أني لا أُكلِّمه إلا أُسْمِعُكم؟!»؛ يعني: لا بُدَّ تُريدون منِّي أن لا أكلِّمَه إلا إذا أسمَعتُكم، أو أخبرتُكم، أو أنبأتُكم، أو أخرجتُ لكم تصريحًا، أو بيانًا، أو إشارةً، أو تسجيلًا؟!!!

ثم انظروا ما أجملَ التَّعليل -لهذا الوجهِ الجليلِ-؛ قال: «واللهِ؛ لقد كلَّمتُه فيما بيني وبينه مِن دون أن أفتح أمرًا لا أحبُّ أن أكونَ أوَّل مَن فَتَحَه».

هذه أخلاقُ الصَّحابة..

هذه أخلاقُ السَّلف..

هذه أخلاقُ خيارِ الأمَّة..

هذه أخلاق المؤمنين الأوَّلين العالِـمين العارِفين الصَّابِرين..

فأوَّل الأمورِ: آية.

وثانيها: حديث.

وثالثُها: أثرٌ من آثار السَّلف الصَّالحين.

ورابعُها: قاعدة مِن قواعد الفِقه.

وقَواعد الفِقه تَختلف عن قواعدِ الأُصول؛ لأنَّ قواعدَ الفِقه ألصقُ بِشُؤون المسلمين العَمَليَّة الحياتِيَّة الواقعيَّة العامَّة؛ بينما القواعد الأصوليَّة أقرب ما تكونُ إلى عقول العلماء وأنظارهم في التَّفهُّم والاستِنباط مِن النَّص؛ بينما القاعدةُ الفِقهيَّة إنَّما هي مُستنبطةٌ -أساسًا- مِن عُموم الأدلَّة الشَّرعيَّة، -سواءٌ في كتابِ الله، أو في سُنَّة رسول الله-صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-.

فمما اتَّفق عليه أهلُ العلم الثِّقات مِن القواعد الأساسيَّات في فهمِ الشَّريعة وأُصولِها المَنيعةِ؛ قولُهم: (درءُ المَفاسِدِ مُقدَّمٌ على جلبِ المَصالح)؛ هذه من قواعد الفِقه المحرَّرة والمحبَّرة.

وقد يلتحقُ بها -مِن مِثلها- قاعدةٌ أخرى -وفي السِّياق ذاتِه-؛ وهي قولُهم: (إنَّ ارتكابَ أخفِّ الضَّرَرَيْن هُو الأصلُ؛ دَفعًا لأكبَرِهِما).

أمامَنا ضَررانِ؛ لا بُدَّ أن نتلبَّس بِأحدِهما -ليس لنا خَيار-؛ فما هو الفِعل الحق؟!

الفِعل الحقُّ: ارتكابُ أخفِّهما؛ دفعًا لأكبرِهما وأشدِّهما.

القاعدة الثَّالثةُ -في الباب نفسِه، وانطلاقًا مِن الأصل ذاتِه-؛ قولُهم: (عندَ تَزاحُمِ المصالِحِ تُحَصَّلُ المصلحةُ الرَّاجحةُ، وتُترَكُ المصلحةُ المرجوحةُ).

فلننظر الواقعَ الأليم الذي يكاد يُودي بأمنِ البِلاد والعباد، والذي قد تكونُ بِدايتُه أمرًا هيِّنًا، وكلامًا ليِّنًا؛ كما يقولون: (نحن نفعل مَسيرةً سِلميَّة.. أو مُظاهرة سِلميَّة)!!!

فإذا بها في أوَّلها كذلك، وفي آخرها على النَّقيض مِن ذلك!!

فكيف إذا كانت مِن أوَّلها على غير ذلك؟!!

وقد تكون في أوَّلها وثانيها وثالِثها على معنى ذلك، وفي ما هنالك؛ لكنْ: في كلِّ مرَّةٍ تَزدادُ الحرارة، حتى تَنطلقَ الشَّرارةُ التي تَحرِقُ الأخضر واليابِس! وهم يَحسبون أنَّهم يُحسِنون صُنعًا!!

يحسبون أنَّهم قائمون بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر!

لكنْ: دون التِفاتٍ لآية! ودون انتِباهٍ لحديثٍ!! ومِن غير درايةٍ بآثارِ السَّلف!! ودون أن يَتأمَّلوا في أيٍّ مِن هذه القواعد الفِقهيَّة المحرَّرة المعتبرة عند أهلِ العِلم -لا في قليلٍ، ولا في كثيرٍ-.

قد تكون المصلحةُ المتوهَّمة آنيَّةَ النَّظرة؛ لكنَّ المصلحةَ الراجحة الصَّحيحة إنَّما تكون في معرفةِ المآلات.

و(فِقهُ إدراكِ المآلاتِ) فِقهٌ مِن أعظم الفِقه، وأجلِّه، وأدقِّه، وأرفعِه، ولا يكاد يُدركُه إلا الأفراد -في كلِّ زمانٍ ومكانٍ- مِن العلماء الرَّبَّانيِّين، والأئمَّة المتفقِّهين، الذين رَضُوا بِمنهجِ الحقِّ، ولم يَقبَلوا عنه بدلًا.

أمَّا الخامس: فهو بعضُ الفتاوى..

ولا نستطيع -بطبيعة الحال- أن نأتي عليها -جميعًا-؛ فأكاد أقولُ:

لا أعرف عالِـمًا مِن أهلِ السُّنَّةِ وأصحاب العَقيدة الصَّحيحة -في هذا الزَّمان-؛ إلا على الإنكارِ والتَّشديد -الشَّديد- على هذه المُظاهرات والاعتِصامات والإضرابات؛ لِـما عَرفوا مِن كونِها -أوَّلًا- أصلًا غيرَ شَرعيٍّ، وثانيًا: لِـما يترتَّب عليها مِن فسادٍ للبلاد والعباد.

وإذْ يُقرِّرون هذا ويُؤصِّلونه؛ فهُم -في الوقت نفسِه-ونحن معهم وبِهم- نَأبى الظُّلم، ونرفضُ الضَّيم، ولا نقبلُ الفَساد..

لكنْ: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾..

هكذا المؤمنُ الحق يَنظر إلى الخطِّ القويم، والصِّراط المستقيم -ولو كان أطولَ مَسارًا، وأبعد منالًا-؛ لكنَّ فيه النَّجاة، وفيه النَّجاح، وفيه الفلاح -دنيا وأخرى-.

سُئل الشَّيخ ابن بازٍ -رحمهُ اللهُ-:

قال له السَّائل: باتت ظاهرةٌ عند كثيرٍ مِن النَّاس؛ وهي التَّجمُّع والتَّجمهُر وخُروج المَسيرات والمظاهرات؛ كنوعٍ مِن إنكار المنكر؛ فما رأيُكم في ذلك؟

فقال الشَّيخ ابن باز..

ولو قيل هو أجلُّ علماء العصر وأكبرُهم وأعظمُهم؛ لَما أبعَدَ القائلُ؛ لأنه بَنى عِلمَه على كتاب الله وسُنَّة رسولِ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، ولم يَبْنِ عِلمَه على التَّحزُّب، وعلى استِرضاءِ العامَّة والدَّهماء، وعل استِمالة قلوب الغَوغاء؛ كما يفعلُ بعضُ ذَوي الأسماء الرَّنَّانة، والألقاب الطَّنَّانة -بغيرِ علمٍ، ولا هُدًى، ولا بصيرةٍ، ولا كتابٍ مُنير-!

قال: «الخروج في المظاهرات والمَسيرات ليس طَيِّبًا»؛ وإذا لم يكن طَيِّبًا؛ فهُو خبيثٌ، فليس -ثمَّة- إلا طيِّبٌ وخَبيث.

قال: «وليس مِن عادة أصحاب الرَّسول -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ومَن اتَّبعه بإحسان».

ألم يكون -في ذلك الوقت- مُنكرات؟

ألم يكن -في ذلك الزَّمان- مُخالفات؟

ألم يكنْ -في تلكُم الحقبةِ- ما يُخالف فيه شَرعُ الله، وما يُناقَض فيه كتاب الله؟

بلى؛ ولم يَنزعوا إلى ذلك، ولم يَفعلوا ولو أدنى ذلك.

قال: «إنَّما النَّصيحة، والتَّوجيه، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والتَّعاون على البرِّ والتَّقوى..»؛ وهذا ما ورد في أثرِ أسامة بن زيدٍ في نُصحِه لِعثمان -رضيَ اللهُ عنه-بينَه وبينه-، دون فتح بابِ فسادٍ وإفساد، ودون تأليبِ القلوب والعقول على أولياءِ الأمور؛ مما يُفسِد ولا يُصلح، مما يُسيئُ ولا يُفيد.

قال: «هذه هي الطَّريقة المتَّبعة؛ قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾» بعضهم أولياء بعض؛ ليس بعضُهم أضدادَ بعضٍ! ليس بعضُهم يُناقض بعضًا..!

«﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، وقال -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾».

قوله: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ﴾؛ (مِنْ) -هنا- قال بعضُ أهلِ العِلم: إمَّا أن تكونَ (مِنْ) التَّبعيضيَّة، أو أن تكونَ (مِنْ) لِبيانِ الجِنس.

فإذا كانت (مِن) تبعيضيَّة؛ فالمقصود -بهذا التَّبعيض-: أهل العِلم.

وإذا كانت (مِن) لِبيان الجِنس؛ فهي بِمعنى: (كُونوا أمَّة)؛ أي: بمقدار ما تَعرفون مِن الحق وتَهتدون إلى الصِّدق بِمِقدار ما تأمرون بالمعروفِ وتَنهَون عن المنكر؛ وهذا مِن أدلَّة تجزُّؤ العلم والمعرفة، وتجزُّؤ الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.

قال: «وقال -سُبحانَه-: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، وقال رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مَن رأَى مِنكُمْ مُنْكَرًا؛ فَلْيُغَيِّرْهُ بِيدِه، فإن لم يَستَطِعْ فَبِلِسانِه، فَإن لَم يَستَطِعْ فَبِقَلْبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ».

قال سماحتُه -رحمهُ اللهُ-: «فالإنكارُ بِالفعل يكون مِن الإمامِ، أو الأميرِ، أو مِن الهيئة التي لها تعليمات..»؛ الهئية: أي الفِئة التي يُولِّيها الأميرُ؛ لتنفيذِ الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر؛ لأنَّ اليَدَ يترتَّب عليها أمورٌ وأمور!

الآن: لو أن اثنين تَقاتلا باليدِ في السُّوق؛ لحصل مِن الفساد ما لا يعلم به إلا الله!!

فكيف إذا كان الأمر بالمعروفِ، والنَّهي عن المنكر موكُولًا إلى عامَّة النَّاس، مِن الهَمَج الرَّعاع -أولئك-؟!! أو مِن الهُوج الغَوغاء -هؤلاء-؟!

فهذا أشد وأنكى -عياذًا بالله-.

قال: «أمَّا أفرادُ النَّاس إذا أنكَرُوا باليَدِ؛ ستكونُ الفِتنة والنِّزاع والفُرقة وتضييعُ الفائدة..

فيجب على كلِّ شخصٍ أن ينصحَ بالقولِ والتَّوجيه والتَّرغيب والتَّرهيب..».

أما صاحبُ البيتِ على أولاده، والهيئة في نظامها -حسب طاقاتها-؛ يعني شركة، أو مؤسَّسة، أو جمعيَّة، أو ما أشبه.

وكذلك الأميرُ؛ فله الإنكارُ بالفِعل؛ بمعنى: أن يَسجن، أن يَضرِب، أن يَفعل، أن يأمُر، أن يَنهَى؛ لأنه الأمير.

لكنْ: لا نتكلَّم عن أمراء الأحزابِ والجماعات والحركاتِ والتَّنظيمات -سواءٌ منها ما كان عَلنيًّا- زعموا-أو سِريًّا- نتكلَّم عن الأمير الشَّرعيِّ، بضابطه الشَّرعي.

قال: «أمَّا أفرادُ النَّاس؛ فعلَيهم الإنكارُ بِالقول؛ لأنه لا يستطيع الإنكارَ بِالفِعل حتَّى لا تَعظم المصيبةُ، ويَعظم الشَّرُّ».

هُنا ورد سؤالٌ آخرُ على الشَّيخ -رحمهُ اللهُ-؛ يقولُ: «إنَّ الحاكمَ يَرضى لهذه الاعتصاماتِ والمظاهراتِ، ويستدلُّون بذلك على جوازها..».

بعض البلاد -بنفسِ النِّظام-الحُكومي، أو الرَّسمي- تقول: لا مانع مِن المظاهرات!!

يقول الشَّيخ ابن باز: «المُظاهرات شَرُّها كبيرٌ» حتَّى لو أذِن بها الحاكم؛ الحاكم -مهما أذِن- لا يستطيع أن يُوقِف على رأسِ كلِّ إنسان مَسؤولًا يُراقبه، أو على رأسِ كلِّ أحد مَن يَعرف خلفيَّته ودخليةَ نفسِه، وخبيئة فؤادِه!! هذه لا يَعلم بها إلا الذي بكلِّ شيء محيطٌ -جلَّ في عُلاه وعَظُم في عالي سَماه-.

هذه أصولٌ خمسة؛ كلُّها قائمةٌ على النَّاحية الشَّرعية، والأصول الدينيَّة.

ولمَّا كان الدِّين إنَّما هو مِن ضِمن ثمراتِه، ومِن ضمن مبادئِه، ومِن ضِمن نتائجِه: إصلاحُ الدُّنيا في نواحيها الاجتماعيَّة؛ فإنَّه قد يترتَّب على أمثال هذه المظاهرات مِن الفساد الدُّنيويُّ الاجتماعي ما الله به عليم!

مِن ذلك: لو فرضنا أن هذه المظاهرة -أو تلك- كما يقالُ -في لُغة العَصر-: (مظاهرةٌ نظيفةٌ بِنِيَّةٍ شريفةٍ)؛ هل يستطيع أحدٌ أن يأمنَ اندِساسَ المُندسِّين، ودخولَ المخرِّبين الذين لا يُريدون للأمَّة بَقاءَ صَفوِها، ولا يُريدون لها نقاءَ صفِّها؛ فيُفسِدون ليُصِيبوا طرَفَين: جِهة الحاكِم -مِن طرفٍ-، وجهة هذا المحكوم القائِم بهذا الأمرِ -مِن طرفٍ آخر-.

الأمر الثاني: ما يترتَّب عليه مِن شغبٍ وفوضى بما يجعل الأمَّة تكاد تفقِدُ أمانَها؛ والله -عزَّ وجلَّ- جعل الأمن مِن ثمرات الإيمانِ: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ﴾؛ فبِقَدر ما تُضيِّع من الأمن؛ يكونُ -ثمَّة- ضياعٌ ونقصٌ -لكَ- مِن الإيمان.

انظُروا، واعتبِروا، وتأمَّلوا ما جرى، ويجري، وما هو جارٍ وواقع مِن هذا الشَّغب، ومِن هذه الفوضى التي عمَّت وطمَّت كثيرًا من بلاد المسلمين..!

ونسأل اللهَ أن يجعل العاقبة سليمة، طيِّبةً خيِّرة، وأن يدرأ عنَّا وعن جميع بلاد المسلمين الفتنَ والمحن ما ظهرَ منها وما بطن.

الأمرُ الثَّالث: ما تُنتجه -تِلكُم- الفوضى، وما يُنتِجه -ذاك- الشَّغب؛ مِن تحطيمٍ لممتلكات -سواءٌ الخاصَّة والعامَّة-..

إنسانٌ واضعٌ سيَّارتَه أمام بيتِه؛ بأيِّ حق تَقلِبونها، أو تحرقونَها؟!!

الإشارات المروريَّة -الخضراء، والبُرتقاليَّة، والحمراء-التي تُسيَّر بها السَّيارات-؛ ما الفائدةُ مِن كسرِها، ومِن تحطيمِها، ومِن ضَربِها؟!!

وعلى هذا فقِسْ!

فكيف إذا عرفنا أنَّه قد يكون -هنالك- تخريبٌ، وحرقٌ لبعضِ الدُّورِ و..و.. غيرها من الأماكن.

أيضًا مِن ذلك: الاختلاط المُحرَّم بين الرِّجال والنِّساء.

فنَرى -في المظاهرة- الرَّجلَ والمرأة جنبًا إلى جنب!!

ورأينا -وعجِبنا مما رأينا!!- أنَّ النِّساء -في بعض الأحيان- هُنَّ اللَّواتي يُحرِّكنَ الرِّجال! وهنَّ اللَّواتي يَنطلقن بالهتافات!!

بل رأينا أنَّ المرأة تصعدُ على ظَهْر الرَّجل، وتُلوِّح، وتَصيح!!

فأي طريقةٍ فاسدة هذه؟!!

«وإنَّ ما عندَ اللهِ لا يُنالُ إِلا بِطاعَتِهِ» -كما قال رسولُ الله-صلَّى اللهُ عليهِ وسلم-.

هذا فضلًا عن استغلالِ أصحابِ الشَّهوات -وما أكثرَهم في هذه الأوقات!- مِن إيقاع ما لا يُتخيَّل في هذه المرأة -التي قد تكون أمامَه، أو بِجانبه، أو حتى فوقَه-!

وكذلك -أيضًا- مِن النَّتائج الفاسدة المفسدة لهذه الأفعال البعيدةِ عن الشَّرع: ضعف عقيدة الولاءِ والبراء في النُّفوس.

فنرى المسلمَ يَمشي بجانب الكافر!

الدَّاعية الذي يقولُ عن نفسِه إنَّه داعية إسلامي!! يضع يدَه بيد الشُّيوعي واليَساري والعِلماني، والفاسِق والطَّائع سواء؛ هذا يُنادي بشِعاره، وهذا يُنادي بشِعاره!! ولم تجمعهما إلا تِلكُم الغاية الفاسِدة التي ليس مِن ورائها فائدة؛ إلا إيقاع الأمَّة بِمزيد مِن البلاء، ومزيد من الفِتنة، ومزيدٍ من الفَساد.

الأمر السَّادس: ما يحصل -نتيجةَ المواجهة- بين الطَّرفين؛ مِن قتلٍ، وإيذاءٍ، وجَرح، وكَسر؛ حتى يكاد ذلك يُصيب بعضَ الأبرياء مِن المارِّين.. بعضَ الأبرياء مِن الذين ليس لهم صِلة -لا مِن قريبٍ، ولا مِن بعيد-؛ فإذا بهم يَدخلون في عرس واحد، وإذا بهم يُبتَلَون بابتِلاءٍ واحِد! وإذا بهم يُصابون -جميعًا- بِمُصيبةٍ واحدةٍ -فضلًا عن القتل، أو ما أشبه-!

وسمعتم -بالأمسِ القريب-: كيف حَرَق ذلك الرَّجُل نفسَه! ثمَّ زاد الطِّين بِلَّةً: أن اقتدى به مُقتَدون، واهتدى -بِسُوء فِعله- مُهتدون!! وهم -واللهِ- ليسوا على هُدى في هذا الصَّنيع -الشَّنيع-!!

فسمِعنا عمَّن حرَق نفسَه في مِصْر.. في السُّعودية.. في اليمن.. في الجزائر.. في موريتانيا.. وبلغني أن بعضًا مِن النَّاس حرَق نفسَه في عمَّان -هُنا-!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

والإمامُ الطَّبريُّ يقول: «لَم يأذن اللهُ -تَبارَك وتَعالى- لأيِّ أحدٍ أن يَقتلَ نفسَه -أبدًا-».

وهذا منصوصُ القرآن العظيم؛ الله -تَعالى- يقول: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾.

ولا يُقال: (الغاية تبرِّر الوسيلة)!!

لأن الغايَة في الشَّرع نبيلة؛ وكذلك الوسيلةُ يجب أن تكونَ نبيلةً -سواء بِسَواء-.

والعجبُ: أن بعضَ النَّاس صار يُسمِّي هذا الحريقَ -أو المُحرِقَ نفسَه-: (البَطَل!)، أو (الشَّهيد!)، أو (قائد الثَّورة!)!!

صدق رسولُ الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عندما ذكر بعضَ المحرَّمات، ونبَّه على بعض الأفعال السَّيِّئات؛ فقال : «يُسمُّونَها بِغَيرِ اسْمِها»؛ وهذا مِن هذا -سَواء بِسَواء-.

ومِن الأمور -أيضًا- والنَّتائج السَّيِّئة: تَعميق العداوة بين الحاكِم والمحكوم.

أنتَ جُزء لا يتجزَّأ مِن منظومة هذا البلد -أو ذاك-؛ أيُّهما أعظم لكَ ولِلحاكِم ولِلبلد وللنَّاحية الدِّينيَّة والاجتماعيَّة والشَّخصيَّة: أن تكون الصِّلةُ صِلةً فيها هدوءٌ واستِقرار -ولو هذا الهدوء والاستقرار نِسبيٌّ-كما يقولون-؟ أم أن تكونَ الصِّلة فَسادًا وإفسادًا، وغضبًا مُتأجِّجًا، وحقدًا دفينًا، وتربُّصًا وتَصيُّدًا، وعثرةً وانتقامًا؟!

لا شكَّ ولا ريبَ عند كلِّ عاقلٍ -ولا أريد أن أقول: عند كلِّ عالم!-: أنَّ مثل هذه الصَّنائع، ومثل هذه الفعائل؛ تزيدُ الحقد حِقدًا، وتزيد الانتقام انتقامًا، وتزيد الفجوة فجوةً؛ بما لا يكون فيه فائدةٌ، ولا نفعٌ -لا لِلفردِ، ولا للمجتمع، لا لِلحاكِم، ولا للمَحكوم-.

نسأل الله العظيمَ ربَّ العرشِ العظيم أن يُذهبَ عنَّا الفتن -ما ظَهر منها، وما بَطَن-، وأن يُولِّيَنا خِيارَنا، وأن يجعلَنا أهلًا لِلسُّنَّة ومِن أهل السُّنَّة، وأن يَجعلنا قائمين بالحقِّ، هادِين إلى الحقِّ، مُلتزِمين بالحقِّ؛ إنه -سُبحانه- وليُّ ذلك والقادِر عليه.

وصلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمَّد، وعلى آلِه وصحبه أجمعين.

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.



للتحميل

هنا