أثر الذنوب وأعمال الجوارح على القلوب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
فإن الحديث عن عمل القلب وأهميته وتفصيل ذلك وبيان ارتباط أجزاء الإيمان بعضها ببعض من خلال ارتباط أعمال الجوارح به، وكونها فرعاً له، وصورة لما فيه، ومقتضى لازماً له لا يعني أن أعمال الجوارح من الطاعات أو المعاصي لا تؤثر هي الأخرى على عمل القلب, وإننا في هذه السطور سنبين بمشيئة الله تعالى أثر المعاصي وأثر الطاعات على القلب.
أولاً: أثر الذنوب والمعاصي الظاهرة على القلب:
آثار المعاصي على القلب كثيرة جداً، وقد فصل الإمام الرباني ابن القيم -رحمه الله تعالى- كثيراً منها في كتابه "الجواب الكافي" وقد ذكر منها:
1- حرمان العلم النافع: فإن العلم نور يقذفه الله في القلب، والمعصية تطفئه، ولهذا كان السلف يرشدون تلاميذهم إلى ترك المعاصي؛ لكي يورثهم الله حقيقة العلم.
2- الوحشة بين العبد وربه: وهي وحشة لو اجتمعت لصاحبها ملذات الدنيا كلها لم تذهبها، ومن علاماتها وفروعها الوحشة بينه وبين أهل التقوى والإيمان.
3- الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه: فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن للحسنة ضياء في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق".
4- وهن القلب: فلا تزال المعاصي توهنه حتى تزيل حياته بالكلية، وهذا الوهن يظهر أثره على البدن، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم عند أحوج ما كانوا إليها, وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم.
5- تقصير العمر ومحق البركة: إذ بمقدار ما تمرض القلب وتذهب حياته فإن حقيقة الحياة هي حياة القلب، وعمر الإنسان هو مدة حياته، فكلما كثرت الطاعة زادت حياته، فزاد عمره الحقيقي، وكلما كثرت المعاصي أضاعت حياته وعمره.
6- أن العبد كلما عصى خفت عليه المعصية حتى يعتادها: وبذلك يموت إنكار قلبه لها، فيفقد عمل القلب بالكلية، حتى يصبح من المجاهرين بها، المفاخرين بارتكابها، وأقل ذلك أن يستصغرها في قلبه ويهون عليه إتيانها حتى لا يبالي بذلك وهو باب الخطر.
روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا قال أبو شهاب بيده فوق أنفه"1.
7- الذل: فالمعصية تورث الذل ولا بد؛ فالعز كل العز في طاعة الله تعالى، قال سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (10) سورة فاطر. أي فليطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعته, وكان من دعاء السلف: "اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك". وقال الحسن البصري –رحمه الله-: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
وقال عبد الله بن المبارك –رحمه الله-:
رأيت الذنوب تميت القلوب وترك الذنوب حياة القلوب وهل أفسد الدين إلا الملوك | وقد يورث الذلَّ إدمانُها وخير لنفسك عصيانها وأحبار سوء ورهبانها؟! |
8- الصدى والرَّان والطبع والقفل والختم: وذلك أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب عليه الصدأ حتى يصير راناً كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (14) سورة المطففين. ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله فحينئذ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد، وبمثل هذا اتخذ الشيطان من البشر دعاة وجنوداً.
9- إطفاء الغيرة من القلب: وهي الغيرة على محارم الله أن تنتهك، وعلى حدوده أن تقتحم، وعلى دينه أن يضعف أو يضيع، وعلى إخوانه المسلمين أن يهانوا أو يبادوا، بل على أهله ونفسه أن يقعوا في المعصية والهلاك، ولهذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- أغير الناس، كما ثبت في الصحيح أنه قال: ((أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني))2؛ فالمعاصي تضعف هذه الغيرة حتى تذهبها وتزيلها، ولهذا تجد المدمنين على المعاصي لا يبالون بما حل بالإسلام وأهله من كوارث ومحن، ولا يهمهم ذلك في شيء، وإنما همهم اتباع الشهوات وإضاعة الأوقات، ويرى الواحد منهم المنكر أمامه فلا تهتز له شعرة بل يفقدون الغيرة الخاصة، وهي الغيرة على العرض حتى تصير الدياثة فيهم طبعاً وسجية.
10- إذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب، وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه, والذنوب تضعف الحياء في العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، فلا يستحيي لا من الله ولا من العباد، والتلازم بين ارتكاب المحرمات وقلة الحياء لا يخفى على أحد.
11- إذهاب تعظيم الله ووقاره من القلب: فكما أن تعظيم الله وتوقيره يحجز عن المعصية، فإن ارتكاب المعصية يضعف التعظيم والتوقير، حتى يستخف العبد بربه، ويستهين بأمره ولا يقدره حق قدره.
12- مرض القلب وإعاقته عن الترقي في مراتب الكمال ودرجاته: فالذنوب تخرج صاحبها من دائرة اليقين وتنـزله من درجة الإحسان، بل تخرجه من دائرة الإيمان، كما في الحديث الصحيح: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن))3. فلا يبقى إلا اسم الإسلام بل ربما أخرجته منه؛ فإن المعاصي بريد الكفر.
13- إضعاف همة القلب وإرادته وتثبيطه عن الطاعة وتكسيله عنها، حتى يؤول به الأمر من الاستثقال إلى الكراهية والنفور، فلا ينشرح صدره للطاعة ولا يخرج ويضيق من معصية، ويصير جسوراً مقداماً على الخطايا جباناً بعيداً عن الحسنات رعديداً عليها.
14- الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه: فيخسف به بسبب ارتكاب الرذائل إلى أسفل سافلين وصاحبه لا يشعر، وعلامة ذلك الخسف أن يكون القلب جوالاً حول السفليات والقاذورات، متعلقاً بالمحقرات والأمور التافهات، عكس القلب الذي تزكى بالطاعات فصار جوالاً في معالي الأمور ومكارم الأخلاق, كما قال بعض السلف: "إن هذه القلوب جوالة فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحش".
15- مسخ القلب؛ فإن المعاصي والقبائح ما تزال تتكاثر عليه حتى تمسخ كما تمسخ الصورة فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنـزير كقلب الديوث، ومنها ما يمسخ على قلب كلب أو حمار أو حية أو عقرب بحسب عمله، وقد شبه -سبحانه وتعالى- أهل الجهل والغي بالحمر تارة وبالكلب تارة وبالأنعام تارة، وربما وصل الأمر إلى المسخ التام، وهو مسخ الصورة مع القلب كما حصل لبني إسرائيل حين جعل الله منهم القردة والخنازير.
16- نكد القلب وقلقه وضنكه، وهذا ملازم للمعصية ملازمة الظل لأصله، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124) سورة طـه، فالمعرض عن ذكر الله متعرض لذلك، لكن قد يتوارى داؤه بسكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة إن لم ينضم إلى ذلك الخمر، كالمشاهد في عصرنا الحاضر من إدمان المسكرات والمخدرات تخلصاً من ضيق الحياة ونكد العيش.
إخوانـي:
هذه بعض آثار معاصي الجوارح على القلب وعمله، فهي تذهب رضاه ويقينه وصدقه وإخلاصه وتوكله ومحبته، بل تذهب قوته وحياته وصحته وراحته، وتجمع له بين ذهاب حقائق الإيمان وبين عقوبات آجلة وعاجلة، كما رأينا في هذه الآثار. نسأل الله العافية والسلامة.
ثانياً: آثار أعمال الطاعات بالجوارح في أعمال القلب:
إن الحديث عن أثر الطاعات بالجوارح على القلب ينوء بالمجلدات الكبار؛ وذلك أن هذه هي مادة قيامه وقوته وعزيمته، والجوارح هي منافذه وثغوره.
وهل في الإمكان استيعاب ما تورثه الصلاة من رضاً وطمأنينة وخشوع وإنابة، أو ما يورثه الصوم من يقين وتوكل وإخلاص، أو ما يورثه الجهاد من محبة واستسلام وثبات وهكذا سائر الطاعات!!
ولهذا كله سوف نختار طاعة واحدة قد لا يحسب لها حساب إلا عند الخاصة من الناس وهي طاعة غض البصر عن المحرمات, فما الذي تورثه طاعة هذه الجارحة على قلب العبد المؤمن؟.
إن مما تورثه هذه الطاعة من التأثير على القلب ما يلي:
1- أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم -والذي لعل فيه هلاكه- إلى قلبه؛ ذلك أن النظرة سهم من سهام إبليس, كما جاء ذلك في الأثر.
2- أنه يورث القلب أنساً بالله وقرباً منه؛ فإن إطلاق البصر يصرف القلب ويشتته ويبعده عن الله، ويوقع الوحشة بين العبد وربه.
3- أنه يكسب القلب نوراً -كما أن إطلاقه يكسبه ظلمة- ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر فقال –جل وعلا-: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النــور، ثم قال إثر ذلك: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (35) سورة النــور، أي: مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت من بدعة وضلالة، واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة واشتغال بأسباب الشقاوة، فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا أفقد القلب ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام.
4- أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه، لكن قد لا يحس بذلك إلا ذو البصيرة.
5- أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميزها بين المحق من المبطل، والصادق من الكاذب، فإن الله -سبحانه وتعال- يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فإذا غض بصره عن محارم الله عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضاً عن حبسه بصره لله، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تنال ببصيرة القلب.
وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العُمْهِ الذي هو ضد البصيرة، فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (72) سورة الحجر, فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعمه الذي هو فساد البصيرة، ثم عقب الله تعالى على قصتهم بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} (75) سورة الحجر، وفي ذلك إشارة إلى ما تقدم من العلم والإيمان والفراسة.
6- أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة، يجمع الله له بين سلطان البصيرة، والحجة وسلطان القدرة والقوة، وضد هذا تجده في المتبع هواه، من ذل النفس، ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها.
7- أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثل له صورة المنظور إليها، ويزينها ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب ثم يعده ويمنيه، ويوقد على القلب نار الشهوة ويلقي عليه خطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار، وتلك الزفرات والحرقات؛ فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جعل لهم في البرزخ تنور من نار، وأودعت أرواحهم فيه إلى حشر أجسادهم.
8- أنه يفرغ القلب للفكر في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك، ويحول بينه وبينها، فتنفرط عليه أموره، ويقع في اتباع الهوى، وفي الغفلة عن ذكر ربه، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) سورة الكهف, وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه.
9- أن بين العين والقلب منفذاً أو طريقاً يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب.
وكذلك في جانب الصلاح؛ فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به، والسرور بقربه وإنما يسكن فيه أضداد ذلك4.
كل هذه –أخي المسلم- إشارات إلى بعض فوائد غض البصر تطلعك على ما ورائها من الفوائد الأخرى، وهذه بعض فوائد طاعة واحدة، فيا ترى ما الفوائد الأخرى لغيرها من الطاعات المعلومة من الدين بالضرورة؟!
نسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته إنه سميع مجيب, وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين،،،