أقسام الناس بعد سماع الموعظة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن أساليب الدعوة إلى الله كثيرة ومتنوعة، ومن هذه الأساليب أسلوب الموعظة الحسنة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} سورة النحل(125). قال البغوي: "يعني مواعظ القرآن. وقيل: الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب. وقيل: هو القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف"1. فبالموعظة الحسنة يُعلم الجاهل، ويُذكر الغافل، ويرد الشارد، ويوقظ أصحاب الضمائر، وتوجل القلوب المؤمنة، وتذرف العيون الباكية، بل إن المواعظ كما يقول ابن رجب -رحمه الله-: "سياط تضرب القلوب، فتؤثر في القلوب كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثره في حال وجوده، لكن يبقى أثر التأليم بحسب قوته وضعفه، فكلما قوي الضرب كانت مدة بقاء الألم أكثر". ولكن هذه المواعظ: لا تنفع إلا إذا خرجت من القلب، فإنها تصل إلى القلب، فأما إذا خرجت من اللسان فإنها تدخل من الأذن ثم تخرج من الأخرى". والناس بعد سماع الموعظة ينقسمون إلى عدة أقسام: فمنهم من يرجع -بعد سماع الموعظة- إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر، ولا يزداد هدى، ولا يرتدع عن رديء، وهؤلاء أشر الأقسام، ويكون ما سمعوه حجة عليهم، فتزداد به عقوبتهم وهؤلاء الظالمين لأنفسهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} سورة النحل(108). ومنهم من ينتفع بما سمعه، وهم على أقسام: فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات، ويوجب له التزام الواجبات، وهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين، ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات، والتورع عن دقائق المكروهات، ويشتاق إلى إتباع آثار من سلف من السادات، وهؤلاء السابقون المقربون. وينقسم المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس والغفلة عنه إلى ثلاثة أقسام: فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها، فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر من استحضار عظمة الله وجلاله وكبريائه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وخشوا لكمال معرفتهم وشدة خوفهم أن يكون نفاقاً، فأعلمهم النبي-صلى الله عليه وسلم- أنه ليس نفاق. وفي صحيح مسلم عن حنظلة أنه قال: يا رسول الله نافق حنظلة، قال: (وما ذاك؟) قال: نكون عندك تذكرنا بالجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا رجعنا من عندك عافسنا الأزواج والضيعة، ونسينا كثيراً، فقال: (لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة). وفي رواية له أيضاً: (لو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطرق). ومعنى هذا: أنّ استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جداً، ولا يقدر كثير من الناس أو أكثرهم عليه، فيكتفي منهم بذكر ذلك أحياناً، وإن وقعت الغفلة عنه في حال التلبس بمصالح الدنيا المباحة، ولكن المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك، بل يلوم نفسه عليه، ويحزنه ذلك من نفسه، العارف يتأسف في وقت الكدر على زمن الصفا، ويحن إلى زمان القرب والوصال في حال الجفا. وقسم آخرون يستمرون على استحضار حال مجلس سماع الذكر فلا يزال تذكر ذلك بقلوبهم ملازماً لهم، وهؤلاء على قسمين: أحدهما: من يشغله ذلك عن مصالح دنياه المباحة، فينقطع عن الخلق فلا يقوى على مخالطتهم، ولا القيام بوفاء حقوقهم، وكان كثير من السلف على هذه الحال؛ فمنهم من كان لا يضحك أبداً، ومنهم من كان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد. والثاني: من يستحضر ذكر الله وعظمته، وثوابه وعقابه بقلبه، ويدخل ببدنه في مصالح دنياه من اكتساب الحلال والقيام على العيال، ويخالط الخلق فيما يوصل إليهم به النفع مما هو عبادة في نفسه؛ كتعلم العلم، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهؤلاء أشرف القسمين، وهم خلفاء الرسل، وهم الذين قال فيهم علي -رضي الله عنه-: "صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى". وقد كان حال النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الذكر يتغير ثم يرجع بعد انقضائه إلى مخالطة الناس والقيام بحقوقهم، ففي مسند البزار ومعجم الطبراني عن جابر -رضي الله عنه- قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحي، قلت: نذير قوم، فإذا سرّي عنه فأكثر الناس ضحكا، وأحسنهم خلقا. وفي مسند الإمام أحمد عن علي أو الزبير قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطبنا فيذكرنا بأيام الله حتى نعرف ذلك في وجهه وكأنه نذير جيش يصحبهم الأمر غدوة، وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسم ضاحكاً حتى يرتفع عنه. وفي صحيح مسلم عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه، وعلا صوته، كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم. وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اتقوا النار) وأشاح ثم قال: (اتقوا النار) ثم أعرض وأشاح ثلاثاً حتى ظننا أنه ينظر إليها، ثم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة). وسئلت عائشة كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خلا مع نسائه؟ قالت: كان كرجل من رجالكم إلا أنه: كان أكرم الناس، وأحسن الناس خلقا، وكان ضحاكاً بساماً. فهذه الطبقة خلفاء الرسل عاملوا الله بقلوبهم، وعاشروا الخلق بأبدانهم.2 وقد كان أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا سمعوا الموعظة تأثروا تأثراً بليغاً، فتوجل قلوبهم، وتذرف عيونهم؛ وشاهد ذلك ما جاء في حديث أبي نجيح العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا؟ قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ- أي الأنياب- وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)3. وهذه هي حالة الصادقين في إيمانهم أنهم إذا ذكِّروا بالله أو ذكروا الله وجلت قلوبهم، وفاضت عيونهم، واقشعرت جلودهم؛ يقول الله تعالى عنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} سورة الأنفال(2). وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} سورة الحـج (34)(35). وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} سورة الزمر(23). والله نسأل أن يجعلنا من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وتقوى، وعلماً وعملاً. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 1 معالم التنزيل (52). 2 راجع: لطائف المعارف، صـ(17). للحافظ ابن رجب. 3 رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(37). موقع : إمام السجد |
----------------------------------- مُدَاوَاةُ الْقُلُوب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد : أولاً السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وأسال الله عز وجل أن يكتب لنا جميعاً في لقاءنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما يرضى ، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، وأن يهب لنا من لدنه رحمة ، وأن يصلح لنا نياتنا وذرياتنا ، وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيما . أيها الأخوات : الأصل في هذا الباب « باب مداواة النفس » هو قول الله تبارك وتعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ } [الحشر:18] ؛ { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } فهذا أصلٌ في مداواة النفس ومحاسبتها بأن يكون العبد متفكراً ومتأملاً ومتدبراً ما قدَّمه لغده يوم يلقى الله جل وعلا ، كما في الآية الأخرى وهي قوله سبحانه وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] . والناس مع النفس على قسمين : 1- قسمٌ حاسب نفسه وعاتبها ونهض بها إلى معالي الأمور وفضائل الآداب وكوامل الأخلاق . 2- وقسمٌ غمس نفسه في الرذائل وحقَّرها بفعل القبائح ودنَّسها بارتكاب المعاصي والآثام . ولهذا قال الرب تبارك وتعالى في القرآن الكريم في ذكر هذين القسمين : {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا }[الشمس:9-10] ؛ {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } أي زكى نفسه وذلك بأن يكون طهَّرها ونقاها من الكفر والمعاصي والآثام وجاهد نفسه على البعد عن ذلك كله وأصلحها بالطاعات والأعمال الصالحات ، وهذا هو معنى الآية في تفاسير أهل العلم ؛ {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }: أي طهَّرها ونقاها وأبعدها عن الكفر والفسوق والعصيان وحلاها بطاعة الرحمن تبارك وتعالى ولزوم أمره جل وعلا . قال بن القيم رحمه الله في معنى الآية {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} : (( أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي )) انتهى كلامه رحمه الله . الشاهد أن الناس في هذا الباب على قسمين : قسمٌ يجاهد نفسه على صلاحها واستقامتها ، وقسم آخر يطاوع نفسه الأمارة بالسوء على ما تدعوه إليه من أمورٍ تجره إلى سخط الله تبارك وتعالى وعقابه . ثم إن الله عز وجل قد ركّب في الإنسان نفسين : نفساً أمارةً بالسوء ، ونفساً مطمئنة ؛ وهما متعاديتان ، النفس الأمارة بالسوء معادية للنفس المطمئنة ، والنفس المطمئنة معادية للنفس الأمارة بالسوء ، فكل ما خفَّ على هذه ثقل على هذه ؛ أي الأمور التي تطلبها النفس الأمارة تأباها النفس المطمئنة ، والأمور التي تطلبها النفس المطمئنة تأباها النفس الأمارة ، وكلما التذَّت إحداهما بشيء تألمت الأخرى به ؛ فمثلا : إذا التذت النفس الأمارة بفعل معصية تألمت النفس المطمئنة لفعلها ، ولهذا فإن النفس الأمارة بالسوء أشقُّ شيءٍ عليها فعل الطاعات والقيام بالأمور التي تُرضي الله سبحانه وتعالى ، والنفس المطمئنة أشقُّ شيءٍ عليها فعل المعاصي والآثام ، وفي الإنسان نفس أمارةٌ بالسوء كما يدل لذلك قول الله عز وجل فيما حكاه عن امرأة العزيز { وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف:53] إن النفس لأمارة بالسوء : أي تأمر صاحبها بكل سوءٍ وتدعوه إلى المهالك وتهديه إلى كل قبيح ، هذه طبيعتها وهذه سجيتها ، إلا من وفقه الله وثبته وأعانه فسلِم منها ، ولهذا جاء في الآية {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} أي فنجا من غوائل نفسه وشرورها ، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى : {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـَكِنّ اللّهَ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [النور:21] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وأكرم خلقه {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] وكان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في خطبة الحاجة ويعلِّم أصحابه أن يقولوا : ((الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا )) ، فكان عليه الصلاة والسلام يتعوَّذ بالله من شر النفس وسيئات العمل ، وذَكَر سيئات العمل بعد شر النفس لأن سيئات العمل فرعٌ عن شر النفس ، فإذا خبُثت النفس وشانت دعت صاحبها إلى الأعمال السيئة والأقوال القبيحة ودفعته إلى المهالك ، ولا يسلَم منها إلا إذا سلَّمه الله تبارك وتعالى ونجَّاه من غوائلها . وإذا علم المسلم أن النفس بهذه الصفة وأن النفس الأمارة بالسوء هذا شأنها وهذه صفتها وأنها تدعو إلى المعاصي وتُبعد عن الطاعات وتوهِّي الإيمان وتُضعفه ؛ إذا عرف ذلك لزمه أن يجتهد في مداواة نفسه ومعالجتها ومحاسبتها ومعاتبتها ولومها حتى يسلَم من مغبَّتها وعواقبها الوخيمة ونهاياتها المردية ، وأن يكون خطام نفسه بيده لا أن يجعل الخطام للنفس ، بمعنى أن يجعل نفسه هي التي تقوده فيكون متبعاً لشهوات نفسه ومراداتها غير مبالٍ ولا مكترثٍ بما يرضي الله أو يسخطه ، ليس له همّ إلا أن يتابع شهوات نفسه وحظوظها ، فلا يزال مطيعاً لها متَّبعا لها منقاداً لطلباتها حتى توقعه في الردى والمهالك ، فتصبح نفسه الأمارة بالسوء هي القائد ويصبح هو المقود ، بينما الأصل أن يكون مجاهداً لنفسه كما قال عليه الصلاة والسلام : ((الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ)) والله يقول في القرآن الكريم : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت:69] جاهدوا فينا : أي أنفسهم . فالنفس تحتاج إلى مجاهدة ، تحتاج إلى محاسبة ، تحتاج إلى متابعة ، أما إذا ترك الإنسان الأمر لنفسه فيما تشتهيه وفعَل كل ما تطلبه وتبتغيه فإن هذا أضرُّ شيءٍ يكون على الإنسان في دينه ودنياه ، ولا يزال متابعاً لنفسه مطيعاً لها حتى توقعه في الهلاك والردى ، والعاقل الناصح لنفسه هو من يجاهد نفسه على توقي الآثام والبعد عن المعاصي ويجاهد نفسه على فعل الأخلاق الفاضلة والآداب الكاملة والأمور التي تُرضي الرب تبارك وتعالى . وأعظم معِينٍ للعبد على ذلك أن ينظر إلى الغد وهو اليوم الذي يلقى الله فيه ويقف فيه بين يدي الله ويحاسبه على ما قدَّم في هذه الحياة ، وهذا المعنى مستفاد من الآية المتقدمة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ } فإذا أخذ نفسه بهذا المأخذ وحاسبها هذه المحاسبة وذكَّرها دائماً بغدِه يوم وقوفه بين يدي الله فإنه بهذه الطريقة يتخلَّص بإذن الله تبارك وتعالى من شر نفسه ، فإذا دعته يوماً أو ساعة من الساعات إلى أمرٍ يسخط الله ويغضبه تبارك وتعالى ذكّرها بقيامها بين يدي الله ووقوفها أمام الله سبحانه وتعالى ، ذكَّرها بالحساب والجزاء والعقاب والجنة والنار ، ذكَّرها بهذه المعاني حتى تكُفّ عن دعوته إلى العصيان ، ذكَّرها بالجنة والنار ، ذكَّرها بآيات الترغيب والترهيب {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] ، يذكرها بهذه المعاني حتى ترتدع وتنزجر وتكف عما هي قادمة إليه من المعاصي والآثام ، وهذا ما يسمى عند أهل العلم بمداواة النفوس أو محاسبة النفوس . قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : ((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا )) ؛ ففيه دعوة إلى محاسبة النفس ، والآثار عن السلف في هذا المعنى كثيرة ، وبعض أهل العلم المتقدمين مثل ابن أبي الدنيا والآجري وغيرهما من أهل العلم كتبوا كتباً خاصة في محاسبة النفس وجمعوا في هذا الباب آثاراً عديدة عن سلف الأمة وخيارها من الصحابة ومن اتبعهم بإحسان ، ومن ذلكم قول علي رضي الله عنه : ((ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَنُونَ - أي هناك أبناء للدنيا وهناك أبناء للآخرة - فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلا حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلا عَمَلَ )) لأن اليوم الآخر هو يوم المجازاة والمحاسبة . ولهذا من الخير للإنسان أن يعمل بهذه الوصية المباركة العظيمة ألا وهي محاسبة النفس ، أن يحاسب هو نفسه قبل أن يحاسبه ربه يوم القيامة ، يحاسب نفسه : ينظر في أعماله ، في أخلاقه ، في آدابه ، في سلوكياته ، ينظر ثم يزنها بالموازين الصحيحة والمقاييس القويمة ، فينظر هل هي على الاستقامة أم على الخطأ ، فإذا كانت على الاستقامة حمِد الله على توفيقه وتيسيره وجاهد نفسه على الثبات على ذلك ، وإذا كان في أعماله خللٌ أو تقصيرٌ أو خطأٌ أو انحرافٌ أو زللٌ أو غير ذلك جاهد نفسه على التوبة من تقصيره وخلله وحملها على الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى . ومحاسبة النفس في الدنيا خيرٌ للإنسان من أن يحاسَب في القيامة كما قال عمر : ((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا )) فكون الإنسان يحاسب نفسه بنفسه في الدنيا ليصلِح الخطأ وليتجنب الزلل وليقوِّي الطاعة وصالح العمل خيرٌ له من أن يحاسَب يوم القيامة ثم يقول ولا يفيده ذلك { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } [الزمر:56] ، فهذه الندامة والأسف والحسرات ليست تنفع شيئا ، فمن الخير للإنسان أن يُحاسب نفسه مادام في دار العمل وفي ميدان العمل . وقد ذكر العلماء رحمهم الله في محاسبة النفس ومداواتها أن محاسبة النفس نوعان : نوعٌ قبل العمل ، ونوعٌ بعد العمل ؛ محاسبة للنفس قبل أن يعمل قبل أن يُقدِم على العمل الذي يريد أن يُقدم عليه . ونوع بعد العمل . § أما المحاسبة التي تكون قبل العمل : وذلك بأنَّ الإنسان إذا همت نفسه بعمل ما أو أرادت الإقدام على عمل ما لا يبادر ولا يندفع إلى هذا العمل الذي دعته إليه نفسه ، يحاسبها أولاً قبل أن تعمل ، فينظر هل هذا العمل فيه خير أو شر ، فيه نفع أو ضر ؛ قبل أن يعمل ، فإذا تبين له أنه خير وصلاح ونفع وفائدة فعَله ، وإذا تبين له أنه شر وسوء تركه . أي خيرٌ للإنسان أن يُدخل نفسه في القبيح وأن يُقحمها في العمل الرذيل !! فإذاً هذه محاسبة قبل العمل ، يحاسب نفسه قبل أن يعمل فينظر في العمل الذي هو قادم عليه ومتجه إلى فعله ينظر ويتأمل قبل أن يخطو خطوة إلى ذلك العمل ينظر هل فيه خير أو ليس فيه خير له ، فإذا كان فيه خير أقدم ، وإذا كان فيه شر أحجم . § والنوع الثاني من محاسبة النفس : هو محاسبتها بعد العمل ؛ أي بعد أن تقع في العمل ؛ فينظر في العمل الذي وقع هل هو نافع أو ضار ؟ هل هو خير أو شر ؟ فإذا كان خيراً حمد الله على توفيقه لاستعمال وقته في خير، وإذا كان غير ذلك إذا كان خطأً أو زلةً أو هفوةً فإنه يبادر بالمعالجة والندم والتوبة والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى . فالمحاسبة تُثمر ثمرات عظيمة ، أما والعياذ بالله من يمشي في هذه الحياة مهملاً نفسه تاركاً لمحاسبتها مسترسلاً مع طلباتها مسهِّلاً الأمور يُمشي الأمور وإن كانت مهلكة له لا يبالي ، مثل حال أهل الغرور وأهل الغفلة ، يُغمض عينيه عن العواقب ويمشِّي الحال لا يفكر في العواقب ، همُّه في طلب نفسه فقط دون نظر في العواقب سواءً العواقب الدنيوية أو العواقب الأخروية ، فبعض الناس يمشي مسترسلاً مع طلبات نفسه ورغباتها ونزواتها وحظوظها ولا يفكر في العواقب ، لا في العواقب الدنيوية وهي ما تجلبه المعاصي من شؤم ومضرة على الإنسان في صحته وفي ماله وفي حياته كما قال الله جل وعلا {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] فالمعصية والانحراف له شؤم على الإنسان في حياته الدنيا ، إضافةً إلى ما يترتب عليه يوم القيامة من العقوبات ، فبعض الناس لا يبالي ، يغمض عينيه ويخوض في شهوات النفس ورغباتها ونزواتها ويُمشي الحال ويمضي مغتراً مهمِلاً لنفسه ومحاسبتها ، مهملاً النظر في عواقب الأمور ، يسهِّل الأمور وربما يتكل على العفو كما هي حال بعض الناس يخطئ ويذنب ويعصي وفي نفسه يقول الله غفور ، نعم الله غفور وأيضا عقابه شديد كما قال عز وجل {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} ففيه مغفرة وفيه عذاب ، والمسلم بين الرجاء والخوف ، يحسن المسلم الأعمال ويخاف ، بينما من ليس عنده إيمان فإنه يسيء الأعمال ولا يخاف ، مثل ما قال الحسن البصري رحمه الله : (( إن المؤمن جمع بين إحسان ومخافة ، والمنافق جمع بين إساءة وأمن)) يعني يسيء في العمل وآمن من العقاب ، وهذا حال أهل الغرور وأهل الغفلة وأهل الإعراض لا يحاسب نفسه ويمشي الأمور ويهونها ولا يزال من خطأ إلى خطأ ومن معصية إلى معصية إلى أن يخسر دنياه وأخراه ، بينما العاقل يأخذ بخطام النفس وزمامها ويجاهدها ويحاسبها ويلومها ويعاتبها ، يا نفس إلى متى هذا التقصير ؟ يا نفس إلى متى هذا العصيان ؟ لا نفس ألا تذكرين الوقوف بين يدي الرحمن ؟ يا نفس ألك صبرٌ على النار وعذاب الجبار سبحانه ؟ يا نفس يا نفس يحاسبها لا يترك الأمر لها ، إذا دعته إلى غفلة أو إلى معصية أو إلى خطأ لا يطيعها بل يحاسبها ويعاتبها ويلومها حتى تكف ، وهذا هو معنى الآية المتقدمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} والمقصود إصلاح القلب بمحاسبة النفس وأن صلاحه بمحاسبة النفس ، أما إذا أهمل نفسه واسترسل مع طلباتها فسدت والعياذ بالله نفسه وأفسدت عليه حياته ، والنفس تدعو الإنسان إلى العصيان ، تدعوه إلى اتباع الشهوات ، توقعه في المهلكات ؛ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إغاثة اللهفان : ((النفس داعية إلى المهالك ، معينة للأعداء ، طامحة إلى كل قبيح ، متبعة لكل سوء ، فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة ، فالنعمة التي لا خطر لها الخروج منها والتخلص من رقها ، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله ، وأعرف الناس بها – أي بالنفس – أشدهم إزراءً عليها ومقتاً لها )) ؛ الذي يعرف النفس وشرورها وما تدعو إليه من المعاصي والآثام يكون غير مطيعٍ لها وغير منقادٍ لطلباتها ورغباتها ونزواتها بل يمنعها ويجاهد نفسه على ترك الآثام والبعد عن العصيان . وهنا ينبغي أن يُعلم أن من وراء النفس – نفس الإنسان – شيطان يدفع الإنسان إلى المعاصي دفعا ويقوده إلى الآثام في خطواتٍ حذَّر الله سبحانه وتعالى عباده منها بقوله {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] ، وقوله {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] فالإنسان بين نفس أمارة بالسوء وشيطان يدعوه إلى الفساد وهو عدوٌّ يراك ولا تراه ، وأيضاً دنيا فيها فتن ومغريات كثيرة متعددة ؛ فهو بين هذه الأمور الثلاثة : النفس الأمارة بالسوء ، والشيطان ، والدنيا بفتنها ومغرياتها الكثيرة المتعددة ، وكل ذلكم يحتاج إلى مجاهدة ، لتتحقق للعبد نجاته وخلاصه ، ولهذا قال من قال : " ليس العجب ممن هلك كيف هلك ، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا " ، فالعجب ممن ينجو من هذه المهالك وهو من أعانه الله سبحانه وتعالى ووفقه على مداواة نفسه ومحاسبتها والأخذ بخطامها وزمامها وعدم الاسترسال والطاعة لها فيما تدعو إليه من نزوات وشهوات وغير ذلك . عرفنا أهمية معالجة النفس ومداواتها و محاسبتها ؛ فيأتي هنا سؤال لعله يكون خاتمة هذا اللقاء : ما هي الأمور التي تعين الإنسان على التخلص من شرور نفسه والوقاية من نزواتها ودفعها صاحبها إلى كل شر وهلكة ؟ ما هي الخطوات العملية التي ينبغي للإنسان أن يفعلها ليتخلَّص بإذن الله تبارك وتعالى من شر نفسه ؟ هناك نقاط ينبغي التنبه لها والعناية بها في هذا الباب العظيم الخطير : v النقطة الأولى : حسن الالتجاء إلى الله والاعتصام به والاستعاذة به تبارك وتعالى من شر النفس كما مرّ معنا في دعاء نبينا عليه الصلاة والسلام في خطبة الحاجة قال : (( الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا )) ، فهذا أهم ما يكون حُسن اللّجوء إلى الله وطلب العوذ منه ، التعوذ به تبارك وتعالى ، الاستعاذة به من شر النفس ، وأيضا سؤاله تبارك وتعالى صلاح النفس كما في الدعاء المأثور : ((اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا )) فيسأل الله عز وجل أن يصلح له نفسه ويسأله تبارك وتعالى أن يعيذه من شرها ، هذه الخطوة الأولى أو النقطة الأولى . v النقطة الثانية : مجاهدة النفس على فعل الصالحات والأخلاق الفاضلات والآداب الطيبات ، وأيضا مجاهدة النفس على البعد عن ما لا خير فيه من سيء الأعمال وقبيح الخصال وقبيح الأقوال ، يجاهد نفسه على البعد عن ذلك عملاً بقوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ)) فيجاهد نفسه ، قال عليه الصلاة والسلام ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ )) فيجتهد في مجاهدة نفسه على فعل الأعمال الصالحة الطيبة النافعة . v النقطة الثالثة : هي أن يتخير من الإخوان والرفقاء والخلطاء من يعينونه على الخير ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ((الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ )) فينظر الإنسان في الرفقاء والأصحاب ومن يخالط لأن من الأصحاب من هو عونٌ للإنسان على الخير والصالحات ، ومنهم والعياذ بالله من هو عون له على الشر والسيئات ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ((مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً ، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً )) وكانوا يقولون الصاحب ساحب ، ولهذا من مداواة النفوس تخيُّر الرفقاء والإخوان وأن يصبر معهم ومع مجالستهم حتى يكونون عوناً له على مداواة نفسه ، قال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف:28] . v الأمر الرابع في مداواة النفس : أن يذكِّر الإنسان نفسه في وقوفه بين يدي الله ومحاسبة الله تبارك وتعالى له يوم القيامة ، وهذا المعنى مستفاد من قوله { وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ينظر إلى يوم الحساب يوم العقاب ويوم المجازاة ، فالنفس إذا ذُكرت بذلك أحجمت عن السيئات وأقبلت على الطاعات ، وأيضا هذا المعنى مستفاد من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا )) . والموضوع له جوانب عديدة ومجالاته واسعة ولعلَّ في هذه الخلاصة كفاية وغنية ، وأنصح الأخوات بقراءة كتاب شرح منظومة السير إلى الله والدار الآخرة للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله حيث ذكر أبياتاً جميلة في معالجة القلب وإصلاحه بالأعمال والخصال الفاضلة ، وشرحه شرحاً جميلاً واضحاً بينا في الكتاب المشار إليه بدأ المنظومة بقوله : سعد الذين تجنبوا سبل الردى وتيمموا لمنازل الرضوان ثم أخذ يذكر صفات وخصال جميلة لمن كانت هذه حالهم ، ومن المناسب أيضاً حفظ هذه المنظومة وأن يشجع بعضنا بعضا على حفظها والاستفادة منها ففيها خير عظيم وفائدة كبيرة . وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يصلح أحوالنا أجمعين ، اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، ونسألك يا الله أن تصلح لنا شأننا كله وأن تهدينا سواء السبيل . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . |