خطبة المسجد الحرام - 25 شعبان 1431 - الموعظة وأثرها - الشيخ عبد الرحمن السديس
الخطبة الأولى :
الحمد لله .. تبارك ربنا إلها رحيما غفارا ، أحمده - سبحانه - لم يزل عفوه مدرارا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تنهج لنا من الحياة عظة وادكارا ..
وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبد الله ورسوله أعظم البرية استباقا للآخرة وابتدارا ، أزكى من وعظ وذكر وبشر وأنذر فانهملت العيون استعبارا والأفئدة اعتبارا ..
اللهم فصلِّ عليه وعلى آله الألى طابوا نفوسا وجلوا أقدارا ، وصحابته صفوة الدنيا خشية لله وافتقارا وتشميرا للآخرة واصطبارا ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان يرجو فوزا عظيما واستبشارا ، وسلم يارب تسليما مباركا عديدا زكيا مديدا .
أما بعد .. فياعباد الله : خير المقام الذي بر ووفى ووعظ وكفى وأصاب الحق وما جفا وآسى فشفى وأنقذ من كان من الزيغ على شفا تقوى الله في السر والخفا ..
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله - واعلموا أن الدنيا ممر وعبور سريعة الزوال والمرور دار المطايا والمراحل وكل من فيها عنها رواحل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (سورة الحشر 18) ..
فعليكَ تقوَى الله فَالزَمْهَا تفُزْ *** إنَّ التَّقيَّ هو البهيُّ الأهْيَبُ
واعْمَلْ لطاعتِهِ تنلْ منهُ الرِّضَا *** إنَّ المطِيعَ لربِّهِ لَمُقرَّبُ
أيها المسلمون : مع اشتداد أنساق الحياة واحتدامها وانبعاث النفوس في صخب طموحها وآمالها ومفدحاتها وآلامها تعتري القلوب سُجف الغفلة عن الفناء وحُجب الدنيا عن شدائد اللقاء ، فما تبرح الأمة بين الفينة والأخرى في حاجة لمن يذكرها إذا ذهلت ويعلمها إذا جهلت ويعظها إن ضلت ويكف بأسها إن أضلت .. سيان شأن القلوب في ذلك إن تلطخت بالسيئات وقارفت الموبقات ذهب بهاؤها وذبل رواؤها وخفت إشراقها وذوى ائتلاقها وقل خشوعها وغاض خضوعها وتأبت على التسكاب دموعها ..
ولكن متى سُقِيت برحيق القرآن وصُقِلَت بمساحج الذكرى والإيمان وهدي سيد ولد عدنان - عليه الصلاة والسلام - رقت ولانت وتطهرت ودانت وتشوقت - يابشراها - للجنان التي ازدانت وتقصت عن القسوة وبانت .. أما قال الباري - سبحانه - : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (سورة يونس57) ؛ فسمى القرآن (موعظة) ، وفي هذا أكبر منقِذة ..
وقال جل جلاله : ... وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (سورة النساء 66) ..
خَابَ الذي سارَ عنْ دنيَاهُ مُرتحِلا *** وليْسَ في كفِّهِ منْ دينِهِ طَرَفُ
لا خيرَ للمرْءِ إلا خيرُ آخرةٍ *** يُبقِي عليه فَذَاكَ العِزُّ والشَّرفُ
ألا ما أجل قدر الموعظة وأبدع سناها ! وما أعظم آثار التذكرة وأكرم نعماها ! ولكن وفق المنهج القرآني والهدي المحمدي تخويفا تارة وإنذارا وترهيبا وتحبيبا أخرى وترغيبا بالقول اللين العطوف والقلب المشفق الرؤوف .. بما يبين تقلب الدنيا وأحوالها والقبور وأهوالها ، وبما يلهب الأشواق للجنة وما فيها من دائم النعيم وحبور لا يلين ..
وأن تكون المواعظ - أيها الأريب الواعظ - نهزا وإغبابا لا ديمة وإكبابا .. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه – قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنا بالموعظةِ كراهةَ السَّآمةِ علينا " أخرجه الشيخان ..
وفي حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه – قال : " وعظَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغةً وجِلَتْ منها القلوبُ وذرفَتْ مِنها العيُون ، فقلنا : يارسولَ الله كأنها موعظةُ مودِّعٍ فأوْصِنَا ، قال : أوصِيكُمْ بتقوَى الله والسمعَ والطَّاعَة ..." الحديث خرجه الإمام أحمد وأهل السنن .
أيها المؤمنون : فمن شرح الله صدره للإسلام ونوّر قلبه بندى الإيمان استطاب العظة والتذكير وإن نأى بجانبه وكرع من آسن المعايب والعمل النكير أذاقه الباري الحسرة وسوء المصير
فلا ترْضَ المعايبَ فهيَ عارٌ *** عظيمٌ يُورِثُ الإنسانَ مَقتَا
وتهوَى بالوجِيهِ منَ الثُّريَّا *** وتُبدلُهُ مكانَ الفوقِ تحتَا
فياسبحان الله ! سبحان الله عباد الله ! كم هو عجيب حال الإنسان يؤمن بالموت ثم ينساه ، ويوقن بالتفريط ويغشاه ، كم يغتر بالصحة والعافية ويغفل عن مثلات الأمم العافية ، يعيش دنيا قُلعة قصيرة غِيَرُها مريرة .. شهدها مشفوع بإبر النحل ورطبها مصحوبٌ بسُلَّاءِ النخل وهو لا يزال لها جامع وفيها طامع غير قانع : إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (سورة الإنسان 27) .
نعم .. أولئك الذين غشيهم من حب الدنيا ما غشيهم فغرتهم وألهتهم ، عصفت بقلوبهم الشهوات واستبدت بهم المغريات ، وذلك - وايم الحق - مسلك الرَعاع الذين لأموا صدع دنياهم ودينهم شعاع .
قدْ نادَتِ الدُّنيَا على نفسِهَا **** لوْ كانَ في الخلقِ من يسمعُ
كمْ واثقٍ بالعيْشِ أهْلكْتُه *** وجامعٍ فرقُتُ ما يجمَعُ
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - : على قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة .. ألا ما أحوج القلوب الغافلة إلى المواعظ الفاعلة لتوقظها عن الهفوات قبل الفوات وحصول الموافاة " ، وقد قال العلامة ابن الجوزي - رحمه الله - : " المواعظ سياط القلوب " .
فياعبد الله وياأمة الله يامن أوبق بالآثام والجرائر نفسه وبدد في اللهو والخسران يومه وأمسه فليس له مع الصادقين قدم ولا مع التائبين ندم .. هلا بسطت للتوبة والمناجاة يدا سائلة وأجريت في السحر دموعا سائلة ؟
أحبتاه .. أحبتاه : ماذا قدمنا للمقام الهائل ؟ ما الذي أعددنا من جواب السائل وقد ذُهلنا في يوم عصيبٍ عن الأبناء والحلائل ؟ رباه .. رباه حنانيك ياالله ؛ فالقلوب منا قاسية والنفوس عاصية والأفئدة عن الرقة جاثية .. ألا هل من مبددٍ لعبراته ؟ ألا هل من مرددٍ لحسراته ؟ ألا هل من مصعِّدٍ لزفراته ؟ ألا هل من نادمٍ على هفواته ؟ ألا هل من تائبٍ من فرطاته ؟ ألا ما أحلمَ الله على عباده يقرضونه المعاصي ويأملون الرضا ، ولو عومل أحدهم بهذا ما تجاوز ولا رضى !
أمَا آنَ أنْ تبكِي الدِّماءَ مدامِعاً *** وتخْشعَ للمولى وتفرحَ بالقُربِ
وتسجدَ إِجْلالا لربِّك خاشِعًا *** وترسلَ آهاتِ النَّدامَةِ والأوْبِ
سئل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن أكيس الناس وأحزم الناس ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "أكثرُهُم للموتِ ذِكرا ، وأكثرُهُم استعدادًا للموتِ أولئِك الأكْياس .. ذهبُوا بشرفِ الدُّنيا وكرامةِ الآخرة " خرجه ابن ماجة والمنذري بإسناد حسن ..
قِفْ بالمقَابرِ وانْظرْ إنْ وَقفتَ بها *** لله درُّكَ ماذَا تستُرُ الحُفَرُ
ففِيهم لكَ يا مغرُورُ موعِظةٌ *** وفِيهم لكَ يا مُغترُّ مُعتَبَرُ
فيا أمة الإسلام وياأخوة الإيمان : سيروا إلى الله .. سيروا إلى الله قبل أن يُسرى بكم ، وأطيعوا من أراد الخير واليسرَ بكم ، وأجهدوا أنفسكم في البر والقربات فعل كادحٍ غير ملول ، واركبوا لغفران الباري ومرضاته كل صعب وذلول تفوزوا في دار السلام ، ويابشراكم بالمهاد الأوسر وتردوا - بفضل الله - السلسبيل والكوثر (وتردوا - بفضل الله - السلسبيل والكوثر).
كما الطاعاتُ تُنعِلُكَ الدَّرارِي*** وتجعلُك القرِيبَ وإنْ بَعُدْتَ
وتنشرُ عنْك في الدُّنيا جميلا *** فتُلْفَى البرَّ فيها حيثُ كنتَ
معاشر الإخوة : وحينما يُذَكَّر بأهمية الاتعاظ والتذكير والإيقاظ فما ذاك إلا حينما نبصر بألم وحسرة واقع كثير من الأمة وقد تولَّجُوا مضارب حب الماديات وانغمسوا في زخارف الشهوات ، بل اتخذها أقوامٌ على أنها الفرصة السانحة لالتهام الملذات ، وتجافوا عن التذكير بالموت والاعتبار بالأموات ، وصعروا عن التلويح بالفوت وكأن الخلود غدا علينا لزاما (وكأن الخلود غدا علينا لزاما) والغفلة لجاما نعبُّ فيها لا زماما ولا خطاما والحِمَامَ لسوانا حسبُ معتاما ..
وهذه النظرة الخانقة تتنافى والتسليم لقضاء الله وقدره العابر بنا إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، يقول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءَه ، ومن كرِهَ لقاءَ الله كرِه الله لقاءَه " أخرجه البخاري ومسلم
ذالكم - يارعاكم الله - هو اللقاء المتوج بالحب وإشراقاته والشوق وجمالياته ، ومن نثير الحكم : (الموت قصاراك ؛ فخذ من دنياك لأخراك) ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – وهو خطاب للأمة بأسرها : " كنْ في الدُّنيا كأنكَ غريبٌ أو عابرُ سبِيل " ..
وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول : " إذَا أمْسيتَ فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصْبحْتَ فلا تنتظر المساء ، وخذْ من صحتِك لسقمِك ومن حياتِك لموتِك " ..
يامَنْ بدُنيَاهُ اشْتغَلْ ***وغرَّهُ طولُ الأمَلْ
الموتُ يأتي بغتةً ***والقَبرُ صُندوقُ العملْ
وبعد .. أيها المسلمون : ليست تلك إلماحة للإعراض عن الطيبات والمباح من مباهج الحياة ، كلا .. ولكن هي ذكرى للتبصر في تقصيرنا الذي فات وعظة للاستعداد لما هو آت ، وأولها (هادم اللذات) ، وأن تكون الآخرة هي الأرب والغاية والمراد والنهاية من متاع الحياة ومباهجها امتثالا لقول الحق - تبارك وتعالى - : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ... ( سورة القصص77) .
وذلك هو المنهج الوسطي الحق الذي يصلح من المسلمين بالهم ويُزَّكي أحوالهم
دِينُنَا دُنيَا وأُخْرَى ضلَّ عقلٌ *** يفهمُ الدينَ عن الدنيا انعِزالا
ألا فاتقوا الله عباد الله ، وخذوا من دنياكم لأخراكم وتزودوا من ممركم لمقركم تفلحوا وتسعدوا في الأولى والعقبى
.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( سورة لقمان 33) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعنا بما فيه من الآيات والوعظ الكريم .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئة وإثم ؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي لغفور رحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله لم يزل فضله مدراراً وضاحا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. حبانا مواسم كريمة تملأ العيون قرة والصدور انشراحا ..
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله بلغ رسالة ربه فكانت للعالمين رحمة وعزاً صُراحاً ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الباذلين للآخرة مهجاً وأرواحا ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد :
فاتقوا الله – عباد الله – اتقوه حق تقاته ، وألزموا أنفسكم صدق المراقبة قبل فجاءة المعاتبة ونزول المعاقبة .
إخوة الإيمان : ولعل في هذه المواعظ النافعة تذكرة للقلوب وبلسمًا للأرواح وتهيأة للنفوس وهي تستعد لاستقبال مواسم الخيرات والبركات .. فمن عظيم الآيات والعظات والعبر الموقظات عن سبات الغفلات خلفة الشهور والأعوام وتصرم الساعات والأيام (وتصرم الساعات والأيام) واخترام الأعمال والآجال دون بلوغ الأماني والآمال ، ولكن من كرم الباري ولطفه ورحمته ومنه أن تفضل علينا بمواسم مباركات تنيب فيها القلوب وتُمحى الآثام والحوب وتعاود الأفئدة الخشيةُ وتئوب .. ومنها ما نحن بسبيل استقباله والتشوق إليه واستعجاله ؛ ألا وهو شهر رمضان المبارك ..
فحي هلا ، ثم حي هلاً بوافد كريم وضيف عظيم وموسم بالطاعات والأنوار عميم .
أهْلا وسَهلا بشهرِ الصَّومِ والذِّكرِ ومَرحباً بوحِيدِ الدَّهرِ في الأجْر
فاسْتقبِلُوا شهرَكُم يَاقومُ واستبِقُـوا إلى السَّعادَةِ والخيرَاتِ لا الوِزْرِ
استقبلوه ياأمة الإسلام بالحمد والشكر والثناء على الباري والذكر مجددين التوبة والإنابة (مجددين التوبة والإنابة) والإخلاص والإصابة ، وفتح صفحة جديدة من المحاسبة الصادقة ولزوم الأعمال الصالحة معتبرين بالسابقين الراحلين (معتبرين بالسابقين الراحلين) عسى القلب القاسي منا يلين :
ياذَا الذِي مَا كَفاهُ الذَّنبُ في رجبِ حتَّى عَصَى ربَّه في شهرِ شعبانِ
لقـَـــدْ أظلَّكَ شهْـــــرُ الصَّـومِ بعدَهُمَــــــــا فلا تُصَيـــــرْهُ أيضًا شهرَ عصيانِ
وانْظُـــــــرْ إلى مَــنْ صَــــــــــــامَ مِنْ سلَفٍ منْ بيْــنِ أهلٍ وجِيــرَانٍ وإخــــوانِ
أفناهُمُ الموتُ واستبقَاكَ بعدَهُمُ حيًّا فمَا أقـــــــــربَ القاصِي من الدَّاني
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (سورة ق37) .
هذا ، واعلموا – رحمكم الله – أن أنفع ما وعظ به الواعظون واستمع إليه الواعون كلام الباري – جل وعلا – الآمر في بديع خطابه ومحكم كتابه بالصلاة والسلام على خير خلقه وأحبابه ، فقال – تعالى – قولا كريما – : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (سورة الأحزاب 56) .
وأزْكى صَلاةٍ والسَّلامِ على الذي به تمَّ عِقْدُ الأنبياءِ وكُمِّلُوا
محمدٍ المختارِ منْ هلَّ عائدٌ على بَلَدٍ قَفْرٍ وما اخْضَرَّ مُمْحِلُ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين ورحمة الله للعالمين وإمام الدعاة والواعظين .. نبينا محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم هب لنا قلوبا طاهرة وعيوناً في خشيتك ساهرة ، وآتنا كتبنا بأيماننا ، وكفر عنا سيئاتنا وزكِّ إيماننا .
اللهم إنا نسألك توفيقاً ينهج لنا إلى التقى طريقاً ، اللهم أنت الهادي لمن استهداك فاهدنا اللهم لما تحبه وترضاه .
اللهم أيقظنا من سنة الغفلات ، ووفقنا لتدارك الهفوات قبل الفوات ياذا الفضل والمكرمات .
اللهم بلغنا شهر رمضان .. اللهم بلغنا شهر رمضان .. اللهم بلغنا شهر رمضان ، واكتبنا فيه من عتقائك من النار برحمتك يامنان .. برحمتك يامنان .
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، اللهم انصر إخواننا المضطهدين في دينهم في سائر الأوطان ..
اللهم أنقذ المسجد الأقصى . اللهم أنقذ المسجد الأقصى . اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين واحتلال المحتلين ياقوي ياعزيز .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
اللهم آمنا في أوطاننا . اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، وأيد بالحق إمامنا - خادم الحرمين الشريفين - اللهم وفقه لما تحب وترضى ، وخذ بناصيته للبر والتقوى ، اللهم وفقه وولي عهده والنائب الثاني وإخوانهم وأعوانهم إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين وإلى ما فيه الخير للبلاد والعباد ، واشمل اللهم بالتوفيق جميع ولاة المسلمين ، اللهم اجعلهم لشرعك محكمين ولسنة نبيك – صلى الله عليه وسلم – متبعين ولأوليائك ناصرين .
ياحي ياقيوم . ياحي ياقيوم . ياحي ياقيوم . ياذا الجلال والإكرام .. برحمتك نستغيث فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأصلح لنا شأننا كله ياغفور ياودود ياذا العرش المجيد .
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك ياأرحم الراحمين .
عباد الله : إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم (يعظكم) لعلكم تذكرون .
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون .
الحمد لله .. تبارك ربنا إلها رحيما غفارا ، أحمده - سبحانه - لم يزل عفوه مدرارا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تنهج لنا من الحياة عظة وادكارا ..
وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبد الله ورسوله أعظم البرية استباقا للآخرة وابتدارا ، أزكى من وعظ وذكر وبشر وأنذر فانهملت العيون استعبارا والأفئدة اعتبارا ..
اللهم فصلِّ عليه وعلى آله الألى طابوا نفوسا وجلوا أقدارا ، وصحابته صفوة الدنيا خشية لله وافتقارا وتشميرا للآخرة واصطبارا ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان يرجو فوزا عظيما واستبشارا ، وسلم يارب تسليما مباركا عديدا زكيا مديدا .
أما بعد .. فياعباد الله : خير المقام الذي بر ووفى ووعظ وكفى وأصاب الحق وما جفا وآسى فشفى وأنقذ من كان من الزيغ على شفا تقوى الله في السر والخفا ..
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله - واعلموا أن الدنيا ممر وعبور سريعة الزوال والمرور دار المطايا والمراحل وكل من فيها عنها رواحل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (سورة الحشر 18) ..
فعليكَ تقوَى الله فَالزَمْهَا تفُزْ *** إنَّ التَّقيَّ هو البهيُّ الأهْيَبُ
واعْمَلْ لطاعتِهِ تنلْ منهُ الرِّضَا *** إنَّ المطِيعَ لربِّهِ لَمُقرَّبُ
أيها المسلمون : مع اشتداد أنساق الحياة واحتدامها وانبعاث النفوس في صخب طموحها وآمالها ومفدحاتها وآلامها تعتري القلوب سُجف الغفلة عن الفناء وحُجب الدنيا عن شدائد اللقاء ، فما تبرح الأمة بين الفينة والأخرى في حاجة لمن يذكرها إذا ذهلت ويعلمها إذا جهلت ويعظها إن ضلت ويكف بأسها إن أضلت .. سيان شأن القلوب في ذلك إن تلطخت بالسيئات وقارفت الموبقات ذهب بهاؤها وذبل رواؤها وخفت إشراقها وذوى ائتلاقها وقل خشوعها وغاض خضوعها وتأبت على التسكاب دموعها ..
ولكن متى سُقِيت برحيق القرآن وصُقِلَت بمساحج الذكرى والإيمان وهدي سيد ولد عدنان - عليه الصلاة والسلام - رقت ولانت وتطهرت ودانت وتشوقت - يابشراها - للجنان التي ازدانت وتقصت عن القسوة وبانت .. أما قال الباري - سبحانه - : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (سورة يونس57) ؛ فسمى القرآن (موعظة) ، وفي هذا أكبر منقِذة ..
وقال جل جلاله : ... وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (سورة النساء 66) ..
خَابَ الذي سارَ عنْ دنيَاهُ مُرتحِلا *** وليْسَ في كفِّهِ منْ دينِهِ طَرَفُ
لا خيرَ للمرْءِ إلا خيرُ آخرةٍ *** يُبقِي عليه فَذَاكَ العِزُّ والشَّرفُ
ألا ما أجل قدر الموعظة وأبدع سناها ! وما أعظم آثار التذكرة وأكرم نعماها ! ولكن وفق المنهج القرآني والهدي المحمدي تخويفا تارة وإنذارا وترهيبا وتحبيبا أخرى وترغيبا بالقول اللين العطوف والقلب المشفق الرؤوف .. بما يبين تقلب الدنيا وأحوالها والقبور وأهوالها ، وبما يلهب الأشواق للجنة وما فيها من دائم النعيم وحبور لا يلين ..
وأن تكون المواعظ - أيها الأريب الواعظ - نهزا وإغبابا لا ديمة وإكبابا .. عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه – قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَوَّلُنا بالموعظةِ كراهةَ السَّآمةِ علينا " أخرجه الشيخان ..
وفي حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه – قال : " وعظَنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغةً وجِلَتْ منها القلوبُ وذرفَتْ مِنها العيُون ، فقلنا : يارسولَ الله كأنها موعظةُ مودِّعٍ فأوْصِنَا ، قال : أوصِيكُمْ بتقوَى الله والسمعَ والطَّاعَة ..." الحديث خرجه الإمام أحمد وأهل السنن .
أيها المؤمنون : فمن شرح الله صدره للإسلام ونوّر قلبه بندى الإيمان استطاب العظة والتذكير وإن نأى بجانبه وكرع من آسن المعايب والعمل النكير أذاقه الباري الحسرة وسوء المصير
فلا ترْضَ المعايبَ فهيَ عارٌ *** عظيمٌ يُورِثُ الإنسانَ مَقتَا
وتهوَى بالوجِيهِ منَ الثُّريَّا *** وتُبدلُهُ مكانَ الفوقِ تحتَا
فياسبحان الله ! سبحان الله عباد الله ! كم هو عجيب حال الإنسان يؤمن بالموت ثم ينساه ، ويوقن بالتفريط ويغشاه ، كم يغتر بالصحة والعافية ويغفل عن مثلات الأمم العافية ، يعيش دنيا قُلعة قصيرة غِيَرُها مريرة .. شهدها مشفوع بإبر النحل ورطبها مصحوبٌ بسُلَّاءِ النخل وهو لا يزال لها جامع وفيها طامع غير قانع : إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (سورة الإنسان 27) .
نعم .. أولئك الذين غشيهم من حب الدنيا ما غشيهم فغرتهم وألهتهم ، عصفت بقلوبهم الشهوات واستبدت بهم المغريات ، وذلك - وايم الحق - مسلك الرَعاع الذين لأموا صدع دنياهم ودينهم شعاع .
قدْ نادَتِ الدُّنيَا على نفسِهَا **** لوْ كانَ في الخلقِ من يسمعُ
كمْ واثقٍ بالعيْشِ أهْلكْتُه *** وجامعٍ فرقُتُ ما يجمَعُ
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - : على قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة .. ألا ما أحوج القلوب الغافلة إلى المواعظ الفاعلة لتوقظها عن الهفوات قبل الفوات وحصول الموافاة " ، وقد قال العلامة ابن الجوزي - رحمه الله - : " المواعظ سياط القلوب " .
فياعبد الله وياأمة الله يامن أوبق بالآثام والجرائر نفسه وبدد في اللهو والخسران يومه وأمسه فليس له مع الصادقين قدم ولا مع التائبين ندم .. هلا بسطت للتوبة والمناجاة يدا سائلة وأجريت في السحر دموعا سائلة ؟
أحبتاه .. أحبتاه : ماذا قدمنا للمقام الهائل ؟ ما الذي أعددنا من جواب السائل وقد ذُهلنا في يوم عصيبٍ عن الأبناء والحلائل ؟ رباه .. رباه حنانيك ياالله ؛ فالقلوب منا قاسية والنفوس عاصية والأفئدة عن الرقة جاثية .. ألا هل من مبددٍ لعبراته ؟ ألا هل من مرددٍ لحسراته ؟ ألا هل من مصعِّدٍ لزفراته ؟ ألا هل من نادمٍ على هفواته ؟ ألا هل من تائبٍ من فرطاته ؟ ألا ما أحلمَ الله على عباده يقرضونه المعاصي ويأملون الرضا ، ولو عومل أحدهم بهذا ما تجاوز ولا رضى !
أمَا آنَ أنْ تبكِي الدِّماءَ مدامِعاً *** وتخْشعَ للمولى وتفرحَ بالقُربِ
وتسجدَ إِجْلالا لربِّك خاشِعًا *** وترسلَ آهاتِ النَّدامَةِ والأوْبِ
سئل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن أكيس الناس وأحزم الناس ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "أكثرُهُم للموتِ ذِكرا ، وأكثرُهُم استعدادًا للموتِ أولئِك الأكْياس .. ذهبُوا بشرفِ الدُّنيا وكرامةِ الآخرة " خرجه ابن ماجة والمنذري بإسناد حسن ..
قِفْ بالمقَابرِ وانْظرْ إنْ وَقفتَ بها *** لله درُّكَ ماذَا تستُرُ الحُفَرُ
ففِيهم لكَ يا مغرُورُ موعِظةٌ *** وفِيهم لكَ يا مُغترُّ مُعتَبَرُ
فيا أمة الإسلام وياأخوة الإيمان : سيروا إلى الله .. سيروا إلى الله قبل أن يُسرى بكم ، وأطيعوا من أراد الخير واليسرَ بكم ، وأجهدوا أنفسكم في البر والقربات فعل كادحٍ غير ملول ، واركبوا لغفران الباري ومرضاته كل صعب وذلول تفوزوا في دار السلام ، ويابشراكم بالمهاد الأوسر وتردوا - بفضل الله - السلسبيل والكوثر (وتردوا - بفضل الله - السلسبيل والكوثر).
كما الطاعاتُ تُنعِلُكَ الدَّرارِي*** وتجعلُك القرِيبَ وإنْ بَعُدْتَ
وتنشرُ عنْك في الدُّنيا جميلا *** فتُلْفَى البرَّ فيها حيثُ كنتَ
معاشر الإخوة : وحينما يُذَكَّر بأهمية الاتعاظ والتذكير والإيقاظ فما ذاك إلا حينما نبصر بألم وحسرة واقع كثير من الأمة وقد تولَّجُوا مضارب حب الماديات وانغمسوا في زخارف الشهوات ، بل اتخذها أقوامٌ على أنها الفرصة السانحة لالتهام الملذات ، وتجافوا عن التذكير بالموت والاعتبار بالأموات ، وصعروا عن التلويح بالفوت وكأن الخلود غدا علينا لزاما (وكأن الخلود غدا علينا لزاما) والغفلة لجاما نعبُّ فيها لا زماما ولا خطاما والحِمَامَ لسوانا حسبُ معتاما ..
وهذه النظرة الخانقة تتنافى والتسليم لقضاء الله وقدره العابر بنا إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، يقول الحبيب - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءَه ، ومن كرِهَ لقاءَ الله كرِه الله لقاءَه " أخرجه البخاري ومسلم
ذالكم - يارعاكم الله - هو اللقاء المتوج بالحب وإشراقاته والشوق وجمالياته ، ومن نثير الحكم : (الموت قصاراك ؛ فخذ من دنياك لأخراك) ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – وهو خطاب للأمة بأسرها : " كنْ في الدُّنيا كأنكَ غريبٌ أو عابرُ سبِيل " ..
وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول : " إذَا أمْسيتَ فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصْبحْتَ فلا تنتظر المساء ، وخذْ من صحتِك لسقمِك ومن حياتِك لموتِك " ..
يامَنْ بدُنيَاهُ اشْتغَلْ ***وغرَّهُ طولُ الأمَلْ
الموتُ يأتي بغتةً ***والقَبرُ صُندوقُ العملْ
وبعد .. أيها المسلمون : ليست تلك إلماحة للإعراض عن الطيبات والمباح من مباهج الحياة ، كلا .. ولكن هي ذكرى للتبصر في تقصيرنا الذي فات وعظة للاستعداد لما هو آت ، وأولها (هادم اللذات) ، وأن تكون الآخرة هي الأرب والغاية والمراد والنهاية من متاع الحياة ومباهجها امتثالا لقول الحق - تبارك وتعالى - : وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ... ( سورة القصص77) .
وذلك هو المنهج الوسطي الحق الذي يصلح من المسلمين بالهم ويُزَّكي أحوالهم
دِينُنَا دُنيَا وأُخْرَى ضلَّ عقلٌ *** يفهمُ الدينَ عن الدنيا انعِزالا
ألا فاتقوا الله عباد الله ، وخذوا من دنياكم لأخراكم وتزودوا من ممركم لمقركم تفلحوا وتسعدوا في الأولى والعقبى
.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ( سورة لقمان 33) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعنا بما فيه من الآيات والوعظ الكريم .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئة وإثم ؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربي لغفور رحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله لم يزل فضله مدراراً وضاحا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. حبانا مواسم كريمة تملأ العيون قرة والصدور انشراحا ..
وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله بلغ رسالة ربه فكانت للعالمين رحمة وعزاً صُراحاً ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الباذلين للآخرة مهجاً وأرواحا ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ..
أما بعد :
فاتقوا الله – عباد الله – اتقوه حق تقاته ، وألزموا أنفسكم صدق المراقبة قبل فجاءة المعاتبة ونزول المعاقبة .
إخوة الإيمان : ولعل في هذه المواعظ النافعة تذكرة للقلوب وبلسمًا للأرواح وتهيأة للنفوس وهي تستعد لاستقبال مواسم الخيرات والبركات .. فمن عظيم الآيات والعظات والعبر الموقظات عن سبات الغفلات خلفة الشهور والأعوام وتصرم الساعات والأيام (وتصرم الساعات والأيام) واخترام الأعمال والآجال دون بلوغ الأماني والآمال ، ولكن من كرم الباري ولطفه ورحمته ومنه أن تفضل علينا بمواسم مباركات تنيب فيها القلوب وتُمحى الآثام والحوب وتعاود الأفئدة الخشيةُ وتئوب .. ومنها ما نحن بسبيل استقباله والتشوق إليه واستعجاله ؛ ألا وهو شهر رمضان المبارك ..
فحي هلا ، ثم حي هلاً بوافد كريم وضيف عظيم وموسم بالطاعات والأنوار عميم .
أهْلا وسَهلا بشهرِ الصَّومِ والذِّكرِ ومَرحباً بوحِيدِ الدَّهرِ في الأجْر
فاسْتقبِلُوا شهرَكُم يَاقومُ واستبِقُـوا إلى السَّعادَةِ والخيرَاتِ لا الوِزْرِ
استقبلوه ياأمة الإسلام بالحمد والشكر والثناء على الباري والذكر مجددين التوبة والإنابة (مجددين التوبة والإنابة) والإخلاص والإصابة ، وفتح صفحة جديدة من المحاسبة الصادقة ولزوم الأعمال الصالحة معتبرين بالسابقين الراحلين (معتبرين بالسابقين الراحلين) عسى القلب القاسي منا يلين :
ياذَا الذِي مَا كَفاهُ الذَّنبُ في رجبِ حتَّى عَصَى ربَّه في شهرِ شعبانِ
لقـَـــدْ أظلَّكَ شهْـــــرُ الصَّـومِ بعدَهُمَــــــــا فلا تُصَيـــــرْهُ أيضًا شهرَ عصيانِ
وانْظُـــــــرْ إلى مَــنْ صَــــــــــــامَ مِنْ سلَفٍ منْ بيْــنِ أهلٍ وجِيــرَانٍ وإخــــوانِ
أفناهُمُ الموتُ واستبقَاكَ بعدَهُمُ حيًّا فمَا أقـــــــــربَ القاصِي من الدَّاني
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (سورة ق37) .
هذا ، واعلموا – رحمكم الله – أن أنفع ما وعظ به الواعظون واستمع إليه الواعون كلام الباري – جل وعلا – الآمر في بديع خطابه ومحكم كتابه بالصلاة والسلام على خير خلقه وأحبابه ، فقال – تعالى – قولا كريما – : إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (سورة الأحزاب 56) .
وأزْكى صَلاةٍ والسَّلامِ على الذي به تمَّ عِقْدُ الأنبياءِ وكُمِّلُوا
محمدٍ المختارِ منْ هلَّ عائدٌ على بَلَدٍ قَفْرٍ وما اخْضَرَّ مُمْحِلُ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين ورحمة الله للعالمين وإمام الدعاة والواعظين .. نبينا محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم هب لنا قلوبا طاهرة وعيوناً في خشيتك ساهرة ، وآتنا كتبنا بأيماننا ، وكفر عنا سيئاتنا وزكِّ إيماننا .
اللهم إنا نسألك توفيقاً ينهج لنا إلى التقى طريقاً ، اللهم أنت الهادي لمن استهداك فاهدنا اللهم لما تحبه وترضاه .
اللهم أيقظنا من سنة الغفلات ، ووفقنا لتدارك الهفوات قبل الفوات ياذا الفضل والمكرمات .
اللهم بلغنا شهر رمضان .. اللهم بلغنا شهر رمضان .. اللهم بلغنا شهر رمضان ، واكتبنا فيه من عتقائك من النار برحمتك يامنان .. برحمتك يامنان .
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، اللهم انصر إخواننا المضطهدين في دينهم في سائر الأوطان ..
اللهم أنقذ المسجد الأقصى . اللهم أنقذ المسجد الأقصى . اللهم أنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين واحتلال المحتلين ياقوي ياعزيز .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
اللهم آمنا في أوطاننا . اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، وأيد بالحق إمامنا - خادم الحرمين الشريفين - اللهم وفقه لما تحب وترضى ، وخذ بناصيته للبر والتقوى ، اللهم وفقه وولي عهده والنائب الثاني وإخوانهم وأعوانهم إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين وإلى ما فيه الخير للبلاد والعباد ، واشمل اللهم بالتوفيق جميع ولاة المسلمين ، اللهم اجعلهم لشرعك محكمين ولسنة نبيك – صلى الله عليه وسلم – متبعين ولأوليائك ناصرين .
ياحي ياقيوم . ياحي ياقيوم . ياحي ياقيوم . ياذا الجلال والإكرام .. برحمتك نستغيث فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، وأصلح لنا شأننا كله ياغفور ياودود ياذا العرش المجيد .
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك ياأرحم الراحمين .
عباد الله : إن الله يأمركم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم (يعظكم) لعلكم تذكرون .
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون .
________________________
سياط القلوب قبل لقاء علام الغيوب
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على رسول الله و على صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد
و الصلاة و السلام على رسول الله و على صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد
فهذه مواعظ قصيرة جعلتها عونا لنفسي و إخواني للتزود ليوم الميعاد و الإستعداد, و التأهب للموت قبل الفوت, فلعلها توقظ راقدا أو تنبه غافلا , وهي عبارة عن:
آيات قرآنية
أحاديث
أقوال و مواقف السلف
قصص
وقد أهمل في بعض الأحيان المصادر و الأشخاص , لمصلحة رأيتها ولأن المقام مقام وعظ و ليس تأصيل المسائل.
ما كل من وصف الدواء يستعمله ... ولا كل من وصف التقى ذو تقى
وصفت التقى حتى كأني ذو تقى ... وريح الخطايا من ثيابي تعبق
فوائد مجالس التذكير
كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله وترغيب وترهيب إما بتلاوة القرآن أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة وتعليم ما ينفع في الدين كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكر ويعظ ويقص وأن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ,وأن يبشر وينذر وسماه الله {مُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 45, 46] والتبشير والإنذار: هو الترغيب والترهيب فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه رقة القلب والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة.
حال الناس مع المواعظ
قال ابن رجب:
يعد سماع الموعظة ينقسم الناس إلى عدة أقسام:
فمنهم من يرجع إلى هواه فلا يتعلق بشيء مما سمعه في مجلس الذكر ولا يزداد هدى ولا يرتدع عن ردىء ,وهؤلاء شر الأقسام ويكون ما سمعوه حجة عليهم فتزداد به عقوبتهم وهؤلاء الظالمين لأنفسهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل:108].
ومنهم من ينتفع بما سمعه وهم على أقسام:
فمنهم من يرده ما سمعه عن المحرمات ويوجب له التزام الواجبات "وهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين"
ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات والتورع عن دقائق المكروهات ويشتاق إلى إتباع آثار من سلف من السادات "وهؤلاء السابقون المقربون".
أقسام الناس في استحضار و الانتفاع مما سمعوه في مجالس الذكر
و ينقسم المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس والغفلة عنه إلى ثلاثة أقسام:
فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها فتذهل بذلك قلوبهم عما كانوا يجدونه في مجلس الذكر من استحضار عظمة الله وجلاله وكبريائه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخشوا لكمال معرفتهم وشدة خوفهم أن يكون نفاقا فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس نفاق.
وقسم آخر يستمرون على استحضار حال مجلس سماع الذكر فلا يزال تذكر ذلك بقلوبهم ملازما لهم وهؤلاء على قسمين:
أحدهما : من يشغله ذلك عن مصالح دنياه المباحة فينقطع عن الخلق فلا يقوى على مخالطتهم ولا القيام بوفاء حقوقهم وكان كثير من السلف على هذه الحال فمنهم من كان لا يضحك أبدا ومنهم من كان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد.
والثاني: من يستحضر ذكر الله وعظمته وثوابه وعقابه بقلبه ويدخل ببدنه في مصالح دنياه من اكتساب الحلال والقيام على العيال ويخالط الخلق فيما يوصل إليهم به النفع مما هو عبادة في نفسه كتعلم العلم والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهؤلاء أشرف القسمين وهم خلفاء الرسل.
أشياء أخرى تزهد في الدنيا
قال القرطبي في التذكرة:
قال العلماء رحمة الله عليهم : ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور و خاصة إن كانت قاسية فعلى أصحابها أن يعالجوها بأربعة أمور :
أحدها : الإقلاع عما هي عليه بحضور مجالس العلم بالوعظ و التذكر ، و التخويف و الترغيب ، و أخبار الصالحين . فإن ذلك مما يلين القلوب و ينجع فيها .
الثاني : ذكر الموت من ذكر هادم اللذات و مفرق الجماعات و ميتم البنين و البنات كما تقدم في الباب قبل ، يروى أن امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها قساوة قلبها . فقالت لها : أكثري من ذكر الموت يرق قلبك . ففعلت ذلك فرق قلبها . فجاءت تشكر عائشة رضي الله عنها . قال العلماء : تذكر الموت يردع عن المعاصي ، و يلين القلب القاسي ، و يذهب الفرح بالدنيا و يهون المصائب فيها .
الثالث : مشاهدة المحتضرين ، فإن في النظر إلى الميت و مشاهدة سكراته ، و نزعاته ، و تأمل صورته بعد مماته ، ما يقطع عن النفوس لذاتها ، و يطرد عن القلوب مسراتها ، و يمنع الأجفان من النوم ، و الأبدان من الراحة ، ويبعث على العمل ، و يزيد في الاجتهاد و التعب .
يروى أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت فنظر إلى كربه ، و شدة ما نزل به ، فرجع إلى أهله ، بغير اللون الذي خرج به من عندهم فقالوا له : الطعام يرحمك الله فقال : يا أهلاه عليكم بطعامكم و شرابكم . فو الله لقد رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه .
---
كيف إذا نجا الموعوظ و هلك الواعظ!!!
قال ابن الجوزي:
ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف،
وأسلم علي يدي أكثر من مائتي نفس،
وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل،
ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام.
وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي.
ولقد جلست يومًا، فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف، ما فيهم إلا من قد رق قلبه، أو دمعت عينه،
فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت؟!
فصحت بلسان وجدي:
إلهي وسيدي! إن قضيت علي بالعذاب غدًا، فلا تعلمهم بعذابي، صيانة لكرمك، لا لأجلي،
لئلا يقولوا: عذب من دل عليه.
إلهي! قد قيل لنبيك صلى الله عليه وسلم: اقتل ابن أُبَيٍّ المنافق! فقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه".
إلهي! فاحفظ حسن عقائدهم فِيَ بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك.
حاشاك والله يا رب من تكدير الصافي.
لا تبر عودًا أنت ريشته ... حاشا لباني الجود أن ينقضا
صيد الخاطر
---
النظر في عواقب الأمور
من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها نال خيرها، ونجا من شرها،
ومن لم ير العواقب، غلب عليه الحس، فعاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة،
وبالنصب ما رجا منه الراحة.
وبيان هذا في المستقبل يتبين بذكر الماضي، وهو أنك لا تخلو أن تكون عصيت الله في عمرك، أو أطعته،
فأين لذة معصيتك؟!
وأين تعب طاعتك؟!
هيهات، رحل كل بما فيه،
فليت الذنوب إذا تَخَلَّتْ خَلَّتْ!
وأزيدك في هذا بيانًا:
مثل ساعة الموت، وانظر إلى مرارة الحسرات على التفريط،
ولا أقول: كيف تغلب حلاوة اللذات؟!
لأن حلاوة اللذات استحالت حَنْظَلًا؛
فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم،
أتراك ما علمت أن الأمر بعواقبه؟!
فراقب العواقب تسلم، ولا تمل مع هوى الحس فتندم
من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر،
ومن أيقن بطول الطريق، تأهب للسفر.
ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه،
ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه،
وتخشى الناس، والله أحق أن تخشاه!
تغلبك نفسك على ما تظن،
ولا تغلبها على ما تستيقن!
أعجب العجائب: سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك عما قد خُبِّئَ لك!
- تغتر بصحتك، وتنسى دنو السقم،
وتفرح بعافيتك غافلًا عن قرب الألم!
لقد أراك مصرع غيرك مصرعك،
وأبدى مضجع سواك قبل الممات مضجعك،
وقد شغلك نيل لذاتك عن ذكر خراب ذاتك.
كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الريح بعدهم والقبر
كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده حتى نزل!
وكم شاهدت والي قصر وليه عدوه لما عزل!
فيا من كل لحظة إلى هذا يسري، وفعله فعل من لا يفهم ولا يدري!
وكيف تنام العين وهي قريرةٌ ... ولم تدر من أي المحلين تنزلُ؟
ومن لم ير العواقب، غلب عليه الحس، فعاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة،
وبالنصب ما رجا منه الراحة.
وبيان هذا في المستقبل يتبين بذكر الماضي، وهو أنك لا تخلو أن تكون عصيت الله في عمرك، أو أطعته،
فأين لذة معصيتك؟!
وأين تعب طاعتك؟!
هيهات، رحل كل بما فيه،
فليت الذنوب إذا تَخَلَّتْ خَلَّتْ!
وأزيدك في هذا بيانًا:
مثل ساعة الموت، وانظر إلى مرارة الحسرات على التفريط،
ولا أقول: كيف تغلب حلاوة اللذات؟!
لأن حلاوة اللذات استحالت حَنْظَلًا؛
فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم،
أتراك ما علمت أن الأمر بعواقبه؟!
فراقب العواقب تسلم، ولا تمل مع هوى الحس فتندم
من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر،
ومن أيقن بطول الطريق، تأهب للسفر.
ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه،
ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه،
وتخشى الناس، والله أحق أن تخشاه!
تغلبك نفسك على ما تظن،
ولا تغلبها على ما تستيقن!
أعجب العجائب: سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك عما قد خُبِّئَ لك!
- تغتر بصحتك، وتنسى دنو السقم،
وتفرح بعافيتك غافلًا عن قرب الألم!
لقد أراك مصرع غيرك مصرعك،
وأبدى مضجع سواك قبل الممات مضجعك،
وقد شغلك نيل لذاتك عن ذكر خراب ذاتك.
كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر
فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الريح بعدهم والقبر
كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده حتى نزل!
وكم شاهدت والي قصر وليه عدوه لما عزل!
فيا من كل لحظة إلى هذا يسري، وفعله فعل من لا يفهم ولا يدري!
وكيف تنام العين وهي قريرةٌ ... ولم تدر من أي المحلين تنزلُ؟
صيد الخاطر
ملتقى أهل الحديث
هنا
----**************************
بسـم الله الرحـمن الرحيم
¤!||!¤المواعظ سياط تضرب بها القلوب¤!||!¤
المـواعـظ سياط تـضرب بها القلوب , فتـؤثر فى القلوب كتأثير السياط فى البدن, والضرب لا يؤثر بعد انقضائه كتأثيره فى حال وجوده , لكن يبقى اثـر التألم بحسب قوته وضعفه ,فكلما قوى الضرب كانت مدة بقاء الألم اكبر.
كان كثير من السلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذكر خرجوا وعليهم السكينة والوقارُ ,فمنهم من كان لا يستطيع ان ياكل طعاما ً عقيب ذلك ومنهم من كان يعمل بمقتضى ما سمعه مدة,أفضل الصدقة تعليـم جـاهـل ,أو إيـقـاظ غـافل,
مـا وصـل المستثـقـل فى نـوم الغـفـلة بأفـضـل من ضـربه بسيـاط الموعـظة ليستيـقـظ.
المـواعظ كالسيـاط تقـع على نيـاط القلـوب ,فمن آلمتـه فصـاح فلا جنـاح ,ومن زاد ألـمه فمـات فدمـه مبـاح.
قـضـى الله فى القتـلى قِصـاص دمـائـهـم *...* ولكـن دمـاءُ العـاشقــين جُبـارُ(هدر)
وعـظ عبـد الـواحـدبن زيـد يـوما ً ,فصـا ح بـه رجـل: يـا ابـا عبيـدة ,كـفَّ فقـد كشفـت بالموعظـة قنـاع قلبي , فاتمَّ عبد الواحـد موعـظته فمــات الرجــل .
صـاح رجل فى حلقة الشبلى فمـات ,فاستعـدى اهله على الشبلى إلى الخليفـة ,فقـال الشبلي : نفسٌ رنت (صـاحت) فحنتْ فدعيت فأجـابت ,فمـا ذنب الشبلي؟
فكر فى أفعـاله ثم صـاح *..* لا خيـر فى الحــب بغـير افتـضـاح
قـد جئتكـم مستـأمنـا ً فارحمـوا *..* لا تـقـتلـونى قـد رميـت السـلاح
إنمــا يصـلح التـأديب بالســوط من صحيـح البـدن , ثـابت القـلب , قوى الذراعين, فيـؤلم ضـربه فيـردع ,فـأما من هـو سقيـم البـدن لا قـوة له ,فمـاذا ينفـع تاديبه بالضــرب.
كان الحـسنُ إذا خـرج إلى النـاس فكـأنه رجـل عـاين الآخــرة, ثم جـاء يخبر عنها وكانوا اذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدون الدنـيا شيئا ً , وكان سفيـان الثورى يتعزى بمجـالسـة عن الدنيـا , وكان أحمد لا تـذكـر الدنيـا فى مجـالسه , ولا تـذكـر عنده , قـال بعـضهـم : لا تنـفع المـوعظة إلا إذا خـرجـت من القـلب , فإنـها تـصـل إلى القـلب ,فأمـا إن خرجـت من اللسـان ,فإنـها تـدخـل من الأذن , ثـم تخـرج من الأخرى .
قـال بـعض السـلف: إن العـالم إذا لـم يـرد بمـوعظته وجـه الله تعالى زلـت موعـظته عن القـلوب كما يـزل القـطر عن الصـفـا.
كان يحيى بن معـاذ يُنشد فى مجـالسـه:
مـواعـظ الواعـظ لـن تقـبـلا *..* حتى تـعيهـا نـفسـه أولا
يا قـومـ مـن أظـلمـ من واعـظ *..* خـالـف مـا قـد قـاله فى المَلأ
أظـهـر بين النـاس إحســانـــه *..* وبـارز الـرحـمـان لما خـلا
العالـم الذى لا يعـمل بعـلمه مثـله كمثـل المـصـبـاح ,يضىء للنـاس , ويحـرق نـفـسه ,قال أبـو العتـاهيـة :
وبـخـت غيــرك بالعـمى فآفدتـه *..* بـصـرا ً وأنت مــحســن لعـمـاكا
وفتيــلة المــصبـاح تـحرق نفسـها *..* وتضيءُ للأعشى وأنـت كـذا كــا
المواعـظ تـريـاق الذنـوب ,فلا ينبغى أن يسـقى التـريـاق إلا طبيـب حـاذقُ معـافى .
فأمـا لـديـغ الهـوى فهو إلى شـرب التـريـاق أحوج من أن يـسـقيـه لغيـره.
فى بعض كـتب السـا لفـة : إذا أردت أن تـعـظ النـاس فعـظ نفـسـك , فإن تعظـت ,وإلا فاستحي منى .
وغـيـر تقي يـأمـر الناس بالتقى *..* طبـيب يـداوى النـاس وهـو سقـيمـ
يـا أيـها الرجـل المـقـومـ غيـره *..* هلا لنـفسك كـان ذا التـقويــمـ
فابـدأ بـنـفـسك فانههـا عن غـيها *..* فإن انتـهـت عنـه فأنـت حـكيمـ
فهناك يقـبل مـا تقـول ويقـتدي مثلـه *..* بالقـول منـك وينفـع التعليمـ
لا تنـه عن خُـلق وتأتي مثـلــه *..* عــار عـليك إذا فـعلت عـظيـمـ
لمـا جـلس عبـد الواحـد بن زيـد للوعـظ أتتـه امرأة ُ من الصالحـات فانشدتـه:
يــاواعـظـا قــامـ لاحتــسـاب *..* يـزجــر قــومـا ً عن الذنـوب
تنهـى وأنـت المـريـض حــقـا ً *..* هذا من المـنـكـر العجيـــــب
لـو كنـت أصلـحت قبـل هــذا *..* عيـبـك أو تـبـت من قـريـب
كــان لمن قلـت يـا حبيـبــــي *..* مــوقـعُ صــدق من القـــلوب
تنهـى عن الغـي والتـمــــادي *..* وأنت فى النهي كــا لمــــريب
لما حـاسب المتـقون أنفسـهم خـافوا من عـاقبة الوعـظ والتـذكـير ,قـال رجل ٌ لابن عبـاس: أريد أن آمـر بالمعروف وأنهي عن المنـكر فقال له: إن لـم تخش أن تفضحـك هذه الآيــات الثـلاثُ فافعـل ,وإلا فبدأ بنـفسـك ,
ثـم تـلا :{أتأمـرون النـاس بالبـر وتنسـون أنفسـكم} وقـوله تعالى: ** لـم تـقـولـون مـا لا تفـعلون كـبر مقتـا ً عنـد الله أن تـقـولوا ما لا تفـعلون} وقوله حكاية عن شعيب - عليه السلام - : ** ومـا أريـد أن أخـا لفكم إلى مـا أنهـاكم عنه }
قال النـخعى : كانوا يـكـرهـون القـصص , لهذه الآيات الثلاث .
قيـل لمورق العجلي :ألا تعـظ أصحـابك؟ قال : أكـره أن أقول ما لا أفـعل . تقـدم بعـض التـابعين ليـصلى بالنـاس إمـاما ً ,فالتفت إلى المأمومين يـعدل الصـفوف , وقال: استقيـمـوا ,فـكـرْت في نفسـى,فقلـت لهـا :فأنت, هـل استقـمت مع الله طـرفة عين؟
ماكـل من وصـف الدواء يستعمله *..* ولا كل من وصـف التقى ذو تـقي
وصفت التقـى حتـى كأنى ذو تـقـى *..* وريـح الخـطـايا من ثيابى تعبــق
ومـع هذا كـله فلابد للنـاس من الامـر بالمـعروف والنهـى عن المـنكـر ,والوعـظ والتـذكـير ,ولو لــم يعـظ النـاس إلا معـصومٌ
من الزلـل ,لم يعـظ بعد رسـول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ ,لأنه لا عصـمة لأحد من بعــــده.
لئـن لـم يـعـظ العـاصين من هو مـذنـبٌ *..* فمـن يـعـظ العـاصين بعـد مـحمــد ِ
وروى ابن أبى الدنيا بإسناد فيه ضـــعف ,عن أبى هريرة ,عن النبى صلى الله عليه وسلم ,قال:"مـروا بالمـعروف وإن لم تعملوا به كلـه ,وإنهوا عن المنـكر وإن لم تنتهوا عنه كله"
وقيـل للحسن:إن فلانا ً لا يعـظُ ,ويقول :أخـاف أن أقول ما لا أفعل .فقال الحسن:وأينا يفعل مـا يقـول؟ود الشيـطـان أنه قد ظفـر بهـذا ,فلم يأمـر أحدٌ بمعـروف ,ولم ينـه عن منـكر ,وقال مالك,عن ربيعة :قال سعيد بن جبير:لـو كـان المـرء لا يـأمـربالمعروف ولا ينهى عن المنـكـر حتى لا يكون فيه شىء ,ما أمـر أحد بمعـروف ولا نهى عن منـكـر , قال مالك :وصـدق ,ومن ذا الذى ليس فيه شىء؟!
مَنْ ذا الذى مــــا ســــــاء قط *..* ومن لـــه الحُســـنى فـــقــــــط
خطـب عمــرُ بن عبد العزيز –رحمه الله- يوما ً ,فقال فى موعظته :إنى لأقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنــوب أكثر مما اعلم عندى, فأستغفــر الله وأتــــوب إليه.
وكتب إلى بعض نوابه على بعض الأمصـار كتاباً يعظه فيه ,فقال فى آخره :وإنى لأعظك بهذا ,وإنى لكثــيرُ الإســراف على نفسى ,غيـرُ محكــم لكثير من امرى , ولو أن المـرء لا يعـظُ أخـاه حتى يحكمَ نفسه ُ إذاً لتــواكـل الناس الخيــر , وإذاً لـرفع الأمـرُ بالمعـروف والنهى عن المنـكر , وإذاً لاستحـلت المحـارمُ ,وقل الواعظــون والسـاعون لله بالنصيــحة فى الارض ,فإن الشيطـان واعوانه يودون أن لايأمـر أحد بمعـروف ولا ينهى عن منـكر ,وإذا أمـرهم أحدٌ أو نـهاهُم عابـوه بما فيه وبما ليس فيه كمــا قيــل :
وأُعلنت الفــواحشُ فى البــوادى *..* وصــار النــاس أعـوان المــريب
إذا مـا عـبـتـهـم عابـوا مقـالى *..* لما فى القـوم من تلك العيــوب
وودوا لو كـفـفـنا فاسـتـويـنـا *..* فصــار الناس كالشىء المـشـوب
وكـنا نسـتطبإذا مــرضـنــا *..* فـصــار هـلاكـنا بيــد الطــبيـب
كان بعض العلمـاء المشهورين له مجـلس للوعـظ ,فجـلس فيه يومـا ًفنـظر إلى من حوله وهم خلق كثـير ,وما منهم إلا من قد رق قلـبه أو دمـعت عينـه, فقال لنفسه فيما بينه وبينهـا : كيـف بك إن نجــا هؤلاء وهلـكت انت؟ثم قال فى نفسـه : اللهم ,إن قضيـت على غداً بالعذاب فلا تعلـم هؤلاء بعـذابى ,صيانة لكـرمك لا لأجلى لئلا يقال :عذب من كان فى الدنيـا ,يدل عليه. يا إلهى! قد قيـل لنبيك صلى الله عليه وسلم :اقتل ابن أُبى المنـافق ,فقال : لا يتحدث الناس أن محـمداً يقتل أصحـابه,,فامتنع من عقابه , لما كان فى الظاهر ينسب إليه , وأنا على كل حال فإليك أنسبُ .
زورَ رجـل شفاعة إلى بعض الملوك على لسان بعض أكـابرالدولة ,فاطلع المزور عليه على الحال ,فسعى عند الملك فى قضاء تلك الحـاجة ,واجتهد حتى قضيت ,ثم قال للمزور عليه :ماكنا نخيب من علق أمله بنا ,ورجا النفع من جهتنا .
إلهى ! فأنت أكـرم الأكــرمين ,وأرحم الـراحــمـين ,فلا تخيب من علق أمـله ورجـاءَهُ بك ,وانتسـب إليك ,ودعـا عبـادك إلى بابك وإن كان متطـفلاً على كـرمِك ,ولم يكن أهلاً للسمسرة بينك وبين عـبادك لكنه طمـع فى سـعـة جـودك ,وكـرمـك, فأنت أهل الجــود والكـرم ,وربما استحيـا الكــريم من رد من تطـفل على سمــاط كــرمه .
إن كنـت لاأصـلـح للقــرب *..* فشــأنكمـ صـــفـح عن الذنـــب
من كتــاب لطائـف المـعارف