حروف الهجاء من خلال الشعر
حروف الهجاء من خلال الشعر
محيي الدين صالح
أدب الأطفال من منظور إسلامي
(إبراهيم شعراوي نموذجًا)
حروف الهجاء من خلال الشعر
حروف اللُّغة العربيَّة بالإضافة إلى أنَّها مكوِّناتُ أعظم لغة؛ فإنَّ فيها من الأسرار ما لا يَعْرفها أحدٌ حتَّى اليوم، وكانت الحروف المقطعة في بدايات بعض سور القرآن الكريم وما زالت تعجيزًا لقوم اشتهروا بالفصاحة وقوَّة البلاغة والبيان، و"شعراوي" تعامل مع حروف الهجاء واضعًا في اعتباره أنَّها ستحتفظ بأسرارها إلى أن يشاء الله، ولكن لا مانع من إعطاء الخيال فرصة؛ لتعبِّر هذه الحروفُ عن نفسها في سبيل التَّعارُف بينها وبين مَن يريد، وبالذَّات الأطفال.
قسَّم "شعراوي" حروفَ الهجاء الثَّمانِيَ والعشرين إلى أربع مجموعات؛ كل مجموعة عبارة عن سبعة أحرف متتالية، وأفرد لكلِّ مجموعة منها جزءًا مستقلاًّ من أجزاء كتابه: "حكايات وأغانٍ على حروف الهجاء"، ونَهَج أسلوبًا يتوافق مع المرحلة السِّنية التي خصَّها بها المؤلِّف، وهي المرحلة من أربع سنوات إلى تسع سنوات، وقد قامت الهيئة المصريَّة العامة للكتاب بطباعة هذه الأجزاء طباعةً فاخرة على ورق مصقول يُناسب الطفل، وبألوانٍ جذَّابة، وطرحَتْها للثَّقافة العامَّة بالمكتبات - وكان الأفضل والأكثر نفعًا أن تتولَّى وزارةُ التربية والتعليم مداولةَ هذا السِّفْر العظيم، وتعميمه بين أطفال الحضانة والمراحل الأولى من المدارس الابتدائيَّة، وأرجو ذلك - والأجزاء الأربعة مقسَّمةٌ كالآتي:
1 - من حرف أ إلى حرف خ.
2 - من د إلى ص.
3 - من ض إلى ق.
4 - من ك إلى ي.
ومن المُلاحَظ أنَّ البُعد الدِّيني لا يفارق "شعراوي" وهو يجوب بين الحروف، وكلَّما أراد أن يعلِّم الأطفال حرفًا من الحروف، يصوغ قصيدتَه حوله، ويركِّز على هذا الحرف بحيث يأتي به كثيرًا بين الكلمات بدون إخلالٍ بالمعاني، وفي الطِّباعة يتمُّ إعطاء الحرف المقصود لونًا مميزًا عن بقية الحروف؛ ليلفت انتباه الطفل إليه.
ففي حديثه عن حرف (النون) في الجزء الرابع، يسرد جانبًا من قصة سيِّدنا نوح - عليه السَّلام - مع السفينة، وفي ثلاثة أبياتٍ فقط يأتي بحرف النُّون أربعَ عشرة مرَّة؛ بهدف التركيز عليه، يقول:
وفي هذه الأبيات حشدٌ كبير من المعاني التي تثير فُضول الأطفال، وتغريهم بالمتابعة والحفظ، فالحديث عن (جدِّ بني الإنسان) يؤثِّر تأثيرًا بليغًا في وجدانيَّات الطفل الذي يَعتبر الجدَّ هو المرجِعَ والأمانَ والحنان، ونبْعَ الحبِّ الصافي الذي لا يعاقِب الصَّغير على الخطأ، ورُبَّما يدافع عنه ويَحْميه من عقاب الأب أو الأمِّ إذا حاولا ذلك، فإذا ما كان هذا الجدُّ القديم قد تعرَّض للطُّوفان، فإنَّ قلب الصغير قد لا يتحمَّل وقْعَ الخبر إذا بُدِئ به، ولن يصبر إلى أن يعرف نهاية الحدث من السَّرد، فكان التوفيق حليفًا لـ"شعراوي" عندما ذكَر في البيت الأول أنَّ هذا الجدَّ العزيز مضى بسفينه في اطمئنان، ثم ذكَر أن الله قد بشَّره بالنجاة هو ومن آمن معه، ثم في البيت الثالث، تأتي الكلمات العنيفة مثل (هول الموج - دمدم - الطوفان)؛ أي: بعد أن تستَقِرَّ نفسية الطِّفل وتطمئنَّ على أن الجدَّ الحبيب لن يناله السُّوء؛ بحِفظ الله له، وهذا هو المنهج القويم لأسلوب الكتابة للطفل.
وقد تعلم "إبراهيم شعراوي" هذا الأسلوبَ من القرآن الكريم، الذي يُطَمْئن المؤمنين بالنِّهايات، عندما يقصُّ عليهم من أنباء الرُّسل ما يثبِّت به أفئدتهم، حيث طمأن الله قلبَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقلوب المؤمنين أنَّ العاقبة للتقوى في بداية السَّرد، كما في قصَّة سيدنا يوسف - عليه السَّلام - حيث نجد في بداية القصة قوله تعالى: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف: 6]، ثم يأتي سَرْدُ أحداث القصَّة بعد ذلك تباعًا: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا [يوسف: 9] - وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً [يوسف: 19] - ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ [يوسف: 35].
وهذه بعض النَّماذج من العقَبات التي اعترضَتْ طريقَ سيِّدنا يوسف في مشوار حياتِه، وهذا المنهج في العرض القرآنيِّ هو نفس المنهج الذي سلكه "شعراوي" في سرْدِه لقصَّة سيِّدنا نوح - عليه السَّلام - شعرًا لأحبابه الصغار.
ولكن أسلوب العرض قد يتغيَّر إذا كان الحديثُ عن شخصيَّة لا نصيبَ لها في وجدانيَّات الأطفال من الحُبِّ، فمشاعرهم في هذه الحالة لن تتأثَّر عند بداية السَّرْد بصعوباتٍ تواجه هذه الشخصية؛ ولذلك عندما أبدع "شعراوي" قصَّة عنوانها "عملاق في قُمقم"، لم يُلْزِم نفسه بالأسلوب الذي سار عليه في قصة سيِّدنا نوح؛ فالمارد العملاق يمثِّل في قلوب الأطفال ذلك المخلوقَ الضخم المُخيف، فلا مانع من أن تبدأ قصَّة هذا المارد وهو محبوس في قمقم أسيرًا بين الظُّلمات، بل ربما يكون من الأفضل في مِثْل هذه الحالات تحجيمُ هذا المخلوق المخيف منذ البداية، فقد بدأ "شعراوي" قصيدته عن هذا المارد قائلاً:
وهذه القصيدة كانت في معرض تعليم الأطفال حرف (الميم) الذي ورد في هذه الأبيات الأربعة في سبعة وعشرين موضعًا، وهكذا نلاحظ أنَّ أسلوب العرض والسَّرد للأطفال يختلف من موقفٍ لآخر؛ مراعاةً لنفسيَّة الطِّفل عند التلقِّي.
والتَّشويق يُعدُّ من أهم الوسائل في أدب الطِّفل، ومن ثَمَّ فإن تجنُّب كلِّ ما يدعو إلى الملل يعتبر ركيزةً أساسيَّة من ركائز جذب انتباه الأطفال، وبَثِّهم القيَم والمثُل، ومنهج "شعراوي" في التشويق مبنِيٌّ على التجديد في أسلوب عرض كلِّ مجموعة منها بالحروف بأسلوبٍ يختلف عمَّا قبله، فعندما كتب مقدِّمة الجزء الأول من كتابه "حكايات وأغان" الذي نحن بصددِه، والذي يحتوي الحروف الهجائية من (أ - خ) قدَّمه أيضًا شعرًا، قائلاً:
هُنَاكَ سَبْعَةٌ مِنَ الحُرُوفِ أَيُّهَا الْمُهَذَّبُ
مَنْ أَنْتُمُ؟
نَحْنُ الحُرُوفُ
أ: إِنَّنِي المُسْتَقِيمُ الأَلِفُ المُنْتَصِبُ
ب: وَإِنَّنِي البَاءُ
ت: وَإِنِّيَ التَّاءُ
ث: ثَاءٌ أَنَا، وَجِيمُنَا المُجَرَّبُ
يَقُولُ
ج: حَيَّا اللهُ حَاءً بَعْدَهُ خَاءٌ
ح: هُوَ السَّابِعُ
خ: جِئْتُ أَخْطُبُ
مَنْ أَنْتُمُ؟
نَحْنُ الحُرُوفُ
أ: إِنَّنِي المُسْتَقِيمُ الأَلِفُ المُنْتَصِبُ
ب: وَإِنَّنِي البَاءُ
ت: وَإِنِّيَ التَّاءُ
ث: ثَاءٌ أَنَا، وَجِيمُنَا المُجَرَّبُ
يَقُولُ
ج: حَيَّا اللهُ حَاءً بَعْدَهُ خَاءٌ
ح: هُوَ السَّابِعُ
خ: جِئْتُ أَخْطُبُ
بهذه المُحادثة أو الحوار الدَّائر بين الحروف؛ كانت مقدِّمة الجزء الأول، ولا يَخْفى مدى تأثير هذه المُزاوجة والتَّداخلات الموزونة على خيال الطِّفل بما يُداعب ملكاتِه الخاصَّة.
وعند تقديم الجزء الثَّالث من نفس السِّلسلة، والذي يحتوي على الحروف من (ض - ق) كان أسلوب العرض مختلفًا، فقد جاءت الحروفُ متناغمة في قصيدة عموديَّة، نقتطع بعضَ أبياتِها للاستشهاد بها، يقول "شعراوي":
اليَوْمَ نَلْتَقِي بِحَرْفِ (الضَّادِ)
حَرْفٌ يَضُمُّ أُمَّةَ الأَضْدَادِ
وَنَلْتَقِي (بِالطَّاءِ) فِي الطِّلاَءِ
وَالطَّيْرِ وَالطُّوفَانِ وَالإِبْطَاءِ
(وَالظَّاءِ) عِنْدَ المَظْهَرِ النَّظِيفِ
وَفِي ظِلاَلِ لَفْظِكَ الظَّرِيفِ
(وَالعَيْنِ) فِي العُدَّةِ وَالعَتَادِ
وَمَعْرِضِ الأَعْرَاسِ وَالأَعْيَادِ
(وَالغَيْنِ) فِي الغَزْلِ وَفِي الغَزَالِ
وَالغَرْسِ وَالغَوْصِ إِلَى الغَوَالِي
(وَالفَاءِ) قَالَ الفَارِسُ الإِفْرِيقِي
أُحَقِّقُ الأَهْدَافَ لِلفَرِيقِ
وَنَلْتَقِي (بِالقَافِ) يَا صَدِيقِي
عِنْدَ تَلاَقِي القَوْمِ بِالطَّرِيقِ
حَرْفٌ يَضُمُّ أُمَّةَ الأَضْدَادِ
وَنَلْتَقِي (بِالطَّاءِ) فِي الطِّلاَءِ
وَالطَّيْرِ وَالطُّوفَانِ وَالإِبْطَاءِ
(وَالظَّاءِ) عِنْدَ المَظْهَرِ النَّظِيفِ
وَفِي ظِلاَلِ لَفْظِكَ الظَّرِيفِ
(وَالعَيْنِ) فِي العُدَّةِ وَالعَتَادِ
وَمَعْرِضِ الأَعْرَاسِ وَالأَعْيَادِ
(وَالغَيْنِ) فِي الغَزْلِ وَفِي الغَزَالِ
وَالغَرْسِ وَالغَوْصِ إِلَى الغَوَالِي
(وَالفَاءِ) قَالَ الفَارِسُ الإِفْرِيقِي
أُحَقِّقُ الأَهْدَافَ لِلفَرِيقِ
وَنَلْتَقِي (بِالقَافِ) يَا صَدِيقِي
عِنْدَ تَلاَقِي القَوْمِ بِالطَّرِيقِ
وهي كما ترى طريقة مبتكَرة لِغَرْس استعمالات الحروف في أذهان الأطفال، وفي نفس الوقت غرس المعاني النَّبيلة والكلمات الموحية، وإثراء للخيال بشكلٍ إيجابي عند الطفل.
هنا