جهاد النفس وجهاد الشيطان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أمّا بعد:
لما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» [رواه الترمذي وصححه الألباني]، كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له، فإنّه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُُمرت به وتترُكَ ما نُهيَت عنه، ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج.
فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله؟ بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج.
وهناك عدو ثانٍ لا يمكنه جهاد نفسه وجهاد عدوه إلاّ بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويُرجف به، ولا يزال يُخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوت اللذات والمشتهيات، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلاّ بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما وهو الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة فاطر: 6]، والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، وكأنّه عدو لا يفتر ولا يقصر عن محاربة العدو على عدد الأنفاس.
وجهاد النفس أربع مراتب:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لافلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلاّ به، ومتى فاتها عمله شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلاّ فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلاّ كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإن استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإنّ السلف مُجمعون على أن العالم لا يستحق أن يُسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويُعلِّمَه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات.
وأمّا جهاد الشيطان فمرتبتان:
إحداهما: جهاده على ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
الثانية: جهاده على دفع ما يُلقي إلى العبد من الإرادات الفاسدة والشهوات.
فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني يكون بعده الصبر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [سورة السجدة: 24]، فأخبر سبحانه وتعالى أنّ إمامة الدين إنّما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.
ولا يتم هذا الجهاد إلاّ بهجرتين في كل وقت:
إحداهما: هجرة إلى الله عز وجل بالتوحيد والإخلاص والإنابة والتوكل والخوف والرجاء والمحبة والتوبة.
ثانيهما: هجرة إلى رسوله بالمتابعة والانقياد لأمره، والتصديق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره، وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله وجهاد شيطانه، فهذا كله فرض عين لاينوب فيه أحد عن أحد.
فالشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي» [متفق عليه].
وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر، ففي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي فاكه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تـُسلم، وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول؟ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهاد النفس والمال، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة» [رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني].
فالشيطان بالرصد للإنسان على طريق كل خير، فأمر سبحانه وتعالى العبد أن يُحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله تعالى منه أولاً، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه أولاً، ثم اندفع في سيره، فقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [سورة الناس: 1-6]، وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [سورة المؤمنون: 97- 98]، وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأعراف: 200]، وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل: 98].
ولما دعت امرأة العزيز يوسف عليه السلام إلى الفاحشة قال: {مَعَاذَ اللَّهِ} [سورة يوسف: 23]، وقالت مريم عليها السلام لما جاءها الملك يبشرها بالمسيح عليه السلام: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [سورة مريم: 18]، وقالت امرأة عمران: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} [سورة آل عمران: 36].
فالعبد ينبغي أن يأنف أن يكون تحت قهر عدوه؛ فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وهمة، وميلاً إلى هواه طمع فيه وصَرَعَه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد، ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس وعلو همة، لم يطمع فيه إلاّ اختلاساً وسرقة.
فالهوى ما خالط شيئاً إلاّ أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق، وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين، حيث يولي بهواه ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة، فما قارن الهوى شيئاًَ إلاّ أفسده.
وليعلم أنّ الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلاّ من باب هواه، فإنّه يطيف به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلاً إلاّ من باب الهوى، كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة القصص: 50].
وقد شبه الله تعالى أتباع الهوى بأخس الحيوانات صورة ومعنى، فشبههم بالكلب وبالحمر قال تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [سورة الأعراف: 176]، وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [سورة المدثر: 50-51]، وبيَّن الله تعالى أنّ كل من اتبع هواه فهو ظالم فقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الروم: 29]، وقد شبه الله تعالى متبع الهوى بعابد الوثن، وجعله في منزلته فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الفرقان: 43]، قال الحسن البصري: "هو المنافق لا يهوى شيئاً إلاّ ركبه". وقال أيضا: "المنافق عبد هواه لا يهوى شيئاً إلاّ فعله".
ومخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه. قال بعض السلف: "الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده". وفي الحديث الصحيح المرفوع: «ليس الشديد بالصرعة إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» [متفق عليه]، وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوة إلى قوته والله عز وجل جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين، كما قال بعض السلف: "إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيّهما أرشد فخالف أقربهما من هواك، فإنّ أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى".
والهوى داء ودواؤه مخالفته، قال بعض العارفين: "إن شئت أخبرتك بدائك وإن شئت أخبرتك بدوائك، داؤك هواك ودواؤك ترك هواك ومخالفته".
وجهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري - رحمه الله تعالى-: يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك.
قال ابن القيم: "وسمعت شيخنا - يعني ابن تيمية - يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين فإنّه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم".
واتباع الهوى يغلق على العبد أبواب التوفيق ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفقه لكان كذا وكذا، وقد سد على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه، قال الفضيل بن عياض: "من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق".
فليعلم أنّ أعدى عدو للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديق له عقله والمَلَكُ الناصح له، فإذا اتبع هواه أعطى بيده لعدوه، واستأثر له وأشمته به، وساء صديقه ووليَّه، وهذا بعينه هو جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
وليعلم كذلك أنّ لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء بحسب ما اتبع من هواه؛ لأنّ اتباع الهوى مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: «بُعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصَّغار على من خالف أمري» [رواه أحمد وصححه الألباني]، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصباح والمساء: «اللّهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكَه أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم» [رواه أبو داود وصححه الألباني].
كتبه/ محمود عبد الحميد
لما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعاً على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» [رواه الترمذي وصححه الألباني]، كان جهاد النفس مقدماً على جهاد العدو في الخارج وأصلاً له، فإنّه ما لم يجاهد نفسه أولاً لتفعل ما أُُمرت به وتترُكَ ما نُهيَت عنه، ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج.
فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له متسلط عليه لم يجاهده ولم يحاربه في الله؟ بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه حتى يجاهد نفسه على الخروج.
وهناك عدو ثانٍ لا يمكنه جهاد نفسه وجهاد عدوه إلاّ بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما ويخذله ويُرجف به، ولا يزال يُخيل له ما في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ، وفوت اللذات والمشتهيات، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلاّ بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما وهو الشيطان، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [سورة فاطر: 6]، والأمر باتخاذه عدواً تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، وكأنّه عدو لا يفتر ولا يقصر عن محاربة العدو على عدد الأنفاس.
وجهاد النفس أربع مراتب:
إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لافلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلاّ به، ومتى فاتها عمله شقيت في الدارين.
الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلاّ فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.
الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلاّ كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه ولا ينجيه من عذاب الله.
الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإن استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإنّ السلف مُجمعون على أن العالم لا يستحق أن يُسمى ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويُعلِّمَه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات.
وأمّا جهاد الشيطان فمرتبتان:
إحداهما: جهاده على ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.
الثانية: جهاده على دفع ما يُلقي إلى العبد من الإرادات الفاسدة والشهوات.
فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني يكون بعده الصبر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [سورة السجدة: 24]، فأخبر سبحانه وتعالى أنّ إمامة الدين إنّما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.
ولا يتم هذا الجهاد إلاّ بهجرتين في كل وقت:
إحداهما: هجرة إلى الله عز وجل بالتوحيد والإخلاص والإنابة والتوكل والخوف والرجاء والمحبة والتوبة.
ثانيهما: هجرة إلى رسوله بالمتابعة والانقياد لأمره، والتصديق بخبره، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره، وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله وجهاد شيطانه، فهذا كله فرض عين لاينوب فيه أحد عن أحد.
فالشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي» [متفق عليه].
وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر، ففي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي فاكه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «إنّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: تـُسلم، وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول؟ فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تجاهد فهو جهاد النفس والمال، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقا على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة» [رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني].
فالشيطان بالرصد للإنسان على طريق كل خير، فأمر سبحانه وتعالى العبد أن يُحارب عدوه الذي يقطع عليه الطريق، ويستعيذ بالله تعالى منه أولاً، ثم يأخذ في السير، كما أن المسافر إذا عرض له قاطع طريق اشتغل بدفعه أولاً، ثم اندفع في سيره، فقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [سورة الناس: 1-6]، وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [سورة المؤمنون: 97- 98]، وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأعراف: 200]، وقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [سورة النحل: 98].
ولما دعت امرأة العزيز يوسف عليه السلام إلى الفاحشة قال: {مَعَاذَ اللَّهِ} [سورة يوسف: 23]، وقالت مريم عليها السلام لما جاءها الملك يبشرها بالمسيح عليه السلام: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [سورة مريم: 18]، وقالت امرأة عمران: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} [سورة آل عمران: 36].
فالعبد ينبغي أن يأنف أن يكون تحت قهر عدوه؛ فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف عزيمة وهمة، وميلاً إلى هواه طمع فيه وصَرَعَه، وألجمه بلجام الهوى، وساقه حيث أراد، ومتى أحس منه بقوة عزم وشرف نفس وعلو همة، لم يطمع فيه إلاّ اختلاساً وسرقة.
فالهوى ما خالط شيئاً إلاّ أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق، وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين، حيث يولي بهواه ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة، فما قارن الهوى شيئاًَ إلاّ أفسده.
وليعلم أنّ الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلاّ من باب هواه، فإنّه يطيف به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلاً إلاّ من باب الهوى، كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [سورة القصص: 50].
وقد شبه الله تعالى أتباع الهوى بأخس الحيوانات صورة ومعنى، فشبههم بالكلب وبالحمر قال تعالى: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [سورة الأعراف: 176]، وقال تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [سورة المدثر: 50-51]، وبيَّن الله تعالى أنّ كل من اتبع هواه فهو ظالم فقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة الروم: 29]، وقد شبه الله تعالى متبع الهوى بعابد الوثن، وجعله في منزلته فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [سورة الفرقان: 43]، قال الحسن البصري: "هو المنافق لا يهوى شيئاً إلاّ ركبه". وقال أيضا: "المنافق عبد هواه لا يهوى شيئاً إلاّ فعله".
ومخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه. قال بعض السلف: "الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده". وفي الحديث الصحيح المرفوع: «ليس الشديد بالصرعة إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» [متفق عليه]، وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوة إلى قوته والله عز وجل جعل الخطأ واتباع الهوى قرينين، وجعل الصواب ومخالفة الهوى قرينين، كما قال بعض السلف: "إذا أشكل عليك أمران لا تدري أيّهما أرشد فخالف أقربهما من هواك، فإنّ أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى".
والهوى داء ودواؤه مخالفته، قال بعض العارفين: "إن شئت أخبرتك بدائك وإن شئت أخبرتك بدوائك، داؤك هواك ودواؤك ترك هواك ومخالفته".
وجهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري - رحمه الله تعالى-: يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك.
قال ابن القيم: "وسمعت شيخنا - يعني ابن تيمية - يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين فإنّه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم".
واتباع الهوى يغلق على العبد أبواب التوفيق ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفقه لكان كذا وكذا، وقد سد على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه، قال الفضيل بن عياض: "من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق".
فليعلم أنّ أعدى عدو للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديق له عقله والمَلَكُ الناصح له، فإذا اتبع هواه أعطى بيده لعدوه، واستأثر له وأشمته به، وساء صديقه ووليَّه، وهذا بعينه هو جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
وليعلم كذلك أنّ لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء بحسب ما اتبع من هواه؛ لأنّ اتباع الهوى مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: «بُعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصَّغار على من خالف أمري» [رواه أحمد وصححه الألباني]، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصباح والمساء: «اللّهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكَه أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم» [رواه أبو داود وصححه الألباني].
كتبه/ محمود عبد الحميد