شرح مختصر في علم أصول الفقه
الشيخ سعد بن ناصر الشثري
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْـمُقَدِّمَةُ
اسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
نَحْمَدُ اللهَ جَلَّ وَعَلَا وَنُثْنِي عَلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا قَدْ أَنْزَلَ كِتَابَهُ الْعَظِيمَ لِيَكُونَ نُورًا يَهْتَدِي بِهِ النَّاسُ، وَلِيَكُونَ سَبَبًا مِنْ أَسْبَابِ صَلَاحِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَاسْتِقَامَتِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلِيَكُونَ حَاكِمًا عَلَى أَفْعَالِ الْخَلْقِ، هَذَا الْكِتَابُ الْعَظِيمُ يَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِيهِ لِاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ إِلَى قَوَاعِدَ، حَرِصَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِخْلَاصِهَا وَجَمْعِهَا مِنْ خِلَالِ مُؤَلَّفَاتِهِمْ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدِ اعْتَنَى عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ بِهَذَا الْعِلْمِ عِنَايَةً خَاصَّةً، وَأَلَّفُوا فِيهِ الْمُؤَلَّفَاتِ الْعَدِيدَةَ، مُنْذُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِهِ: «الرِّسَالَةِ»، وَ«جِمَاعِ الْعِلْمِ» فَهَذَا الْعِلْمُ، عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ، عِلْمٌ سَلَفِيٌّ سُنِّيٌّ؛ لِأَنَّ أَوَائِلَ مَنْ كَتَبَ فِيهِ هُمْ سَلَفُنَا الصَّالِحُ، وَفِي مُقَدِّمَتِهِمُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ، ثُمَّ أَلَّفَ فِيهِ عُلَمَاءُ السَّلَفِ مُؤَلَّفَاتٍ، وَدَخَلَ فِيهِ أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ الْفِرَقِ، فَأَلَّفُوا مُؤَلَّفَاتٍ كَانَتْ مُتَوَافِقَةً مَعَ عَقَائِدِهِمْ، فَاحْتَاجَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَضَعُوا مُؤَلَّفَاتٍ تَشْمَلُ قَوَاعِدَ الْأُصُولِ، وَتَتَنَاسَبُ مَعَ اللُّغَةِ الَّتِي يَفْهَمُهَا النَّاسُ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَتَكُونُ مَبْنِيَّةً عَلَى كِتَابٍ وَسُنَّةٍ، وَتَكُونُ مُتَوَافِقَةً مَعَ الْمُعْتَقَدِ الصَّحِيحِ، وَمِنْ هُنَا حَرِصَ عُلَمَاءُ الدَّعْوَةِ الْإِصْلَاحِيَّةِ عَلَى التَّأْلِيفِ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ، لِتَوْضِيحِ هَذَا الْعِلْمِ وَتَسْهِيلِهِ لِلنَّاسِ مِنْ جِهَةٍ، وَبِنَائِهِ عَلَى أُسُسٍ صَحِيحَةٍ مُسْتَمَدَّةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمِمَّنْ أَلَّفَ فِي هَذَا الْعِلْمِ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبَا بُطَيْنٍ، الْمَوْلُودِ فِي سَنَةِ 1194، وَالْمُتَوَفَّى فِي سَنَةِ 1282، وَقَدْ تَلَقَّى الْعِلْمَ عَلَى عَدَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ، وَمِنْ أَبْرَزِهِمُ: الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَالشَّيْخُ حَمَدُ بْنُ مَعْمَرٍ، وَغَيْرُهُمْ، وَقَدْ تَتَلْمَذَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَتَبُوا وَأَلَفُوا، مِنْ هَؤُلَاءِ: الشَّيْخُ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، وَالْجَدَّ الشَّيْخُ صَالِحٌ الشَّذَرِيُّ، وَجَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَالشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ الْبَابَطِينُ لَهُ مُشَارَكَاتٌ عَدِيدَةٌ فِي عُلُومٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا:
مُشَارَكَتُهُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ؛ فَقَدْ أَلَّفَ فِي هَذَا الْعِلْمِ كِتَابًا أَوْ رِسَالَةً صَغِيرَةً فِي صَفْحَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَقَدْ تَمَّ شَرْحُهَا فِي لِقَاءٍ فِي دَوْرَةٍ سَابِقَةٍ، وَأَلَّفَ مُخْتَصَرًا أَعْلَى مِنَ الْمُخْتَصَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِينَا، وَالْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ لَهُ اجْتِهَادَاتٌ أُصُولِيَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ بِآرَاءِ الْأُصُولِيِّينَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَتَمَيَّزَ كِتَابُهُ بِوَجَازَةِ اللَّفْظِ مَعَ اسْتِيعَابِ كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ، وَلَعَلَّنَا إِنْ شَاءَ اللهُ نَبْتَدِئُ قِرَاءَةَ هَذَا الْكِتَابِ.
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ البَابُطَيْنٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ عَلَى سَوَابِغِ نَعْمَائِهِ، وَتَوَابِعِ آلَائِهِ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَوْلِيَائِهِ.
وَبَعْدُ، فَهَذَا مُخْتَصَرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ قَرِيبُ الْمَنَالِ، غَرِيبُ الْمِنْوَالِ، كَافِلٌ لِمَنْ اعْتَمَدَهُ إِنْ شَاءَ اللهُ بِبُلُوغِ الْآمَالِ، وَارْتِفَاعِ ذِرْوَةِ الْكَمَالِ، وَهُوَ عِلْمٌ فِي قَوَاعِدَ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، وَتُحْصَرُ فِي عَشْرَةِ أَبْوَابٍ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ
فِي الْأَحْكَامِ وَتَوَابِعِهَا
هُوَ الْوُجُوبُ، وَالْحُرْمَةُ، وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَتُعْرَفُ بِمُتَعَلَّقَاتِهَا.
وَالْوَاجِبُ: مَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ بِفِعْلِهِ وَالْعِقَابُ بِتَرْكِهِ، وَالْحَرَامُ بِالْعَكْسِ.
وَالْمَسْنُونُ: مَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ بِفِعْلِهِ وَالْعِقَابُ بِتَرْكِهِ، وَالْمَكْرُوهُ بِالْعَكْسِ.
وَالْمُبَاحُ: مَا لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ فِي فِعْلِهِ وَلَا تَرْكِهِ.
وَالْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ مُتَرَادِفَانِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَيَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ إِلَى فَرْضِ عَيْنٍ، وَفَرْضِ كِفَايَةٍ، وَإِلَى مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ، وَإِلَى مُطْلَقٍ وَمُؤَقَّتٍ، وَالْمُؤَقَّتُ إِلَى مُضَيَّقٍ وَمُوَسَّعٍ، وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُسْتَحَبُّ مُتَرَادِفَانِ، وَالْمَسْنُونُ أَخَصُّ مِنْهُمَا، وَالصَّحِيحُ: مَا وَافَقَ أَمْرَ الشَّارِعِ، وَالْبَاطِلُ نَقِيضُهُ، وَالْفَاسِدُ: هُوَ الْمَشْرُوعُ أَصْلُهُ الْمَمْنُوعُ بِوَصْفِهِ، وَقِيلَ: مُرَادِفُ الْبَاطِلِ. وَالْجَائِزُ يُطْلَقُ عَلَى الْمُبَاحِ، وَعَلَى الْمُمْكِنِ، وَعَلَى مَا اسْتَوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ عَقْلًا، وَعَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ، وَالْأَدَاءُ: مَا فُعِلَ أَوَّلًا فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا، وَالْقَضَاءُ: مَا فُعِلَ بَعْدَ وَقْتِ الْأَدَاءِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لَهُ وُجُوبٌ مُطْلَقًا، وَالْإِعَادَةُ: مَا فُعِلَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ ثَانِيًا لخِلَلٍ فِي الْأَوَّلِ، وَالرُّخْصَةُ مَا شُرِعَ لِعُذْرٍ مَعَ بَقَاءِ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ، وَالْعَزِيمَةُ بِخِلَافِهَا.
الْبَابُ الثَّانِي
فِي الْأَدِلَّةِ
الدَّلِيلُ: مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِالْيَقِينِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ عِنْدَهُ الظَّنُّ فَهُوَ أَمَارَةٌ، وَقَدْ سُمِّيَ دَلِيلًا تَوَسُّعًا.
وَالْعِلْمُ: هُوَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي بِسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى أَنَّ مُتَعَلَّقُهُ، كَمَا اعْتَقَدَهُ، وَهُوَ نَوْعَانِ: ضَرُورِيٌّ وَاسْتِدْلَالِيُّ.
فَالضَّرُورِيُّ: مَا لَا يَنْتَفِي بِشَكٍّ وَلَا شُبْهَةٍ، وَالِاسْتِدْلَالِيُّ مُقَابِلُهُ.
وَالظَّنُّ: تَجْوِيزُ الرَّاجِحِ، وَالْوَهْمُ: تَجْوِيزُ الْمَرْجُوحِ، وَاسْتِوَاءُ التَّجْوِيزَيْنِ شَكٌّ، وَالِاعْتِقَادُ: هُوَ الْجَزْمُ بِالشَّيْءِ مِنْ دُونِ سُكُونِ النَّفْسِ، فَإِنْ طَابَقَ فَصَحِيحٌ، وَإِلَّا فَفَاسِدٌ، وَهُوَ الْجَهْلُ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْجَهْلُ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ.
فَصْلٌ
وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ.
فَالْكِتَابُ: هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْإِعْجَازِ بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَشَرْطُهُ التَّوَاتُرُ، فَمَا نُقِلَ آحَادًا فَلَيْسَ بِقُرْآنٍ؛ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْتَضِي التَّوَاتُرَ فِي تَفَاصِيلِ مِثْلِهِ، وَتَحْرُمُ الْقِرَاءَةُ بِالشَّوَاذِّ، وَهِيَ مَا عَدَا الْقِرَاءَاتِ السَّبْعِ، وَهِيَ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهَا، وَالْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْمُحْكَمُ مَا اتَّضَحَ مَعْنَاهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مُقَابِلُهُ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا مَعْنَى لَهُ، خِلَافًا لِلْحَشَوِيَّةِ، وَلَا مَا الْمُرَادُ بِهِ خِلَافُ ظَاهِرِهِ مِنْ دُونِ دَلِيلٍ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُرْجِئَةِ.
قَالَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» أَيْ أَبْتَدِئُ هَذَا الْكِتَابَ بِبِسْمِ اللهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَمْدِ الثَّنَاءُ بِالْجَمِيلِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ (ال) الْحَمْدُ لَا يُرَادُ بِهَا الِاسْتِغْرَاقُ وَالْعُمُومُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهَا (ال) الْعَهْدِيَّةُ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا الْحَمْدُ الْكَامِلُ الَّذِي لَا يَعْتَرِيهِ نَقْصٌ «عَلَى سَوَابِغِ نَعْمَائِهِ» السَّوَابِغُ: الْمُغَطِّيَةُ لِلشَّيْءِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَإِنَّ نِعَمَ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ قَدْ أَتَتْهُمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
«وَتَوابِعُ آلَائِهِ» يَعْنِي أَنَّ النِّعَمَ قَدْ تَتَابَعَتْ عَلَى الْعِبَادِ؛ فَنُثْنِي عَلَيْهِ وَنَحْمَدُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمُرَادُ بِهَا الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ عَلَيْهِ، وَقَالَ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِهَا الدُّعَاءُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
«خَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ» يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِمَّنْ أُرْسِلُوا إِلَى النَّاسِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾([1] ) .
«وَعَلَى آلِهِ» الْمُرَادُ بِالْآلِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَتْبَاعُهُ مِنَ الْأَتْقِيَاءِ، وَقَالَ طَائِفَةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَرَابَتُهُ، وَلَفْظَةُ الْآلِ فِي اللُّغَةِ تَصُدُقُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾([2]) .
يَعْنِي أَتْبَاعَهُ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ﴾([3]). لَمَّا اسْتَثْنَى الزَّوْجَةَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْقَرَابَةُ وَالْأَهْلُ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ الْقَرَابَةُ اخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِذُرِّيَّتِهِ وَأَزْوَاجِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ بَنِي هَاشِمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمُرَادَ بَنِي الْمُطَّلِبِ.
وَقَوْلُهُ: «وَصَحْبِهِ» الْمُرَادُ بِالصَّاحِبِ: مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤْمِنًا وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى مَا سَبَقَ يَكُونُ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ.
«وَأَوْلِيَائِهِ» يَعْنِي مَنْ وَالَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قَالَ: «فَهَذَا» يَعْنِي هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي فِي ذِهْنِي كِتَابَتُهُ: «مُخْتَصَرٌ فِي عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ».
وَالْمُخْتَصَرُ: هُوَ الْكَلَامُ الْقَلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ، وَالْأَصْلُ: هُوَ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ غَيْرُهُ، أَوْ يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْفِقْهِ هُنَا لَيْسَ مُجَرَّدَ عِلْمِ الْفُرُوعِ الَّذِي هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِالْأَحْكَامِ التَّفْصِيلِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ الْفِقْهِ هُنَا: مَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»([1]). لِأَنَّ قَوَاعِدَ الْأُصُولِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْهَا فُرُوعٌ فِقْهِيَّةٌ، يُؤْخَذُ بِوَاسِطَتِهَا الْأَحْكَامُ الْعَقَدِيَّةُ.
وَقَوْلُهُ: «قَرِيبُ الْمَنَالِ» يَعْنِي أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحَصِّلَ مِنْهُ مَطْلُوبَهُ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ تَمَكَّنَ مِنْهُ عَلَى قُرْبٍ وَبِسُهُولَةٍ.
وَ«غَرِيبُ الْمِنْوَالِ» أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى مِثَالِهِ كِتَابٌ سَابِقٌ.
«كَافِلٌ لِمَنِ اعْتَمَدَهُ إِنْ شَاءَ اللهُ بِبِلُوغِ الْآمَالِ» يَعْنِي أَنَّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى هَذَا الْمُخْتَصَرِ فَإِنَّهُ يُوَصِّلُهُ إِلَى مَا يُؤَمِّلُهُ مِنَ اسْتِيعَابِ عِلْمِ الْأُصُولِ، فَرَبَطَ ذَلِكَ بِمَشِيئَةِ اللهِ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ﴾([2]).
«وَارْتِفَاعُ ذِرْوَةِ الْكَمَالِ» لِأَنَّ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ الشَّرْعِيَّةِ تَفْصِيلُ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ الْعَاِلِم عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ»([3]). وَلَا تُنَالُ هَذِهِ الرَّتْبَةُ إِلَّا بِنَيْلِ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي مِنْ سُبُلِهَا مَعْرِفَةُ عِلْمِ الْأُصُولِ.
ثُمَّ ابْتَدَأَ الْمُؤَلِّفُ بِتَعْرِيفِ هَذَا الْعِلْمِ فَقَالَ: عِلْمُ الْأُصُولِ «عِلْمٌ بِقَوَاعِدَ» كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأُصُولَ هِيَ الْقَوَاعِدُ. لِأَنَّ الْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي تَعْرِيفِ الْعُلُومِ ثَلَاثَةُ مَنَاهِجَ:
مِنْهُمْ مَنْ يُعَرِّفُ الْعِلْمَ بِالْإِدْرَاكِ، كَمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ هُنَا: هُوَ عِلْمٌ. يَعْنِي أَنَّ الْعِلْمَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِدْرَاكِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَرِّفُهُ بِالْمُدْرَكِ، فَيَقُولُ هُوَ الْقَوَاعِدُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَرِّفُهُ بِالْمَلَكَةِ الْحَاصِلَةِ بِنَاءً عَلَى دِرَاسَةِ ذَلِكَ الْعِلْمِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: أُصُولُ الْفِقْهِ. وَ:كِتَابُ أُصُولٍ. سَوَاءً وُجِدَ الْعَالِمُ الْمُدْرِكُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ.
وَقَوْلُهُ: «قَوَاعِدُ» الْقَوَاعِدُ هِيَ الْأَحْكَامُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تَنْطَبِقُ عَلَى جُزْئِيَّاتٍ كَثِيرَةٍ، تُعْرَفُ أَحْكَامُ الْجُزْئِيَّاتِ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الْكُلِّيِّ.
وَقَوْلُهُ: «يُتَوَصَّلُ بِهَا» يَعْنِي أَنَّهَا سَبِيلٌ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، يَعْنِي اسْتِخْرَاجَ الْأَحْكَامِ.
وَقَوْلُهُ هُنَا: «الْفَرْعِيَّةِ» تُقَابِلُ الْأُصُولَ، وَكَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّ قَوَاعِدَ هَذَا الْعِلْمِ تُسْتَنْبَطُ بِهَا أَحْكَامٌ عَقَدِيَّةٌ، كَمَا تُسْتَنْبَطُ بِهَا الْأَحْكَامُ الْفِقْهِيَّةُ، وَلِذَلِكَ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ﴾([4]). قُلْنَا هَذَا فِعْلُ أَمْرٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ لِقَاعِدَةِ: الْأَمْرُ ([3]) أخرجه أحمد في «مسنده» (5/196)، وأبو داود في كتاب العلم- باب الحث على طلب العلم (3641)، وابن ماجه في كتاب المقدمة- باب فضل العلماء والحث على طلب العلم (223)، والدارمي في «سننه» (342)، وابن حبان في «صحيحه» (88)، والطبراني في «مسند الشاميين» (1231)، والبيهقي في «شُعب الإيمان» (1696)، (1699)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وحسنه الألباني في «مشكاة المصابيح» (212).
إِجْمَالِيَّةٌ كَمَا لَوْ قُلْتُ: الْقُرْآنُ حُجَّةٌ. هَذَا دَلِيلٌ إِجْمَالِيٌّ، فَنَنْظُرُ إِلَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ، هُنَاكَ أَدِلَّةٌ جُزْئِيَّةٌ تَفْصِيلِيَّةٌ كَالْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَقَوْلِكَ: الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ. أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾([1]) فَهَذَا دَلِيلٌ تَفْصِيلِيٌّ.
قَالَ المُؤَلِّفُ:
الْبَابُ الْأَوَّلُ
فِي الْأَحْكَامِ
الْأَحْكَامُ: جَمْعُ حُكْمٍ، وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الْعَامِّ فَالْحُكْمُ: إِثْبَاتُ شَيْءٍ لِآخَرَ، أَوْ نَفْيُهُ عَنْهُ، إِذَا قُلْتُ: مُحَمَّدٌ طَوِيلٌ. هَذَا حُكْمٌ، مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِبَدِينٍ. هَذَا حُكْمٌ، وَالْأَحْكَامُ مِنْهَا: أَحْكَامٌ حِسِّيَّةٌ، كَالْمِثَالِ السَّابِقِ، وَمِنْهَا أَحْكَامٌ نَحْوِيَّةٌ، وَعُرْفِيَّةٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ.
وَمِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ:
الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَتَقْسِيمُ الْأَحْكَامِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ بِاعْتِبَارِ مَصْدَرِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ: خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، أَوِ الْوَضْعِ. فَالْآيَةُ الْقُرْآنِيَّةُ هِيَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ كَقَوْلِهِ: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾([2]). وَقَوْلُهُ: «بِالِاقْتِضَاءِ» أَيْ بِالطَّلَبِ سَوَاءً كَانَ طَلَبًا لِلْفِعْلِ، أَوْ طَلَبًا لِلتَّرْكِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، أَيِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، أَوِ الْوَضْعِ، أَيْ رَبْطِ الْحُكْمِ، أَوْ رَبْطِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ، هَذَا يُقَالُ لَهُ: الْوَضْعُ.
أَقْسَامُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَوَابِعُهَا
وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
الْأَوَّلُ: الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ: وَهِيَ خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، بِدُونِ كَلِمَةِ: الْوَضْعِ.
قَالَ المُؤَلِّفُ: «هِيَ». أَيِ الْأَحْكَامُ التَّكْلِيفِيَّةُ «هِيَ الْوُجُوبُ، وَالْحُرْمَةُ، وَالنَّدْبُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِبَاحَةُ». لِأَنَّ الْخِطَابَ التَّكْلِيفِيَّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا بِالتَّخْيِيرِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا بِطَلَبٍ جَازِمٍ لِلْفِعْلِ، فَيَكُونُ وُجُوبًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا بِطَلَبِ الْفِعْلِ بِدُونِ جَزْمٍ، فَيَكُونُ نَدْبًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا جَازِمًا بِطَلَبِ التَّرْكِ، فَيَكُونُ تَحْرِيمًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خِطَابًا بِطَلَبِ التَّرْكِ غَيْرَ جَازِمٍ، فَيَكُونُ كَرَاهَةً.
قَالَ: «وَتُعْرَفُ بِمُتَعَلَّقَاتِهَا». أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ نَعْرِفُهَا مِنْ خِلَالِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، لِذَلِكَ نَقُولُ: الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ. فَهُنَا لَمْ نَقُلْ: الصَّلَاةُ وُجُوبٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: وَاجِبَةٌ. فَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ: هُوَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ، وَأَثَرُ هَذَا الْحُكْمِ هُوَ كَوْنُ الصَّلَاةِ وَاجِبَةً، فَنَعْرِفُ الْوُجُوبَ مِنْ خِلَالِ مَعْرِفَتِنَا لِكَوْنِ الصَّلَاةِ وَاجِبَةً.
ثُمَّ ابْتَدَأَ الْمُؤَلِّفُ بِبَيَانِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ:
قَالَ: أَوَّلُهَا «الْوَاجِبُ» وَعَرَّفَهُ بِأَنَّهُ «مَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِفِعْلِهِ وَالْعِقَابَ بِتَرْكِهِ» فَمَنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ أُجِرَ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ عُوقِبَ.
يَسْتَشْكِلُ بَعْضُ النَّاسِ كَوْنَهُ قَالَ: مَا يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ. قَالُوا: وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ عَلَيْهِ. وَالصَّوَابُ: أَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا قَدْ يَجْعَلُ لِبَعْضِ الْأَعْمَالِ أَوِ الْأَفْعَالِ سَبَبِيَّةً فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، لِذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ([1]): «أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ»([2]). فَالْعِبَادُ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ لِذَاتِهِمْ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ تَعْرِيفٌ لِلْوَاجِبِ بِأَثَرِهِ، فَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ هَذِهِ آثَارٌ.
مِثَالُ الْوَاجِبِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، فَإِنَّ فَاعِلَهَا مُثَابٌ وَتَارِكَهَا مُعَاقَبٌ.
اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ بِعَدَدٍ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ:
أَوَّلُهَا: أَنَّ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْوَاجِبِ بِأَثَرِهِ وَنَتِيجَتِهِ، وَالتَّعْرِيفَاتُ لَابُدَّ أَنْ تَكُونَ بِذَاتِ الْمُعَرَّفِ لَا بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَفْعَلُ الْوَاجِبَ وَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ مُحْبِطٍ مِنْ مُحْبِطَاتِ الْعَمَلِ كَالرِّدَّةِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ يُفْعَلُ فَلَا يُؤْجَرُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ نِيَّتِهِ.
كَمَا اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِالْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، وَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، فَإِنَّهَا وَاجِبَاتٌ وَلَا عُقُوبَةَ فِيهَا مَتَى فَعَلَ الْعَبْدُ بَقِيَّةَ الْخِصَالِ.
إِذَنْ هُنَاكَ اعْتِرَاضَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ، وَلِذَلِكَ زَادَ بَعْضُهُمْ فِيهِ قُيُودًا أُخْرَى، فَقَالَ طَائِفَةٌ: مَا وُعِدَ عَلَى فِعْلِهِ بِالثَّوَابِ، مَا وُعِدَ عَلَى فِعْلِهِ قَصْدًا مُطْلَقًا بِالثَّوَابِ، وَتُوُعِّدَ بِالْعِقَابِ لِتَرْكِهِ عَمْدًا.
وَقَالَ طَائِفَةٌ: بِأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ بِسَبِيلِ الْجَزْمِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ أَوْلَى وَأَحْسَنُ.
وَقَوْلُهُ: «وَالْحَرَامُ بِالْعَكْسِ». أَيْ أَنَّهُ مَا يُسْتَحَقُّ الْعِقَابُ بِفِعْلِهِ وَالثَّوَابُ بِتَرْكِهِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْإِيرَادَةِ فِي السَّابِقَةِ، لِذَلِكَ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: الْحَرَامُ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ تَرْكَهُ طَلَبًا جَازِمًا.
ثُمَّ قَالَ: «وَالْمَسْنُونُ». هَذَا هُوَ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ الثَّالِثُ، وَكَانَ قَدْ عَبَّرَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ بِالنَّدْبِ أَوِ الْمَنْدُوبِ، وَقَالَ بِأَنَّهُ مَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ بِفِعْلِهِ، وَلَا عِقَابَ فِي تَرْكِهِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إِنَّ الْمَنْدُوبَ: مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَقَالَ: هُوَ بِالْعَكْسِ أَيْ مَا يُسْتَحَبُّ الثَّوَابُ بِتَرْكِهِ، وَلَا عِقَابَ فِي فِعْلِهِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مَا طَلَبَ الشَّارِعُ تَرْكَهُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ. وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَقَالَ: مَا لَا ثَوَابَ وَلَا عِقَابَ لَا فِي فِعْلِهِ وَلَا فِي تَرْكِهِ.
وَنَأْتِي بِأَمْثِلَةٍ تُوَضِّحُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ:
فَمِثَالُ الْوَاجِبِ: صِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَوَّلُ حَجَّةٍ لِلْبَيْتِ لِلْقَادِرِ.
وَمِثَالُ الْحَرَامِ: شُرْبُ الْخَمْرِ، وَالْغِيبَةُ، وَالنَّمِيمَةُ.
([1]) هو: معاذ بن جبل بن عمرو الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن: صحابي جليل، كان أعلم الأمة بالحلال والحرام. وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أسلم وهو فتى، وشهد العقبة مع الأنصار السبعين. وشهد بدرًا وأُحُدًا والخندق والمشاهد كلها وبعثه رسول الله قاضيا ومرشدًا لاهل اليمن، ولما أصيب أبو عبيدة -في طاعون عمواس- استخلف معاذًا. وأقره عمر، فمات في ذلك العام. (أسد الغابة: 1/1020) .
([2]) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد- باب اسم الفرس والحمار (2856)، ومسلم في كتاب الإيمان- باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة (30)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
وَمِثَالُ الْمَسْنُونِ: السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ بِغَيْرِ حَجٍّ، وَلَا عُمْرَةٍ.
وَمِثَالُ الْمَكْرُوهِ: تَقْدِيمُ الرِّجْلِ الْيُسْرَى عِنْدَ الدُّخُولِ لِلْمَسْجِدِ.
وَمِثَالُ الْمُبَاحِ: الذَّهَابُ وَالْإِيَابُ، وَأَنْوَاعُ الْمآكِلِ الَّتِي خَيَّرَ الشَّارِعُ فِي فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا تَخْيِيرًا مُطْلَقًا.
هُنَا مَسْأَلَةٌ يَقَعُ التَّنَازُعُ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ هَلِ الْفَرْضُ هُوَ الْوَاجِبُ؟ أَمْ هُمَا مُخْتَلِفَانِ؟
فَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْفَرْضَ مُغَايِرٌ لِلْوَاجِبِ. فَإِنَّنَا نَزِيدُ حُكْمًا آخَرَ فِي الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ مُتَرَادِفَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُتَرَادِفِ الْكَلِمَتَانِ الدَّالَّتَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، قَالُوا: لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا فِي اللُّغَةِ وَاحِدٌ. وَذَهَبَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَرَأَوا أَنَّ الْفَرْضَ: مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ طَلَبًا جَازِمًا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ: مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ طَلَبًا جَازِمًا بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ.
وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَمُؤَدَّى أَقْوَالِهِمْ وَاحِدٌ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ يَجْعَلُونَ الْوَاجِبَاتِ مُخْتَلِفَةً، بَعْضُهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ.
أَقْسَامُ الْوَاجِبِ
ثُمَّ بَدَأَ الْمُؤَلِّفُ يُقَسِّمُ الْوَاجِبَ، تَقَدَّمَ مَعَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعلَهُ طَلَبًا جَازِمًا، فَيَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ إِلَى: فَرْضِ عَيْنٍ، وَفَرْضِ كِفَايَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِفَرْضِ الْعَيْنِ: مَا طُلِبَ فِعْلُهُ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ. وَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ أَنَّ مُرَادَ الشَّارِعِ إِيقَاعُ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ بِذَلِكَ الْفَرْضِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ بِهَا مُوَجَّهٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَقُلْنَا: مِمَّنْ يَصْلُحُ لَهُ. لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ لَا يَصْلُحُ لَهُ هَذَا الْخِطَابُ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَجْنُونًا، أَوْ لِكَوْنِهَا امْرَأَةً حَائِضًا، فَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ هَذَا الْوَاجِبِ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، وَيُلَاحَظُ أَنَّ فُرُوضَ الْأَعْيَانِ يُرَادُ بِهَا تَعَلُّقُ الْفِعْلِ بِالْمُكَلَّفِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فُرُوضُ الْكِفَايَاتِ، الَّتِي يَطْلُبُ الشَّارِعُ فِيهَا إِيجَادَ الْفِعْلِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى تَعَلُّقِهِ بِالْمُكَلَّفِ، فَمَتَى وُجِدَ الْفِعْلُ تَحَقَّقَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: تَعَلُّمُ عِلْمِ الْأُصُولِ: فَإِنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَقْصِدُ الشَّارِعُ إِيجَادَ مَنْ يَعْرِفُ هَذَا الْعِلْمَ، وَلَا يَقْصِدُ الشَّارِعُ وُجُودَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ، تَكْفِينُ الْمَيِّتِ، الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ، دَفْنُ الْمَيِّتِ، فَإِنَّ مُرَادَ الشَّارِعِ وُقُوعُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَمَتَى وَقَعَتْ تَحَقَّقَ مُرَادُ الشَّارِعِ، فَكَانَتْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ.
تَقْسِيمَاتٌ أُخْرَى لِلْوَاجِبِ
وَيَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ فِي تَقْسِيمٍ آخَرَ إِلَى مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ، وَالْمُعَيَّنُ: هُوَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ الَّذِي طَلَبَهُ الشَّارِعُ، وَلَا يَحِقُّ لِلْعَبْدِ تَرْكُهُ وَلَا اسْتِبْدَالُهُ بِفِعْلٍ آخَرَ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: صَوْمُ رَمَضَانَ لِلْمُقِيمِ الصَّحِيحِ؛ فَإِنَّهُ مُتَعَيِّنٌ، وَلَا يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهُ بِفِعْلٍ آخَرَ، وَهُنَاكَ وَاجِبَاتٌ مُخَيَّرَةٌ، بِحَيْثُ تَتَعَدَّدُ خِصَالُ الْوَاجِبِ، وَإِذَا فَعَلَ الْعَبْدُ الْمُكَلَّفُ وَاحِدًا مِنْهَا أَجْزَأَهُ وَسَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ بَقِيَّتِهَا، مِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ حَالَ الْإِحْرَامِ، خُيِّرَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءِ: إِطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، أَوْ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ ذَبْحِ شَاةٍ، إِذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَجْزَأَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ بَقِيَّةِ الْخِصَالِ.
كَمَا يَنْقَسِمُ الْوَاجِبُ إِلَى: مُطْلَقٍ وَمُؤَقَّتٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ: الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ، فَإِذَا نَذَرَ الْعَبْدُ نَذْرَ طَاعَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَا يَتَحَدَّدُ ذَلِكَ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، بَيْنَمَا هُنَاكَ وَاجِبَاتٌ مُؤَقَّتَةٌ: وَهِيَ الَّتِي يَجِبُ فِعْلُهَا فِي وَقْتِهَا، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، فَلَهَا أَوْقَاتٌ مُحَدَّدَةٌ.
وَالْوَاجِبُ الْمُؤَقَّتُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُضَيَّقٍ وَمُوَسَّعٍ، فَالْمُرَادُ بِالْمُضَيَّقِ: الَّذِي لَا يَكْفِي الْوَقْتَ لِفِعْلِ الْوَاجِبِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالْمُوَسَّعِ: الْوَاجِبُ الَّذِي وَقْتُهُ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ مَرَّاتٍ عَدِيدةً.
إِذَنِ الْوَاجِبُ الْمُؤَقَّتُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُضَيَّقٍ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَّسِعُ الْوَقْتُ لِفِعْلِ الْوَاجِبِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، مِثْلُ: صَوْمِ رَمَضَانَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصُومَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بَيْنَمَا هُنَاكَ وَاجِبَاتٌ مُوَسَّعَةٌ، مِثْلُ: الصَّلَاةِ، صَلَاةُ الظُّهْرِ لَهَا وَقْتٌ مُوَسَّعٌ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى صَيْرُورَةِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَبْدَ فَعَلَ الصَّلَاةَ، صَلَاةَ الظُّهْرِ، مَرَّاتٍ عَدِيدَةً فِي هَذَا الْوَقْتِ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ الْفِعْلُ مُوَسَّعًا مِنْ جِهَةٍ مُضَيَّقًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، كَمَا فِي صِيَامِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَيَّامِ مُوَسَّعٌ، يُمْكِنُ أَنْ يَصُومَ الْقَضَاءَ مِنْ شَوَّالٍ إِلَى شَعْبَانَ، لَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ التَّحْدِيدِ الْيَوْمِيِّ مُضَيَّقٌ لَابُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ.
قَالَ المُؤَلِّفُ:
«وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُسْتَحَبُّ مُتَرَادِفَانِ». أَيْ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، أَمَّا الْمَسْنُونُ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُمَا.
الْمَنْدُوبُ وَالْمُسْتَحَبُّ: هُوَ مَا طَلَبَهُ الشَّارِعُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: صِيَامُ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَصِيَامُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَنْدُوبُ وَالْمُسْتَحَبُّ مَأْخُوذًا مِنْ حَدِيثٍ نَبَوِيٍّ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ سَنَتَيْنِ»([1]). وَقَدْ يَكُونُ الْمَسْنُونُ وَالْمُسْتَحَبُّ مَأْخُوذًا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَلِذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الرَّجُلِ الْيُمْنَى عِنْدَ الدُّخُولِ إِلَى الْمَسْجِدِ. قِيَاسًا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ.
أَمَّا الْمَسْنُونُ: فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَنْدُوبِ الْوَارِدِ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، إِمَّا بِالْقَوْلِ أَوْ بِاْلِفْعِل، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: الْمَسْنُونُ خَاصٌّ بِالْفِعْلِ، بِحَيْثُ يَكُونُ قَدْ لَازَمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ هُنَا يَخْتَلِفُ مَعَ قَوْلِهِ هُنَاكَ، وَالْمَسْنُونُ: هُوَ مَا يُسْتَحَقُّ الثَّوَابُ بِفِعْلِهِ. فَكَانَ يُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ هُنَاكَ: الْمَنْدُوبُ. لِيَتَوَافَقَ مَعَ مَا هُنَا.
ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُؤَلِّفُ شَيْئًا مِنَ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ:
الصَّحِيحُ، فَالصَّحِيحُ: هُوَ الْمُثْمِرُ لِلنَّتِيجَةِ الْمَرْجُوَّةِ مِنْهُ، فَإِذَا قِيلَ: هَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ. أَيْ يَنْتُجُ عَنْهُ انْتِقَالُ الْمِلْكِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ، نِكَاحٌ صَحِيحٌ، يُرَتَّبُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْمَهْرِ، وَجَوَازُ الْوَطْءِ، وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ صَحِيحًا مَتَى كَانَ مُوَافِقًا لِأَمْرِ الشَّارِعِ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِ الشَّارِعِ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ طَلَبُ الشَّارِعِ، إِنَّمَا الْمُرَادُ أَحْكَامُ الشَّارِعِ، وَشَأْنُ الشَّارِعِ، فَإِنَّ الْبَيْعَ مُبَاحٌ، وَمَعَ ذَلِكَ يُقَالُ: صَحِيحٌ. وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ إِنْسَانًا صَلَّى الصَّلَاةَ وَهُوَ مُحْدِثٌ جَاهِلٌ لِحَدَثِهِ، فَتَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ نُطَالِبَهُ بِالْقَضَاءِ، فَهَلْ هَذِهِ الصَّلَاةُ يُقَالَ عَنْهَا صَحِيحَةٌ أَوْ لَا؟ هَذَا مَوْطِنُ خِلَافٍ بَيْن الْأُصُولِيِّينَ: فَمَنْ قَالَ: الصَّحِيحُ: مَا وَافَقَ الْأَمْرَ. كَمَا ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ هُنَا، قَالَ: هَذِهِ صَلَاةٌ وَافَقَتِ الْأَمْرَ بِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، أَوْ بِظَنِّ الْمُصَلِّي، وَيُؤْجَرُ عَلَيْهَا، وَنَعْتَبِرُهَا صَحِيحَةً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْقِطَةً لِلْقَضَاءِ. وَآخَرُونَ قَالُوا: هَذِهِ صَلَاةٌ بَاطِلَةٌ. وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهَا لَمْ تُسْقِطِ الْقَضَاءَ، وَلَوْ كَانَتْ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ الشَّارِعِ فِي ظَنِّ الْمُكَلِّفِ، وَهَذَا اخْتِلَافٌ لَفْظِيٌّ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَأَمَّا الْبَاطِلُ: فَالْمُرَادُ بِهِ مَا لَمْ يُنْتِجْ ثَمَرَتَهُ، فَكُلُّ فِعْلٍ لَا يُنْتِجُ الثَّمَرَةَ الْمَرْجُوَّةَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا؛ وَمِنْ هُنَا الْبَيْعُ الْبَاطِلُ لَا يَنْتَقِلُ فِيهِ الْمِلْكُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ وَالْفَاسِدَ سَوَاءٌ يَدُلَّانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَفُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ يُفَرِّقُونَ وَيَقُولُونَ: الْبَاطِلُ مَمْنُوعٌ بِأَصْلِهِ، وَبِوَصْفِهِ. وَيُمَثِّلُونَ لَهُ بِالرِّبَا، بَيْنَمَا الْفَاسِدُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمَشْرُوعُ بِأَصْلِهِ، لَكِنَّهُ مَمْنُوعٌ بِوَصْفِهِ، وَيُمَثِّلُونَ لَهُ بِصِيَامِ يَوْمِ الْعِيدِ، فَإِنَّ الصِّيَامَ بِأَصْلِهِ مَطْلُوبٌ مَشْرُوعٌ، لَكِنِ اتُّصِفَ بِكَوْنِهِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، قِيلَ: هَذَا مَمْنُوعٌ. وَالْمُؤَلِّفُ هُنَا وَافَقَ فُقَهَاءَ الْحَنَفِيَّةِ فِي مَذْهَبِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَعَلَّ قَوْلَ الْجُمْهُورِ أَقْوَى؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِانْفِكَاكَ بَيْنَ أَصْلِ الْفِعْلِ وَبَيْنَ وَصْفِهِ، إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ، وَلَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ انْفِكَاكٌ بَيْنَهُمَا، فَلَا يُوجَدُ الْفِعْلُ إِلَّا بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، أَصْلُ الْفِعْلِ مَعَ أَوْصَافِهِ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ يَكُونُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْخَارِجِ، لَا مُجَرَّدَ التَّصَوُّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ عَنِ الْأَفْعَالِ، لِذَلِكَ فِي الْخَارِجِ أَيُّ فِعْلٍ وَقَعَ عَلَى صِفَةٍ مَمْنُوعَةٍ فَأَصْلُ الْفِعْلِ مَمْنُوعٌ.
قَالَ المُؤَلِّفُ:
«وَالْجَائِزُ». كَلِمَةُ الْجَائِزِ كَلِمَةٌ يَسْتَعْمِلُهَا الْعُلَمَاءُ بِإِزَاءِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: أَنْ تُطْلَقَ وَيُرَادُ بِهَا الْمُبَاحُ، الْمُبَاحُ يُسَمَّى جَائِزًا، وَالْمُبَاحُ: هُوَ مَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِي فِعْلِهِ وَفِي تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ تَرَتُّبِ مَدْحٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا، وَمَثَّلْنَا لَهُ سَابِقًا بِأَكْلِ التُّفَّاحِ، وَشُرْبِ الْمَاءِ، وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْجَائِزِ وَيُرَادُ بِهِ الْمُمْكِنُ الْعَقْلِيُّ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: مُحَالٌ: مِثْلُ طَيَرَانِكَ بِدُونِ آلَةٍ، وَوَاجِبٌ: مِثْلُ صِفَاتِ الْكَمَالِ للهِ، وَبَقَاءُ رَبِّ الْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ، وَمُمْكِنٌ: يُسَمُّونَهُ جَائِزًا، مِنْ مِثْلِ حَيَاةِ ابْنِ آدَمَ، وَكَذَلِكَ يُطْلَقُ لَفْظُ الْجَائِزِ عَلَى مَا اسْتَوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ عَقْلًا، فَالْفِعْلُ الَّذِي يَسْتَوِي فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ يُقَالُ لَهُ جَائِزٌ، كَذَلِكَ يُطْلَقُ لَفْظُ الْجَائِزِ عَلَى الْمَشْكُوكِ فِيهِ، تَقُولُ: مُحَمَّدٌ أَخْبَرَ بِأَنَّ وَالِدَهُ مَوْجُودٌ. مَاذَا تَقُولُ فِي ذَلِكَ؟ تَقُولُ: جَائِزٌ؛ مُمْكِنٌ وُقُوعُهُ، وَمُمْكِنٌ عَدَمُ وُقُوعِهِ. هَذَا مَشْكُوكٌ فِيهِ.
وَمِنَ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ:
الْأَدَاءُ: وَهُوَ: مَا فُعِلَّ أَوَّلًا فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا، مِثَالُ ذَلِكَ: الْوَاجِبَاتُ، وَتَقَدَّمَ مَعَنَا أَنَّ بَعْضَهَا مُؤَقَّتٌ؛ لَهُ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ، وَبَعْضُهَا لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ، مِثَالُ ذَلِكَ:صِيَامُ رَمَضَانَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، هَذَا أَدَاءٌ، لِأَنَّهُ وَاجِبٌ مُؤَقَّتٌ، صَلَاةُ الْجَنَازَةِ: غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، وَمِنْ ثَمَّ لَا تُوصَفُ بِكَوْنِهَا أَدَاءً، إِذَنِ الْأَدَاءُ: مَا فُعِلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أَمَّا إِذَا فُعِلَ لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ: إِعَادَةٌ. مِثَالُ ذَلِكَ: صَلَّى صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَمَّا فَرَغَ وَجَدَ جَمَاعَةً يُصَلُّونَ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَصَلَّاَهاَ مَعَهُمْ ثَانِيًا، هَذِهِ الصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ قَالُوا: نُسَمِّيهَا إِعَادَةً. هَلْ تُسَمَّى أَدَاءً عَلَى كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ؟ لَا تُسَمَّى إِعَادَةً، لِأَنَّ فِعْلَهَا هُنَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، قَالَ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا، فَصِيَامُ رَمَضَانَ فِي رَمَضَانَ أَدَاءٌ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ فِي شَوَّالٍ لِلْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ نَعْتَبِرُهُ قَضَاءً.