مصادر السنة ومناهج مؤلفيها للدكتور الشريف حاتم العوني( 1) صحيح البخاري
بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء ن والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فأسأل الله ( أن يبارك لنا في العلم ، والعمل ، وأن يجعل خطواتنا إلى هذه الدروس في موازين الحسنات ، وأن يُخْلِصَ النَّوايا ، ( ويتقبل الأعمال ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .
ستكون دورتنا هذه بإذن الله تعالى بعنوان " مصادر السنة ، ومناهج مصنفيها ") ( (1) ما بين القوسين سَقْطٌ مِنْ الْمَسْموع، وأَكملنا السِّياق بما يُناسب .1) .
والمقصود بمصادر السنة : الكتب التي جَمَعَتْ سنة النبي عليه الصلاة والسلام واعْتَنَتْ بها وبعلومها على مختلَف أوجه التصنيف فيها .
يعني : السنة هناك مؤلفات كثيرة فيها وهناك وجوه من التصنيف وطرائق للتصنيف فيها مختلفة.
ولقاءاتنا هذه ستكون حول هذه المصادر التي اعتنت بسنة النبي عليه الصلاة والسلام وأَلَّفَتْ في هذه الوجوه المختلفة من وجوه التصنيف فيها .
والغرض من هذه اللقاءات هو : التعريف بهذه المصادر المتنوعة وبطريقة تأليفها وبأغراض مؤلِّفيها ليتمكن طالب العلم من الاستفادة من هذه الكتب الاستفادة الصحيحة ؛ لأن المرء إذا عرف منهج المؤلف ومقصده ، وغرضه من التأليف ، استطاع أن يستثمر ويستفيد من هذا الكتاب الاستفادة الصحيحة ، وإذا أقدم عليه لا يُقدِم عليه وكأنه أمر مجهول لا يَعرف حقيقته بل يُقدم عليه وهو يعرف لِمَا اختار هذا الكتاب دون غيره ، وماذا سيجد في هذا الكتاب ، وما الذي لا يُتَوقع أن يوجد في مثل هذا الكتاب ، فهو يُقدم عليه على علم ، وبينة وهذا أمر ضروري لطالب العلم حتى لا يضيع وقته دون فائدة ، وحتى يستطيع أن يستثمر قراءته في كتب السُّنة الاستثمار الكامل الصحيح .
ولا أُخفي سرًّا - كما يقال - إذا قلتُ بأن حُسْنَ التعامل مع مصادر السنة في الحقيقة هو نصف هذا العلم إن صح التعبير ؛ لأن الباحث الذي يحسن التعامل مع المصادر وله اطِّلاعٌ كاملٌ على هذه المصادر وعلى مناهجها هو الذي سيستطيع أن يؤلف وأن يُحضِّر وأن يتعامل مع هذه الكتب التعامل الصحيح ، وبالتالي يستطيع أن يصل إلى نتائج في هذا العلم تَفُوق غيره ممن لا يُحسن التعامل مع مثل هذه الكتب .
وقد اخترتُ أن أَبْتَدِئ في الكلام عن مصادر السنة بقِمَّة هذه المصادر وبأعلاها وهي كتب الصِّحاح ، الكتب التي اشترطت الصحة .
وهناك دورة سابقة كانت قبل أسابيع من الآن عنوانها كعنوان هذه الدورة ، لكن مضمونها مختلف تمامًا عن مضمون هذه الدورة ، وكانت في مكة زادها الله تشريفًا وتعظيمًا ، كانت حول تاريخ التصنيف أو تاريخ وجود التصنيف في السنة النبوية ، وهناك تكلمت عن مصادر السنة لا من جهة أنواع التصنيف كما أنني أفعله الآن ، وإنما عن طريقة نُشوء التصنيف ؛ ما هي أوائل المصنفات في السنة ؟ ما هي أسباب وجود هذه المصنفات ؟ ما هي الأغراض التي حَرَّفَتْها في كل فترة من الفترات ؟ وهكذا ؛ عَرْضٌ تاريخي لمصنفات السنة .
أما الذي ننوي أن نقوله في هذه اللقاءات فهو : الكلام عن مصادر السنة ووجوه تصنيفها ، وأهم المؤلفات لكل وجه من وجوه التصنيف ومنهج هذه المؤلفات .
فإذا أتينا إلى الكتب الصحاح لا شك أَنَّ قمة كتب الصحاح ما هو ؟
- " صحيح البخاري " ، أصلًا إذا قلنا مصادر السنة أول ما يبتدر بالذهن كتاب الإمام البخاري عليه رحمة الله ، فهو أول كتاب سنحاول أن نتعرف عليه وعلى منهجه بشيء مما يُعين على الاستفادة من هذا الكتاب الاستفادة الصحيحة الكاملة بإذن الله تعالى قدر المستطاع وحسب ما يسمح به الوقت .
نبتدئ كالعادة بإعطاء نُبذة سريعة عن الإمام البخاري وإن كان الإمام البخاري معروفًا عند طلبة العلم ، لكن لا بد أن نذكر هذا الإمام بشيء من الترجمة وفاءً بحقه في أقل تقدير .
فهو : أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بَرْدِزْبَة الجعفي مولاهم البخاري .
كما ترون هو : محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة ؛ أسماء عربية ، هؤلاء الأجداد كلهم مسلمون ، بردزبة : هو الذي كان على المجوسية ومات على المجوسية ؛ لأن الديانة التي كانت شائعة في بخارى قبل دخول الإسلام إليها كانت هي المجوسية .
والمغيرة جَدُّ أو أبي جَدِّ الإمام البخاري ، أسلم على يَدِ رجل يقال له اليمان الجعفي ، ولذلك يقال للإمام البخاري : الجعفي مولاه ؛ لأن الولاء يكون لأحد ثلاثة أسباب .
يُنسب الإنسان إلى القبيلة ولاءً لأحد ثلاثة الأسباب :
1- إما بالعتق : أن يكون عبدًا رقيقًا فيُعتقه سيدُه فيُنسب إلى سيده ولاءً .
2- أو بالحِلف : أن تكون قبيلة حالفت قبيلة فيُنسب إلى القبيلة التي حالفها .
3- أو بالإسلام : وهذه فيها خلاف عند أهل العلم ، لكن قالوا تُلحق بعتق الرقبة ؛ لأن الذي أسلم على يديه رجل كأنه أعتقه من النار ، ولذلك استحَق أن يكون سيدً ا له .
وُلِدَ الإمام البخاري عليه رحمة الله في بخارى ، وهي من بلاد ما وراء النهر - كما هو معروف - في دولة جاكستان الحالية ، في سنة أربع وتسعين ومائة من الهجرة ، أي : في أوائل القرن الثاني الهجري ، ووُلد أعمى أو أُصيب بالعمى بعد ولادته بشيء يسير ؛ على خلاف ، فرأتْ أمه رؤية صالحة أن إبراهيم ( خليل الرحمن عَلَّمَها دعاءً ، وأن بهذا الدعاء سيُشفى ويبرأ إذا دَعَتْ به ، فاستيقظت ودعت به فشُفِيَ ولدها الإمام البخاري ، وهذه كانت الحقيقة - كما يقال إرهاص - للإمام البخاري ولمكانته التي سيحتلها بين علماء المسلمين وأئمة المسلمين .
كرامة أعطيتها أمُّ هذا العالِم ليتحقق قضاء الله وقدره في هذا الإمام بأن ينال المكانة السامية بين علماء المسلمين التي نالها أو التي عُرف بها .
نشأ نشأة صالحة ، أبوه من العلماء من طلبة الحديث ، وقد ترجم لوالد الإمام البخاري إسماعيل الإمامُ البخاري بنفسه في كتابه " التاريخ الكبير " ترجمة تدل على أنه له عناية بالرواية ، فاعتنى بولده هذا ، ووَجَّهَهُ إلى السُّنة وإلى تَعُلُّمِها من فترة مبكرة .
وكان - ولا شك - لِنُبُوغ هذا الإمام عبقريته الفذة دور كبير في بُروزه وفي تَعَلُّمه ، فقد بلغ مرتبة من العلم في فترة مبكرة جدًّا من عمره ، بل له قصة مع أحد شيوخه وهو الدَّاخِلِيُّ وله من العمر أحد عشر عامًا .
كان هذا الشيخ يُحدِّث فروى حديثًا : عن إبراهيم عن أبي سُبَيْعٍ ..
فقال : له البخاري وهو عمره أحد عشرة سنة : هذا خطأ !! والشيخ كبير في السن ، حوله الطلاب ، وهذا غلام عمره أحد عشرة سنة ، يعني مثل بعض الأبناء الجالسين معنا الآن . أحد عشرة سنة!! والشيخ يُحَدِّث وأمامه الطلاب ، وهذا يقف أمام الناس ويقول : أخطأت .
فقال له الداخلي وزَبَرَهُ ونهره ، وبعض الجلوس كيف تقول تُخَطِّئ الشيخ ؟!
فقال : ما حَدَّث به الشيخ خطأ .
فالشيخ كأنه تردد فدخل إلى بيته لينظر في كتابه الذي نسخه بخط يده ، فخرج وهو يضحك فقال : أصاب الغلام . كيف الصواب يا غلام ؟ يعني : أقر بأنه خطأ لكن يريد هل يَعرف الصواب .
فقال له البخاري : الصواب إبراهيم عن الزبير بن علي ، ما هو : إبراهيم عن أبي سبيع ، وإنما : إبراهيم عن الزبير بن علي .
قال : ما أدراك ؛ كيف عرفتَ أن هذا هو الصواب ؟
قال : لأن إبراهيم لا يروي عن أبي سبيع ، وإنما يروي عن الزبير بن علي .
فيصل به الجزم بالصواب ومعرفة الصواب إلى درجة الجرأة بالرد على شيخ كبير في السن يُحدث الطلبة .
مثل هذه القصة تكفي لبيان مقدار العبقرية التي أُوتِيهَا الإمام البخاري في تلك الفترة المبكرة من عمره .
ثم بعد ذلك خرج للحج ووالدته - ووالده توفي وهو صغير - وأخوه ، ومر ببعض المدن الإسلامية من طريقه إلى بخارى في خراسان في العراق ، وسمع بها من عدد كبير من الشيوخ ، ثم لَمَّا أرادت أمه أن ترجع مع أخيه إلى بخارى استأذنها الإمام البخاري في المُكث في مكة لطلب العلم ، فأذنت له بذلك ، فرجعوا إلى بلدهم ومَكَثَ هو في رحلته في طلب .
وتَلَقَّى العلم على عدد كبير جدًّا من الشيوخ يزيدون على ألف شيخ ، وإن كان لم يُخْرِج في " الصحيح " قطعًا إلا على العدد يسير منهم ممن رضي عدالتهم وضبطهم ، فكما يذكر الإمام البخاري أنه سمع من أكثر من ألف شيخ كلهم يقولون بـ: أَنَّ الإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، يعني هؤلاء الأكثر من ألف شيخ كلهم من أهل السنة ، ليس فيهم أحد من أهل البدع ، فلو أضفت إليهم مَن لَقِيَهُمْ من أهل البدع لتضاعف هذا العدد .
من أبرز شيوخ الإمام البخاري :
وهم كُثُرٌ كما ذكرنا - شيخه علي بن المديني ؛ علي بن عبد الله جعفر بن نجيح المديني ، الإمام الشهير إمام العلل الذي كان يقول عنه الإمام النسائي : كأنما خُلق علي بن المديني بعلم العلل - أو بالعلل .
هذا الإمام الكبير وهو رأس علم العلل في بداية القرن الثالث الهجري تَتَلمذ عليه الإمام البخاري واستفاد من رواياته ومن فهمه وغوصه في علم العلل استفادة عظيمة ، وكان يقول الإمام البخاري كلمته الشهيرة : ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني .
يقول : ما هانت عليَّ نفسي ولا صَغُرت عليَّ نفسي عند أحد من العلماء إلا عند علي بن المديني ، أَعْرِفُ مقدار جهلي أمام علمه ، هذا مع أنه لقي الإمام أحمد ولقي يحيى بن معين ، من هم أكبر من الإمام البخاري ، وهم من شيوخه ، يقول هذه العبارة في علي بن المديني لتعرف مكانة هذا الإمام في علم الحديث ، وفي علم العلل ، إلا أن علي بن المديني لما بلغته هذه العبارة ، لما بلغته كلمة الإمام البخاري وأنه كان يقول : ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني ، قال : دعوه فإنه لم يَرَ مثل نفسه .
يعني يقول: هذه الكلمة - ما استصغرتُ نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني - يقولها البخاري تواضعًا ، وإلا فهو أعلم مني ، بل هو أعلم من جميع شيوخه . أي كل الذين رآهم من العلماء دونه في العلم ، وهو أعلم من جميع من لقيهم .
ذكرنا من شيوخه : الإمام أحمد ، وابن مَعِين ، والحُمَيْدِي ، وإسحاق بي رَاهَوَيْهِ ، ومحمد بن يحيى الذُّهْلِي ، وجماعة من أهل العلم هؤلاء من أعيانهم .
جَابَ بلدان العالم الإسلامي في الرحلة في طلب العلم ، وتميز - كما ذكرنا - بحافظة باهرة وشهيرة ، وقِصَصَه في ذلك أكثر من قصة ، وكان إمامًا في أبواب كثيرة من أبواب الخير ، وكان من العُبَّاد ، لا يكاد يترك يومًا إلا ويتهجد لله عز وجل فيه ، بل كان له في رمضان ختمتان : قراءة لنفسه يختم فيها كل ثلاثة أيام ، يعني يقرأ كل يوم عشرة أجزاء ؛ هذه لنفسه ، وإذا أَمَّ بالناس يختم كل عشرة أيام ؛ يعني يقرأ كل يوم عشرة أجزاء وأضف إليها تقريبًا ثلاثة أجزاء ، فتقريبًا ثلاثة عشر جزءًا كل يوم ؛ ثلاثة إذا أَمَّ بالناس وعشرة لنفسه .
وكان مضرَب المثل في الكرم والسَمَاحة والجود ، هو الذي كان يقول : ما ماكس رجلٌ ولا ساوم في بيته ، يعني إذا جاء يشتري يقول : هذه السلعة بكذا ، مباشرة يدفع المبلغ دون أن يساوم ، ويرى أن هذا مما يَحُطُّ بالمروءة وأنه لا ينبغي للإنسان أن يساوم ، في أمور الدنيا يتساهل .
في الجهاد كان فارسًا ، وهذا لعله لا يُعرف ، يقول عنه تلميذه ووَرَّاقه محمد بن أبي حاتم : ما أخطأ سهم محمد بن إسماعيل قط ، ولا سابقه أحدٌ إلا وسبقه أبو عبد الله ؛ على الخيل يعني ، فكان فارسًا شجاعًا يُرابط على الحدود .
وفي يوم من الأيام وهو على الرباط على الحدود نام نومًا عميقًا فَعَجِبَ تلميذه من هذه النومة لأجل أن يقوم الليل ، فقال له : يا أبا عبد الله فِعْلت اليوم لم أعهدكَ أن تفعله . فقال : إننا على الثغر وأخشى أن يُباغِتَنا العدو ، فلا بد أن أكون في قوة واستعداد وتَأَهُّب لمواجهة الأعداء . فلم ينم إلا لأجل أن يتقوى الجهاد وعلى مواجهة أعداء الله عز وجل .
له أيضًا موقف مهم جدًّا في قضية الغِيبة ، ما أعرف أني اغتبت رجلًا منذ عرفت أَنَّ الغيبة حرام ، يعني من يوم أن بلغ ، من يوم أن أصبح مكلفًا ما اغتاب أحدًا ، وله تفسير في هذا الجانب عجيب : في يوم من الأيام كان أحد شيوخه يُحدث ، والإنسان في بعض الأحيان قد يقول معلومة جيدة أو كذا فيفرح المتكلِّم أنه أفاد السامعين بهذه الفائدة ، فابتسم هذا الشيخ وهو يُحدث فرحًا وإعجابًا بالفائدة التي أفاد بها الطلاب ، يقول البخاري : فابتسمت لابتسامة الشيخ ، يعني : عرفتُ أنه فرح على الفائدة التي أفادنا إياها ، فخشي أن تكون هذه الابتسامة غيبة ، فبعد أَنْ انتهى الدرس ذهب للشيخ يَتَحَلَّلُهُ ويطلب من الشيخ أن يعفو عنه ، يقول : وقع مني كذا ؛ ابتسمتَ ، فابتسمتُ لابتسامتكَ ووقع في قلبي كذا وكذا . فقال : اذهب رحمك الله فأنت في حِلٍّ . ما في أعظم من هذا الورع ، يعني إلى هذا الحد ، مجرد ابتسامة خشي أن تُحسب عليه غيبة عند الله عز وجل ، فرأى أن يعتذر وأن يتحلل قبل أن يُقتص منه يوم القيامة .
الكلام في أبي عبد الله البخاري طويل جدًّا ، لكن طبعًا حصلت له ابتلاءات في حياته ، وهذه سُنة الله عز وجل في أهل الصلاح ، وأهل العلم ، لا بد أن يقع لهم ابتلاء ؛ إما أن يُبْتَلَوْا بالنِّعم ويمتحنهم الله عز وجل ليرى هل يشكروها حق شكرها ويقوموا بها ؟ أو يُبتلوا بالبلايا والضُّر ليرى الله عز وجل صبرهم واحتمالهم واحتسابهم ، وليُكَفِّر عنهم سيئاتهم وليرفع درجاتهم عنده سبحانه وتعالى .
ابتُلِيَ الإمام البخاري بأكثر من فتنة وأكثر من ابتلاء ، وصبر واحتسب وضرب أروع الأمثلة في الصبر والاحتساب ، وأشد هذه الابتلاءات اتهامه بالبدعة وهو الذي كان إمامًا من أئمة السنة ينصر السنة ويدافع عنها ، ولا شك أن هذا الاتهام كان باطلًا ، وقد عَرَف ذلك كثير من معاصريه ممن كان يتهمه ، وأعلنوا توبتهم واعتذارهم في حياته وبعد وفاته أعلنوا توبتهم لله عز وجل مما قالوه في حقه .
تُوفِيَّ هذا الإمام في سَنة سِتَّة وخمسين ومائتين من الهجرة .
وقد ترك مؤلفات كثيرة جدًّا في السنة وعلومها ، من أشهرها كتابه :
" الصحيح " الذي سيكون مَحَطَّ كلامنا ، وكتاب " التاريخ الكبير " ، و" التاريخ الأوسط " ، و" التاريخ الصغير " ؛ وكلها في تراجم الرواة ، ليست في علم التاريخ المعروف ، إنما هي في تراجم الرواة ، وكتاب " الضعفاء الكبير " ، وكتاب " الضعفاء الصغير " ، وكتاب " القراءة خلف الإمام " ، وكتاب " الأدب المفرد " ، و" جزء رفع اليدين في الصلاة " ، وغيرها من المؤلفات الكثيرة العديدة والتي فُقِدَ شيء كثير منها وبقي منها أهمُّها ، وأهم كتابين له في الحقيقة هما : " الصحيح " ، و" التاريخ الكبير " ، هذه أهم كتب الإمام البخاري وكلاهما موجود مطبوع بحمد الله تعالى .
أما كتابه " الصحيح " ، فنبتدئ أولًا في سبب تأليف هذا الكتاب :
يذكر الإمام البخاري أن سبب تأليفه لهذا الكتاب أنه كان في مجلس إسحاق بن رَاهُويه - إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - شيخه ، فقال إسحاق : لو أن أحدكم يجمع مختصرًا في صحيح أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ، يقترح هذا الشيخ على طلابه أن يجمعوا كتابًا مختصرًا في صحيح السنة النبوية .
يقول البخاري : فوقع هذا الكلام في نفسي ، يعني يوم اقترح علينا إسحاق بن راهويه هذا الاقتراح قَدَح في ذِهني أن أقوم بهذا الجَمْع ، وبادر بالفعل بهذا الجمع من فترة مبكرة .
ابتُلِيَ الإمام البخاري بأكثر من فتنة وأكثر من ابتلاء ، وصبر واحتسب وضرب أروع الأمثلة في الصبر والاحتساب ، وأشد هذه الابتلاءات اتهامه بالبدعة وهو الذي كان إمامًا من أئمة السنة ينصر السنة ويدافع عنها ، ولا شك أن هذا الاتهام كان باطلًا ، وقد عَرَف ذلك كثير من معاصريه ممن كان يتهمه ، وأعلنوا توبتهم واعتذارهم في حياته وبعد وفاته أعلنوا توبتهم لله عز وجل مما قالوه في حقه .
تُوفِيَّ هذا الإمام في سَنة سِتَّة وخمسين ومائتين من الهجرة .
وقد ترك مؤلفات كثيرة جدًّا في السنة وعلومها ، من أشهرها كتابه :
" الصحيح " الذي سيكون مَحَطَّ كلامنا ، وكتاب " التاريخ الكبير " ، و" التاريخ الأوسط " ، و" التاريخ الصغير " ؛ وكلها في تراجم الرواة ، ليست في علم التاريخ المعروف ، إنما هي في تراجم الرواة ، وكتاب " الضعفاء الكبير " ، وكتاب " الضعفاء الصغير " ، وكتاب " القراءة خلف الإمام " ، وكتاب " الأدب المفرد " ، و" جزء رفع اليدين في الصلاة " ، وغيرها من المؤلفات الكثيرة العديدة والتي فُقِدَ شيء كثير منها وبقي منها أهمُّها ، وأهم كتابين له في الحقيقة هما : " الصحيح " ، و" التاريخ الكبير " ، هذه أهم كتب الإمام البخاري وكلاهما موجود مطبوع بحمد الله تعالى .
أما كتابه " الصحيح " ، فنبتدئ أولًا في سبب تأليف هذا الكتاب :
يذكر الإمام البخاري أن سبب تأليفه لهذا الكتاب أنه كان في مجلس إسحاق بن رَاهُويه - إسحاق بن إبراهيم الحنظلي - شيخه ، فقال إسحاق : لو أن أحدكم يجمع مختصرًا في صحيح أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ، يقترح هذا الشيخ على طلابه أن يجمعوا كتابًا مختصرًا في صحيح السنة النبوية .
يقول البخاري : فوقع هذا الكلام في نفسي ، يعني يوم اقترح علينا إسحاق بن راهويه هذا الاقتراح قَدَح في ذِهني أن أقوم بهذا الجَمْع ، وبادر بالفعل بهذا الجمع من فترة مبكرة .
وقد حاول أحد العلماء أو الباحثين المعاصرين وهو الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عليه رحمة الله أن يُحدد بداية تأليف الإمام البخاري لكتابه الصحيح ، اعتمد في ذلك على خبر ذكره الإمام العُقَيّلي ؛ يذكر الإمام العقيلي عليه رحمة الله أن البخاري عرض كتابه " الصحيح " على ثلاثة من شيوخه وهم : الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، وأنهم وافقوه عليه وعلى صحة ما فيه إلا أربعة أحاديث فقط ، يقول العقيلي : والصواب فيها مع البخاري ، حتى هذه الأربعة أحاديث فالصواب فيها مع البخاري .
فحاول الشيخ أن يستنبط بداية التأليف من تواريخ وافيات هؤلاء العلماء ؛ لأن أقدم واحد من هؤلاء - وهو يحيى بن معين - تُوفي سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين من الهجرة ، ومعنى ذلك أنه لا بد من أن البخاري ابتدئ في تأليف الصحيح قبل سنة مائتين وثلاثة وثلاثين ، ولنفرض مثلًا ابتدئ في التأليف سنة مائتين واثنين وثلاثين ؛ هذا في أقل تقدير ، فيكون عمره حينها كم سنة ؟ وُلد سنة أربع وتسعين ومائة ، كم يكون عمره ؟ ثمانية وثلاثين سنة هذا . ماهو البداية ، هذا آخر تأليفه ؛ لأنه عَرَض الصحيح كاملًا ، يعني انتهى من تأليف الصحيح المفترض يكون قبل تَقدِيمِه سنة مائتين واثنين وثلاثين ؛ لأنه عرض الصحيح كاملًا على هؤلاء الشيوخ الثلاثة ، وأولهم وفاةً هو يحيى بن معين ؛ سنة ثلاثة وثلاثين ومائتين ، لكن نفرض أنه لعرض قبله وبعده بسنة على أقل تقدير ، سنة مائتين واثنين وثلاثين ، معنى ذلك أنه كان عمره ثمانية وثلاثين سنة يوم أن انتهى من تأليف الصحيح .
ويذكر البخاري نفسه أنه مكث في تأليف الصحيح ستة عشر عامًا ، يعني معنى ذلك سنة كم ابتدئ في تأليفه ؟ مائتين اثنين وعشرين . كم كان عمره ؟ كان عمره ستة عشر سنة يوم ابتدئ بتأليف الصحيح ، وانتهى وعمره ثمانية وثلاثين سنة ، وهذا أيضًا دليل آخر على نبوغ هذا الإمام ، وعلى مبادرته إلى التأليف من هذه الفترة المبكرة ، والتأليف فيه فن وفيه وجه من وجوه التصنيف لم يُسبق إليه ، فكما سيأتي إن شاء الله هو أول من ألف في الصحيح المجرد ، ولذلك كانت هذه الفكرة أول من اقترحها إسحاق بن راهويه وأول من بادر في تنفيذها الإمام البخاري .
ونأخذ من هذه فائدة يا إخواني لإخواننا وأبناءنا الشباب ألا يحقر الإنسان نفسه - كما نقول دائمًا - ابن ستة عشر أو خمسة عشر أو أربعة عشر ، إذا ابتدئ من هذه الفترة بتكوين نفسه وبمشروع علمي ، قد يمكث عشر سنين عشرين سنة يؤلف كتابًا ينفع الأمة طوال قرونها وبقائها ، فلا يستخف الإنسان بنفسه ، عليه أن يكون عالي الهمة ويبادر في خدمة السنة النبوية .
المقصود أن هذه هي بداية تأليف الإمام البخاري تقريبًا في هذه الفترة وفي هذا التاريخ ، في سنة تقريبًا مائتين واثنين وعشرين وكان عمره ستة عشر سنة .
انتخب الإمام البخاري صحيحه من نحو ستمائة مائة ألف حديث ، اختار أحاديث الكتاب من نحو ستمائة مائة ألف حديث كان قد سمعها من شيوخه ، طبعًا المقصود بهذا العدد لا أن المتون ستمائة ألف متن ، وإنما المقصود به الأسانيد والأحاديث ؛ سواء كانت مرفوعة ، أو موقوفة على الصحابة ، أو مقطوعة على التابعين ، يعني سواء كان منتهى الإسناد فيها إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو إلى الصحابة أو إلى التابعين فمن دونهم ، فالمقصود أنه انتخبه من ستمائة ألف رواية أو إسناد .
الابتداء في تأليف هذا الكتاب في المسجد الحرام في مكة ، ووضع تراجمه في المدينة النبوية أو العكس وضع التراجم في مكة ووضع الأحاديث في المدينة.
ويُذكر أنه ما وضع حديثًا إلا وتوضأ - وفي رواية : اغتسل - وصلى ركعتين ، قبل كل حديث من أحاديث " الجامع " وهو يقصد بذلك طلب التوفيق والإعانة من الله سبحانه وتعالى على أن يوفقه في اختيار الأحاديث الصحيحة التي ليس لها علة ولا شيء يقدح في صحتها .
اسم هذا الكتاب الكامل الصحيح :
" الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه "
هذا اسم صحيح البخاري الكامل الذي سماه به المؤلف وهو البخاري ، وهذا الاسم مهم وسنقف مع كلمة من كلماته لنشرحها ونبين من خلالها منهج الإمام البخاري ، " الجامع المسنَد الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ".
فأولًا كلمة " الْجَامِع " التي ذكرها الإمام البخاري هنا : المقصود بـ" الجامع " والمقصود بهذه العبارة أن هذا الكتاب يجمع أبواب العلم كلها ، ولا يقتصر فقط على نوع من أنواع الأحاديث أو قسم من أقسام الأحاديث ، يعني هناك طريقة في التصنيف سيأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى وهي طريقة التصنيف على السنن ، كتب السنن أكثر عنايتها بالأحاديث التي تتعلق بالأحكام الفقهية ، أما كتب الجوامع فهي تشمل كل الأحاديث ، سواء استُنْبِط منها حكم فقهي أو لم يُستنبط منها حكم فقهي .
س: هل يمكن أن يوجد حديث لا يُستنبط منه حكم فقهي أو لا يوجد؟
ج: يوجد .
س: مثل ؟
ج: أحاديث الترغيب والترهيب .
أحاديث الترغيب والترهيب ممكن يقال أنه يستنبط منها استحباب أو كراهة .
س: مثل أيش ؟
ج: أحاديث السيرة والمغازي.
مثل بعض أحاديث السيرة والمغازي لا يستنبط منها حكم . صحيح .
س: غيرها؟
ج: أشراط الساعة .
أشراط الساعة ، صفة الجنة والنار ، أهوال يوم القيامة ، هل هذه متعلقة بأحكام الحلال والحرام ؟! ما يمكن ؛ لأنها أمور صحاح متعلقة بالاعتقاد ، وجوب اعتقاد صحتها إذا ثبتت ، لكن لا يتعلق به حكم فقهي من حلٍّ أو حرمة أو ما شابه ذلك .
فهذه التي تعتني بها كتب السنن ؛ الأحاديث الخاصة بأحاديث الأحكام أو أحاديث الفقه ، أما الجوامع فتجمع كل السنة، سواء متعلقة بالأحكام أو غير متعلقة بالأحكام ، وهذا واقع صحيح البخاري ؛ ولذلك أورد فيه أحاديث علامات الساعة ، وفي كتاب التفسير أورد بعض أحاديث التفسير وأصلًا أحاديث التفسير لا علاقة لها بالأحكام ، وفي فضائل الصحابة والبلدان والقبائل ؛ هذه لا يتعلق بها أيضًا حكم في كثير من الأحيان .
المقصود : أنه أخرج ما يتعلق بجميع أبواب العلم ، استُنبط منها حكم فقهي أو لا ، ولذلك قد وصف بـ" الجامع " .
ما دمنا نتكلم عن أن هذا الكتاب شَمِل جميع أبواب العلم ، فنريد أن نتكلم عن تبويبات البخاري ومزايا هذه التبويبات :
تميَّز الإمام البخاري في تراجم أبوابه وعناوين هذه الأبواب التي وضعها للصحيح ، وحتى قِيلَت العبارة الشهيرة التي يقال فيها : فقه البخاري في تراجم أبوابه أو في تراجم صحيحه ، يعني من أراد أن يعرف فقه البخاري وآرائه الفقهية فعليه أن يقرأ تراجم الأبواب فإنه سيعرف فقه الإمام البخاري .
وتراجم الإمام البخاري تنقسم إلى قسمين كما بَيَّن ذلك الحافظ ابن حجر : منها تراجم ظاهرة المقصود ، يعني يكون علاقة الترجمة بالحديث ظاهرة وبيِّنة .
مثل : باب التداوي بأبوال الإبل وألبانها ، أورد فيه حديث العُرَانِيِّينَ ?? الَّذِينَ اجْتَوَوْا الْمَدِينَة فَأَوْصَاهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَخْرُجُوا إِلَى رَاعيه له ، وذُودٍ له مِنَ الْإِبِلِ لِيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا ?? ويتداووا بذلك مما أصابهم من الداء .
هذا التبويب علاقته بالحديث واضحة وصريحة ، لا تحتاج إلى دقة استنباط وفَهم .
لكن هناك أبواب أَتْعَبت العلماءَ في معرفة علاقة الحديث بالباب وكيف استنبط الإمام البخاري ذلك الحكم من ذلك الحديث الذي أورده تحت ذلك الباب ، ومن أمثلة ذلك باب عقده الإمام البخاري في صحيحه ، قال : باب تزويج المعسِر الذي معه القرآن والإسلام ، ثم أورد فيه حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : ?? كُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا نَسْتَخْصِي - استأذنوا النبي عليه الصلاة والسلام في الخِصاء ؛ أن يَخْصُوَا أنفسهم حتى لا يقعوا في الإثم ، يقول ابن مسعود - فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ ?? .
ما هي علاقة هذا الحديث بباب تزويج المُعْسِر الذي معه القرآن والإسلام ؟
علاقة خفية جدًّا ، يقول بعض العلماء الذين شرحوا هذا الحديث : لمَّا كان الشاب - وهذا ينفعكم الآن ، خاصة الذي لم يتزوج منكم - لا يستغني عن الزواج ولا بد له من الزواج وهو مأمور بأن لا يقع في الإثم وأن يرتكب الفاحشة ، يعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن نَهْيَهُ عن الخصاء في مثل هذه الحالة سيحقق له مشقة عظيمة ، فقير كما تأتي رواية أخرى لابن مسعود : ?? وَلَيْسَ لَنَا شَيْءٌ ?? . يعني ليس عندنا مال حتى نتزوج ، فليس عنده مال حتى يتزوج وهو في حاجة إلى الزواج ومنهي عن الخصاء ولا يمكن أن يرتكب الفاحشة المنهي عنها ؛ هذه مشقة عظيمة ، إذًا ما هو الحل ؟ لا حَلَّ إلا أن يُزَوَّج بما معه من القرآن والإسلام ؛ لأنه لا يخلو مسلم أن يكون معه شيء من القرآن ، فدل ذلك على أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهاهم عن الاختصاء كأنه يقول للناس : فزَوُّجوهم وإن كانوا فقراء بما معهم من الإسلام والقرآن .
شوف الاستنباط . بعيد ودقيق جدًّا !! وللإمام البخاري من هذه الأمثلة شيء كثير ، ولذلك اعتنى العلماء بتأليف مؤلفات خاصة في بيان علاقة الحديث بالباب ، وقد طُبع من هذه المصنفات عدة كتب ، من أشهرها ، ومن أولاها بالذكر ثلاثة كتب يأتي ذكرها إن شاء الله عندما نتكلم عن أهم الكتب التي تكلمت عن كتاب البخاري .
قلنا أن تراجم البخاري إما أن تكون ظاهرة وإما أن تكون خفية ، والخفية ضربنا لها مثالًا ، لكن ما هو سبب هذا الخفاء في تراجم البخاري ، يعني هل الإلغاز وذكر التراجم على هذا الوجه من الغموض مَطْلَب ؟
لا شك أنه ليس مطلبًا ، والوضوح حسن ومطلوب ، لكن سبب هذا الغموض هو أن البخاري قد لا يجد حديثًا صحيحًا على شرطه ينص على هذا الحكم ، فيضطر أن يستنبط هذا الحكم من حديث على شرطه ولو كان هذا الاستنباط فيه شيء من الخفاء ، ولكون الكتاب يريده مختصرًا لم يزد في الشرح والإيضاح ؛ يضع التبويب ويضع تحته الحديث ، ولا شك أن أمثال الإمام البخاري من الأذكياء والعباقرة - وما أقلهم ! - ربما ظن الأمر في غاية الوضوح لشدة ذكائه وهو عند غيره في غاية الغموض ، ولذلك عُرف الإمام البخاري بكثرة إِلْغَازِه في جميع مصنفاته ، حتى في كتابه " التاريخ الكبير " ، يعني منهج الإلغاز والأسرار والغموض والفوائد المختفية في أثناء الكتاب هذه منتشرة في كل كتب الإمام البخاري ، وهذا مرده - والله أعلم - إلى شدة ذكائه ؛ يظن أن الكلام واضحًا وهو قد يكون كذلك عند غيره من الناس بل من العلماء ، حتى أنهم تَعِبوا كثيرًا في بعض الأبواب .
لكن في الحقيقة هناك بعض الأبواب أعيت العلماء أن يجدوا لها جوابًا ، ما عرفوا علاقة الباب بالحديث أبدًا ، فوجهوا هذا الأمر بتوجيه معين ، فإما أن يكون هذا عجز من العالم ألا يجد وجه الترابط بين الباب والحديث ؛ هذا وجه وارد ، وهناك سبب آخر بينه أحد رواة " صحيح البخاري " ، وهو أنه ذكر أنهم لما نسخوا " صحيح البخاري " من نسخة تلميذ البخاري الْفَرَبْرِي وجدوا أبوابًا وليس تحتها أحاديث ، يعني أن البخاري كان يضيف ويحدث في كتابه على مدى عمره ، ربما وضع ترجمة باب أو عنوان باب وترك تحته بياض على أساس أنه يريد أن يبحث على حديث على شرطه ويضعه تحت هذا الباب ، فمات ولم يُتم هذا العمل ، وهناك أحاديث وضعها ولم يضع لها أبوابًا على أساس أنه سيعود إليها مرة أخرى ويضع لها عنوانًا ، فتُوفي ولم يضع بعض هذه العناوين ، وهي قليلة في الكتاب لكن هذا وقع ، فجاء بعض النُّسَّاخ فصار يُدخل بعض هذه الأحاديث التي ليس لها أبواب ضمن الأبواب التي ليس تحتها أحاديث ، وصارت بهذه الطريقة بعض هذه الأحاديث لا علاقة لها بالتبويب .
فيقول الحافظ ابن حجر : لكن هذا لا نلجأ إليه - هذا التوجيه أول شيء أنه قليل في الصحيح - ولا نلجأ إليه إلا إذا تعذر علينا أن نجد وجه الترابط بين الباب والحديث ، عندها نقول : لعل هذه الأحاديث من ضمن تلك الأحاديث التي وُضعت في غير محلها من النُّسَّاخ الذين نسخوا " صحيح البخاري " ورَوَوْهُ عن تلميذه الفربري .
من منهج البخاري في الصحيح أنه قد يُترجم بتراجم محتَمَلة ، بمعنى أنه لا يجزم فيها بالحكم ، كالتراجم التي تبتدئ بالاستفهام : باب هل يفعل المسلم كذا ؟ هل يفعل المصلي كذا ؟
لا يجزم فيها بحكم ، ما هو سبب عدم الجزم ؟
يذكر العلماء أن أسباب عدم الجزم للإمام البخاري :
الاحتمال الأول : أن يكون وجه الدلالة محتمل ، وأن لا يكون وجه الدلالة صريح بالحكم فورعًا منه لا يجزم بالحكم ؛ مجرد يشير ، من منطلق هذا الدليل مُحْتَمَل أن يُستنبط منه هذا الحكم ، ويترك الحكم أو الجزم للدارس ، الباحث ، العالم الذي سيستفيد من هذا التبويب ويستفيد من هذا الحديث لاستنباط الحكم .
والاحتمال الثاني : أن يكون هذا الحديث قد اختُلف في رفعه ، ووقفه ، كيف اختُلف في رفعه ووقفه؟
ولكننا نرى بعض صغار السنن فلابد من توضيح بعض الأمور الجلية .
المرفوع : هو الحديث الذي نُسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام .
الموقوف : هو الحديث الذي نُسب إلى الصحابة رضوان الله عليهم .
فإذا اختلف في الحديث في رفعه ووقفه ؛ هل هو من كلام النبي عليه الصلاة والسلام أومن كلام الصحابي ، عندها أيضًا الإمام البخاري يقوم بوضع ترجمة محتَمِلة غير قاطعة بالحكم لورود الخلاف في الحديث ، وإن كان البخاري قد يرجح الرفع ، لكن لوجود الخلاف لا يجزم أيضًا من باب الإشارة إلى وجود خلاف ومن باب الورع أيضًا في عدم الجزم بحكم قد يكون فيه خلاف .
مما يتعلق أيضًا بتراجم البخاري أَنَّ البخاري قد يترجم بما ورد في بعض طرق الحديث ، يعني قد يأتي بلفظ للحديث لكن الترجمة لا تنطبق على اللفظ الذي ذكره ، لكنها تنطبق على لفظ آخر للحديث ، فهو عندما يترجم هذه الترجمة يُومِئ بأن للحديث لفظ آخر يجب أن تنتبه إليه ، وهذه الطريقة يتبعها الإمام البخاري .
لِمَ لَمْ يَذكر اللفظ الآخر ؟
إما من باب شَحْذ الذهن ، حتى يتعود القارئ الذكاء والفهم والاستنباط ، أو لأن هذا اللفظ ليس على شرطه ولذلك ذكره وأومئ إليه دون أن يورد الحديث الذي يوافق هذا اللفظ ؛ وهذه أيضًا من مَلاحِظ البخاري الدقيقة في تراجمه .
وكثيرًا أيضًا ما يترجم الإمام البخاري في ألفاظ الآثار للصحابة والتابعين ، يكون في قول عمر ، قول أبي بكر ، قول زيد بن ثابت ، قول علي بن طالب ؛ يحذف هؤلاء الصحابة ويضع كلامه كأنه عنوان في بداية الباب ثم يُورد تحت ذلك الباب الحديث الذي يدل على مقتضى تلك الترجمة .
المقصود أن تراجم البخاري بث فيها علمًا كثيرًا وفقهًا جزيلًا ، ودل فيها أنه إمام من أئمة الفقه المجتهدين اجتهادًا مطلقًا ، وأنه - بحَقٍّ - ممن جَمَعَ بين علميّ الفقه والحديث على أتم وجه ؛ عليه رحمة الله .
الكلام حول التراجم - حقيقةًً - طويل ، لكن لا نريد أن نطيل في الكلام عنها وخاصة أن الوقت قد أدركنا ، لكن نريد أن نذكر بعض الكتب التي قلنا أنها اعتنت بالتراجم في آخر كلامنا عن التراجم ؛ منها :
1- كتاب " المُتَوَارِي " على تراجم أبواب البخاري لناصر الدين بن المُنَيِّر الإسكندراني .
وهو مؤلف ، أو له تأليف لابن المنير الإسكندراني كتاب شهير يتعلق بكتاب كبير في التفسير ، تعرفون كتاب " الكشاف " للزمخشري ؟ لابن المُنَيِّر تعقبات عليه يتعقب فيها آرائه الاعتزالية ، ابن المنير أشعري فيتعقبه في آرائه التي يخالف فيها الأشاعرةُ المعتزلةَ .
2- كتاب " مناسبات تراجم البخاري " لبدر الدين بن جماعة .
وقد استفاد من الكتاب السابق تقريبًا وزاد عليه ، بعني : اختصر الكتاب السابق - تقريبًا- وزاد عليه بعض الزيادات .
3- من الكتب المتأخرة " شرح تراجم أبواب البخاري لأحد علماء الهند المتأخرين " للشاه أحمد بن عبد الرحيم الدِّهْلَوِي الهندي ، المتوفى سنة : ألف مائة وسبعة عشر من الهجرة ، وهو كتاب مطبوع وفيه إضافات متعددة على الكتب السابقة .
يبتدئ الإمام البخاري كما هو معروف بكتاب " بَدْء الوحي " ؛ أول كتاب في " صحيح البخاري " هو كتاب : " بَدْء الوحي " ، وأول حديث فيه حديث : ?? إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ?? ، وآخر كتاب في " صحيح البخاري " : " كتاب التوحيد " ، وآخر حديث فيه حديث : ??كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ ?? .
ويقول بعض أهل العلم إن بداية الإمام البخاري بـ" بَدْء الوحي " لبيان أن كتابه سيشمل جَمْع هذا الوحي وهو سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وابتدئ بحديث : ?? إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ?? ليستحضر هو وقارئ الكتاب إخلاص النية من أول تَعَلُّمه للسنة النبوية ، وخَتَم بـ" كتاب التوحيد " ؛ لأنه هو المرجِع والأساس الذي ينبني عليه قَبول العمل والثواب عليه في الآخرة ؛ قَبول العمل في الدنيا وهو أن يكون صوابًا لا بد من التوحيد ، وأن يُؤْجَر عليه الإنسان في الآخرة ، إذا لم يكن الإنسان من أهل التوحيد لا شك أن أعماله ستكون كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، وختم بحديث : ?? كَلِمَتَانِ...?? تذكيرًا بآخر ما يحصل في يوم القيامة وهو وَزْن الأعمال ، وأن سيكون آخر ما يبين مصير الإنسان من السعادة أو الشقاء هو هذا الميزان الذي تُوزَن فيه الأعمال .
على كل حال هذه بعض الأقوال الفقهية في توجيه بداية الإمام البخاري بحديث : ?? إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ?? ، وفي ختمه بحديث : ??كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ...?? .
الكلمة الثانية في عنوان " الصحيح " : " المسند " .
؛ قلنا " الجامع المُسْنَد ".
وقبل أن نستمر ، نحن نريد أن نأخذ عنوان البخاري ونشرح الكتاب بناءً على هذا العنوان ، لِمَا نفعل هذا ؟
لعدة أسباب :
السبب الأول : أن الإمام البخاري لم يذكر مقدمة يبين فيها منهجه في " الصحيح " ، لو كتب مقدمة لأراحنا ؛ يقول فيها شرطي كذا منهجي كذا ، مجرد أن نقرأ هذه المقدمة نشرحها في أكثر ما نحتاج ، لكن الإشكال أن الإمام البخاري لم يكتب مقدمة لصحيحه ، فلا يوجد لنا شيء ممكن نعرف من خلاله منهج البخاري إلا كتابه " الصحيح " نفسه مع عنوانه ، والعنوان بالفعل من خلاله ممكن نعرف أهم عناصر منهج الإمام البخاري ، فذكرنا " الجامع " ومعنى " الجامع " ، ومنه تفرقنا إلى تصنيف البخاري أو تبويبات البخاري ، الآن نقف عند كلمة " المسند " .
ما هو " المسند " عند المحدثين حتى نعرف أو نستطيع أن نعرف شرط البخاري في هذا الكتاب ؟
يصف كتابه بأنه مسند ، والمسند اختُلف في تعريفه لكن من أشهر التعاريف له أنه : المرفوع المتصل . والتعريف الذي عرفه به الحافظ ابن حجر هو : " مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال " .
على كل حال كلا التعريفين ينفع في بيان منهج الإمام البخاري في هذا الكتاب .
إذًا أول شرط للإمام البخاري نستفيده من كلمة " مسند " في هذا الكتاب شرط الاتصال : أن يكون الحديث متصلًا ، وهذا الشرط هو الذي يجعلنا نعتبر كتاب الإمام البخاري هو أول كتاب أُلِّفَ في الصحيح المجرد .
لأن هناك من العلماء من سبق البخاري وجَمَع الأحاديث المقبولة ، لكنه أدخل بينها أحاديث غير متصلة ، ونقصد بالذات الإمام : مالك بن أنس في كتابه " الموطأ " الذي كان يقول فيه الإمام الشافعي : " لا أعرف كتابًا على أديم الأرض أصح من كتاب مالك بن أنس " ، أو عبارة نحوها . طبعًا الشافعي قال هذا الكلام قبل أن يؤلف البخاري كتابه ؛ لأن الشافعي توفي سنة مائتين وأربع من الهجرة ، يعني كان عمر البخاري عشر سنوات ، يعني ما ابتدئ أصلًا بتأليفه " الصحيح " .
لكن بعض العلماء انتقضوا كابن الصلاح لما ذكر أن كتاب البخاري هو أول كتاب في الصحيح المجرد ، قالوا : قد سبقه مالك .
فأجاب بعض أهل العلم قالوا : لكن " مالك " فيه مراسيل وفيه بلاغات .
فأجاب - يعني الذين يدافعون : على أن كتاب مالك هو أول كتاب في الصحيح المجرد - قالوا : والبخاري فيه معلقات ، وهي غير متصلة . فما هو الجواب ؟
الجواب هو كلمة : " المسند " ، لما قال " المسند " بَيَّنَ أنه إنما يشترط الصحة في الأحاديث المتصلة ، أما ما في سواها فإنه أوردها عَرَضًا ، يعني ناحية يتفرع بها ، فوائد يتفرع بها ، ليست أصلًا في شرط الكتاب ، شرط الكتاب الأصلي هي الأحاديث المسندة المتصلة ، ولذلك صح أن نقول بأن كتاب البخاري هو أول كتاب في الصحيح المجرد ، أما مالك فأخرج تلك المراسيل يَحْتج بها .بخلاف الإمام البخاري ويراها مقبولة ، وكذلك البلاغات يحتج بها ويبني عليها مذهبه ، أما البخاري فلا يحتج إلا بالمسند ولا يصحح إلا المسند ، ولذلك صح أن نعتبر أن كتاب البخاري أول كتاب في الصحيح المجرد .
كذلك كلمة " المسند " من وجه آخر كما ذكرنا المرفوع تُخْرِج الآثار - آثار الصحابة والتابعين - لما قلنا أن المسند شرطه أن يكون مرفوعًا متصلًا ، إذًا الآثار التي يوردها الإمام البخاري لا يوردها أصالةً وإنما يوردها عرضًا لفائدة جانبية ، ولذلك أكثر هذه الآثار التي يوردها غير متصلة ، معلقة ، فيقول : قال عمر ، قال أبو بكر ، قال فلان ، قال فلان . إلا آثار قليلة جدًّا أوردها أصالةً .
وهذه الآثار التي أوردها أصالة تنقسم إلى قسمين :
قسم منها مما له حكم الرفع ؛ هو موقوف لكن له حكم الرفع .
من أوضح هذه الآثار أو من أمثلتها الصريحة والواضحة حديث عائشة في " صحيح البخاري " تقول رضي الله عنها : ?? فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ حين فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ رَكْعَةٌ?? هل يمكن أن تقول عائشة هذا الكلام بالاجتهاد؟! هل يمكن أن يكون هذا الكلام بالاستنباط؟!
ولا هذا لا بد أن يكون تلقته عن النبي عليه الصلاة والسلام ، تقول : ?? فَرَضَ اللهُ الصَّلَاةَ ?? . وهناك أمثلة كثيرة أخرى في صحيح البخاري تدل على أنه إذا كان الكلام لا يمكن أن يكون باجتهاد واستنباط ولا بد أن يكون مأخوذًا عن النبي عليه الصلاة والسلام وليس مما يؤخذ من الإسرائيليات ، فعند ذلك يكون له حكم الرفع كما هو معروف في هذه المسألة : أن الأثر الموقوف يكون له حكم الرفع إذا لم يكن للاجتهاد فيه مَدْخَل ، وإذا لم يكن مما يُحتمل أن يؤخذ عن الإسرائيليات أو يغلب على الظن ليس مأخوذًا عن الإسرائيليات ، وهذا يتحقق في هذا الأثر وفي غيره من الآثار التي أخرجها البخاري .
إذًا هي وإن كانت موقوفة لكن لها حكم المرفوع ، ولذلك أدخلها ضمن الكتاب الذي أسماه بـ" المسند " والذي يشبه أن يكون مرفوعًا .
هناك آثار قليلة في الحقيقة لم يظهر للعلماء أو للباحثين وجه الحكم بالرفع فيها ، وأوردها الإمام البخاري مسنده متصلة ، ولا أَجِدُ في الحقيقة حتى الآن جوابًا عليها ؛ كيف أوردها أصالة وهو اشترط أن يكون الكتاب مسندًا .
يعني مِن بين ذلك : أنه مثلًا أنه بَوَّبَ على تقبيل الميت وأورد فيه حديث أبي بكر أنه ?? دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ مُسَجَّى فَكَشَفَ عَنْ ثَوْبِهِ وَقَبَّلَهُ ?? . هذا أثر عن أبي بكر وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام لا يقال إقرار من النبي عليه الصلاة والسلام ؛ أثر لأبي بكر رضي الله عنه ، فما هو وجه إسناده وروايته له ؟!
ولذلك الضياء المقدسي أورد بعض الآثار الموقوفة - الضياء المقدسي صاحب كتاب " المختار " واشترط فيه أن يورد الأحاديث المسندة مثل البخاري ، الصحيحة التي لم يُخرجها البخاري ومسلم سيأتي الكلام عليها إن شاء الله - أورد بعض الآثار الموقوفة ثم قال بعد أحد الآثار في كتابه يقول : هذا حديث حسن عن أبي بكر إلا أنه ليس فيه شيء من قول النبي ( وقد روى البخاري في كتابه غير شيء من كلام الصحابة .
كأنه يقول : لا أحد ينتقدني بإخراج هذا الأثر ، فقد سبقني البخاري فأخرج آثارًا للصحابة ، وهذه الآثار كما ذكرت ليست من باب ما له حكم الرفع ، بل هي موقوفات لا يقال أن لها حكم الرفع ، فما هو وجه إخراج البخاري لها ؟! هذه تنفع أن تكون مشروعًا علميًّا يقوم به أي واحد منكم أو غيركم ؛ يَجْمَع هذه الآثار الموقوفة التي أسندها البخاري ويبين وجه إخراج البخاري لهذه الآثار الموقوفة ، لما أخرجها في كتابه ؟! مجال من مجالات دراسة صحيح الإمام البخاري .
سنقف على الاتصال مرة أخرى عند شرط الصحة وسنتكلم عليه إن شاء الله .
الكلمة الثالثة في العنوان : " الصحيح " .
طبعًا هي لُبُّ العنوان وهي أكبر ما يُمَيّز هذا الكتاب ؛ اشتراط الصحة ، وبذلك يعلن البخاري شرطه من عنوان كتابه ، فشرط الصحة لم يكن باستنباط من العلماء ، يعني ما عرفوا أنه اشترط الصحة من خلال دراسة الكتاب وإنما من عنوان الكتاب ومن تصريح المؤلف أنه سيخرج الحديث الصحيح .
وتعريف الحديث الصحيح ؟ أي تعريف من التعاريف التي ذكرها أهل العلم ؟ من يذكر تعريف الحافظ ابن حجر ؟
هو قال : خَبَر أَحَادٍ . مُتَّصِل السَّنَدِ . بِنَقْلِ عَدْلٍ . تَام الضَّبْطِ . غَيْر مُعَلَّلٍ ولا شَاذ ؛ هذا تعريف الحافظ ابن حجر للحديث الصحيح .
إذًا هناك خمسة شروط للحديث الصحيح :
الأول : اتصال السند .
الثاني : عدالة الرواة .
الثالث : تمام الضبط . كما يقول الحافظ ابن حجر .
الرابع : السلامة من الشذوذ ، أو عدم الشذوذ .
الخامس : عدم العلة ، أو السلامة من العلة .
هذه الخمسة شروط ، إذًا ما دام البخاري اشترط الصحة لا بد أن تجتمع الشروط الخمسة بأحاديث كتابه التي يسندها ، التي يرويها مسندة متصلة .
هذا العنوان واضح منه أن الإمام البخاري سيشترط هذه الشروط في كل كتابه . وبذلك نقف عند شرطه في الرواة أولًا : العدالة والضبط .
ما دام أن شرط الصحيح ألا يُخرج إلا للعدل الضابط ، فهل يمكن أن يُخرج البخاري لراوٍ مشهور مثلًا في كتابه هو يجهله لا يعرفه ؟
س : من هو الراوي المجهول ؟
ج : هو مَنْ لم يَثْبُت فيه لا جَرْحًا ولا تعديلًا .
لأنه لو عرفناه بالجرح صار ضعيفًا على مراتب الضعف ، ولو عرفناه بالعدالة صار عدلًا على مراتب العدالة أيضًا إذا انضَمَّ إليه الضبط.
إذًا شرط " الصحيح " ألا يُخرج لا لمجروح ولا لمجهول ؛ ولذلك يقول الحافظ ابن حجر : إنه لا يصح أبدًا أن نحكم على راوٍ في " الصحيح " بأنه مجهولٌ خاصةً . لماذا ؟ لأن مجرد إخراج البخاري له يعني أن البخاري قد عرفه بالعدالة وارتضاه ، فلو جاء أي عالم من العلماء وقال : فلان مجهول ، وقد أخرجه البخاري - نُقَدِّم كلام مَنْ ؟
- البخاري . لماذا ؟ لأنه البخاري أم لأمر آخر ؟
الذي يقول : أنا اعرفه وهو ثقة ؛ هذا عنده زيادة علم ، أما الآخر يقول : أنا لا أعرفه . هل نجعل الذي يقول : لا أعرفه حُجة أم الذي يقول : أنا أعرفه ، من هو الحجة ؟
هذا يتكلم من عدم علمه ، معذور ، يقول : أنا لا أعرف فلانًا ، والآخر يقول : أنا أعرفه وقد عرفته بالعدالة والضبط ، ولذلك نقدم كلام من كان عنده زيادة علم على من ليس عنده هذه الزيادة ، ولا شك ، ولا أجعل كلام الأقل علمًا حجة على من عنده علم ؛ هذا نفس وأكمل المنهج الصحيح في التعامل مع مثل هذه القضايا ، ولذلك لا يمكن أبدًا أن أقبل - وهذا نص عليه الحافظ ابن حجر - من أحد أن يقول عن راوٍ في صحيح البخاري : إنه مجهول ؛ لأن مجرد إخراج البخاري له يقتضي أنه قد عَرَفَه بالعدالة والضبط ، ولذلك يقول الحافظ : من ادعى أن راوٍ في " الصحيح " مجهول يكون هذا نازَع البخاري علمَه . كأنه يقول للبخاري : أنت لا تعرف فلانًا ، البخاري يقول : أعرفه ، وهذا يقول : لا أنتَ لا تعرفه ومجهول ، وهذا لا يصح ولا يُقبل منه.
فالمقصود أن الحكم بالجهالة على راوٍ وهو في " الصحيح " هذا لا يمكن أبدًا ، لذلك لو وقفت على راوٍ من شيوخ البخاري أو ممن فوقهم حُكم عليه بالجهالة أو ما وجدتَ فيه جرح ولا تعديل ، مجرد إخراج البخاري له يقتضي أنه معروف عند البخاري وأنه في درجة القبول ؛ وهذه فائدة مهمة نستفيدها في كل كتب الصحاح ، وسيأتي الكلام عن بقية الكتب إن شاء الله.
س : هل هناك راوٍ روى له البخاري ، وقال عنه أهل العلم مجهول ( (1) هذا سؤال من أحد الطلبة ، وهو غير مسموع ، فَقَدَّرناه ، ووضعناه في مكانه .1)؟
ج: وُجد هذا قديمًا وحديثًا ؛ من رد بعض الأحاديث لأنه فيها فلانًا مجهول ، أو نجد راوٍ في البخاري وقال عنه أبو حاتم مثلًا : مجهول ، وهو في البخاري ؛ فهل نقدم كلام أبي حاتم أم ما يقتضيه فعل البخاري ؟
نقدم ما يقتضيه فعل البخاري ؛ لأنه كما قلنا : الحكم بالجهالة ليس معارضًا للذي حكم عليه بالعدالة والضبط .
كما أن الحكم بالجهالة لا يعارض قول من ضعفه ، لو وجدنا عالم يقول : فلان مجهول ، والآخر يقول : ضعيف ، نقدم كلام من قال : ضعيف ؛ لأن الذي يقول مجهول يقول : أنا لا أعرفه لا بعدالة ولا ضبط ، والذي يقول ضعيف يقول : أنا عرفته بالضعف ، فنقدم من كان عنده زيادة علم .
كذلك من حَكَمَ عليه بالتوثيق ؛ نقدِّم كلامه ، متى يصير المسألة فيها إشكال ؟ إذا تعارض الجرح أو التعديل ، واحد يقول ضعيف والثاني يقول ثقة ، هنا تأتي مسألة تعارض الجرح والتعديل ولها خطوات معينة ، وقد تُدرس إن شاء الله في الدورة في علم الجرح والتعديل ، ما هي طريقة التعامل مع الراوي الذي اختلفت فيه أقوال أهل العلم جرحًا وتعديلًا .
سؤال يقول : هل شرط الإمام البخاري في الحديث الصحيح هو التعريف الذي ذكر آنفًا ؟
نقول على وجه الإجمال : نعم ، لا بد من شرط العدالة ، لا بد من شرط الضبط ، لا بد من شرطا الاتصال ، لا بد من عدم الشذوذ ومن عدم العلة . وسنقف مع كل شرط من هذه الشروط ونتكلم عن موقف البخاري منها بإذن الله تعالى ، لكن فقط الشيء الذي يجعلني أقول في كل تفاصيله قضية تمام الضبط ؛ تمام الضبط هذه ليست شرطًا لا للبخاري ولا لغيره ، فكم من راوٍ وُصف بخفة الضبط أخرج له البخاري ولربما فيما يسمى بالأصول ، يعني هو حسب اصطلاحنا نحن يكون في الحسن ، وسيأتي الكلام عن هذا إن شاء الله على كل حال وذِكر كلام أهل العلم حول هذه المسألة.
المقصود : أن البخاري اشترط القبول ، سواء كان حسنًا أو صحيحًا ، ولا شك أنه اشترط أعلى القبول ولذلك أعلى شرطه هو أن يكون هذا الحديث في قمة الأحاديث المقبولة ، ولذلك أكثر وغالب أحاديث " الصحيح " هي من رواية تَامِّي الضبط ، يقل فيها جدًّا أن تجد رواية خفيف الضبط في أصول الأبواب ، لكن يوجد ؟ نعم يوجد ، قليل ؛ لأنه الإمام البخاري شرطه أن يُخرج الأحاديث المقبولة الصالحة للاحتجاج ، فإن وجدها في أعلى المراتب كانت هذه أعلى شرط ، إن لم يجد في الباب إلا هذا الحديث الذي هو مقبول - ولو في المرتبة الدنيا من القبول - أخرجه في كتابه ، وخاصة إذا تذكرنا ما قررناه في السنة الماضية : أن أول من اصطلح - وهذه المرحلة هي القسم الأوسط - هو الإمام الترمذي ، فكل من سبقه ما كانوا يستخدمون الحسن بالمعنى الاصطلاحي ولا كان عندهم الحديث المقبول ينقسم إلى صحيح وحسن ، فليس هناك داعٍ عنده إلى أنه ما يُخرج إلا فقط ما يسميه برواية تام الضبط ، لأنه ما عنده مسمى لخفيف الضبط ، كل عنده في فقه حديث الصحيح ، وإن كان البخاري كما قلنا يحرص أن يُخرج أصح الصحيح ، فاتفق مع ذلك أن يكون أصح الصحيح من رواية تام الضبط غالبًا ، تام الضبط سيكون أتقن لروايته من خفيف الضبط ، ولذلك وافق أن تكون أغلب أحاديث صحيح البخاري هي من رواية من كان عدلًا تام الضبط .
من القضايا المهمة المتعلِّقة بشرط البخاري في الرواة - وقد يُعترض على البخاري بها - روايته عن أهل البدع ؛ لآن من المعروف أن البدعة تعارض شرط العدالة ، وأن البدعة ربما قدحت في عدالة الراوي ؛ أقول : ربما ؛ لأن البدعة قد لا تقدح في عدالة الراوي على الصحيح ، فيما لو كان الراوي مُتَأَوِّلًا ، إذا كان الراوي مُتَأَوِّلًا فإن البدعة ؛ مع تحذيرنا منها ، مع تحذيرنا من صاحبها ، مع بيان خطرها ، إلا أننا لا نتهم هذا الراوي بالفسق ، وبعدم العدالة إلا إذا عرفنا أنه غير مُتَأوِّل ، إذا قامت عندنا قرائن تدل - أو أَيْقَنَّا أو غلب على ظننا - أنه غير متأول ، أي أنه يرتكب هذه البدعة وهو على عِلم بمخالفتها لنصوص الكتاب والسنة ؛ هذا الذي يُفَسَّق ، ولذلك تساهل العلماء ومنهم الإمام البخاري في الرواية عن بعض أهل البدع ، لأن الراجح أن أهل البدع لا يُطلق القول برد روايتهم ولا بقبول روايتهم ، وإنما هناك تفصيل في قبول روايتهم .
وهذا التفصيل ينبني على شروط ثلاث أساسية وهي:
الشرط الأول : أن لا يكون الراوي مُكَفَّرًا في بدعته .
الشرط الثاني : وأن لا يكون معاندًا ، يعني أن يكون متأولًا فلا يكون معاندًا .
الشرط الثالث : ألا يروي حديثًا منكرًا يؤيِّد البدعة ، ما هو أي حديث منكر وإنما حديث منكر يؤيد البدعة ، وهذه لها مجال آخر وسبق أن تكلمنا عليها في دروسنا .
وقد طَبَّق هذه الشروط الإمام البخاري ، وبهذه الشروط لا تجد أي تناقض بين تصرف البخاري وبين هذه الشروط ؛ لأنه بعضهم مثلًا قال بأن شرط البخاري ألا يُخرج للدعاة . وجدنا أن البخاري قد أخرج لبعض دعاة البدع ؛ داعية من دعاة البدع وأخرج له البخاري . ومن قال مثلًا أنه ترك الرواية عن المبتدعة فهذا قول باطل ، ولا شك أنه أخرج عن عدد من المبتدعة ليس بالقليل .
فمثلًا عندي هنا بعض الأمثلة :
أولًا : الذين وُصفوا بالبدعة وأخرج لهم البخاري حسب ما في " كتاب الميزان " بلغوا تسعة وستين راوٍ في صحيح البخاري ؛ منهم من كان داعية من الدعاة إلى البدعة : سالم بن عجلان ، وكان داعية إلى الإرجاء ، ومثله تمامًا : شبابة بن سوَّار ، كان داعية إلى الإرجاء ، وعبد الله بن أبي نجيح كان من رءوس الدعاء إلى القدر كما يقول يحيى بن سعيد القطان ، يقول : كان من رءوس الدعاة إلى القدر ، بل وُصف أيضًا بالاعتزال ، وأحمد بن بشير الكوفي يقول عنه ابن نُمير : حسن المعرفة بأيام الناس ، حسن الفهم ، كان رأسًا في الشعوبية يخاصم في ذاك ، يعني : داعية ويدعوا وبجَلَد وبقوة ويخاصم الناس ويُعادي ويوالي بناءً على هذه البدعة ، والشعوبية ما هي ؟ من يعرف هذه البدعة ؟
التي هي ضد القومية العربية وهي نفي أن يكون للعرب أي مزية على غيرهم ، وهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة ؛ يرون لجنس العرب فضلًا على جنس العجم ، وإن كانوا عند الله عز وجل سواسية من ناحية الأعمال والفرائض والواجبات والمنهيات ، لكن هذا الجنس أفضل من غيره من الأجناس من ناحية الصفات التي وضعها الله عز وجل فيه وجعله مادة الإسلام ، وهو الذي انتشر على يده هذا الإسلام في أقطار العرب ؛ المقصود هذا الرجل كان رأسًا من رءوس الشعوبية وكان داعية إلى هذا المذهب .
إذًا إخراج البخاري لهؤلاء توجيهه : أنه أخرج لهم بناءً الشروط الثلاثة السابقة ، ولن تجد هذه الشروط مناقضة لإخراج البخاري لواحد من هؤلاء ؛ لأنك لو قلت الداعية فهؤلاء دعاة ، حتى إذا قلت حديثًا يؤيد البدعة سيأتي إن شاء الله أن أصحاب الصحيح قد يخرجان أحاديث من رواية المبتدع وتؤيد بدعته لكنها ليست مُنْكرة ، وسيأتي له مثال صريح عن كلامنا على الإمام مسلم عليه رحمة الله . هذا بالنسبة لاشتراط العدالة في " صحيح البخاري " .
طبعًا هناك كلام حول شرط البخاري أثاره الحاكم لا أريد أن أتوسع في ذكره ، لكن أقل شيء فيه هو الإشارة إليه الآن ، وهو أن الحاكم ذكر كلامًا فُهِمَ منه أنه يدعي أن شرط البخاري في الراوي الذي يُخرج له ألا يُخرج إلا لراوٍ قد عُرِفَ برواية اثنين عنه .
هذا الكلام ذكره الحاكم ؛ صحيح ، لكنهم اعترضوا عليه بأن البخاري ومسلم قد أخرجا لجماعة من الرواة لم يرو عنهم إلا رجل واحد ، وضربوا أمثلة لذلك من الصحابة ومن غير الصحابة ، لكن في حقيقة النظر في كلام الإمام الحاكم في " المستدرك " وفي كتابه " المدخل إلى كتاب الإكليل " وجدنا أنه يقصد من هذا الكلام أن يُبَيّن أعلى شرط الصحيح ؛ لأَنَّه صرح في مواطن أن البخاري ومسلم أخرجا لأقوام تفرَّد بالرواية عنهم شخص واحد فهو كان على علم بذلك .
إذًا ما هو مَقْصودِهِ لما ذكر أن شرط البخاري هو أن لا يُخرج إلا لمن روى عنه أو من عُرف برواية اثنين عنه ؟
قصده من ذلك : أَنَّ هذا هو أعلى شرط " الصحيح " كما ذكرنا سابقًا في التام الضبط ، يعني البخاري يحرص ألا يُخرج إلا لمن عرف برواية اثنين عنه ، فإن وَجَد أصلًا من الأصول واجتمعت فيه شروط القبول من رواية مَن لم يُعرف إلا برواية رجل عنه أخرجه في تلك الحال ، لكنه لا يلجأ لإخراج أمثال هؤلاء إلا إذا فقد القسم الأول من الرواة ، وهو من عُرف برواية رجلين عنه فأكثر ؛ هذا هو توجيه كلام الحاكم وهو من أعرف الناس بكتاب الصحيح ، وقد نص كما ذكرت وهذا بسبب التأويل ، يعني قرين التأويل من كلام الحاكم أنه كان على علم كما نص على ذلك بأن البخاري ومسلم قد أَخرجا لجماعة من الرواة روى عنهم رجل واحد .
نرجع إلى شرط البخاري في الضبط ، فنقول شرط الضبط لا شك أنه من شروط الحديث الصحيح ولا بد من وجود هذا الشرط حتى يُقبل الحديث ، والإمام البخاري كذلك اشتراط دقيق وشديد جدًّا ، وقد بَيَّنَ ذلك بالمثال أحدُ العلماء وهو الإمام الحازمي ؛ حيث إن الرواة المقبولين لهم طبقات ، وضرب لذلك مثالًا قال : لو أتينا بأحد العلماء المشهورين كالإمام الزهري مثلًا .
نجد أن الإمام الزهري مكث يحدث سنوات طويلة جدًّا وتتلمذ على يديه تلامذة كُثُر ، بعض هؤلاء التلامذة مع تمام ضبطهم لازم الزهري ملازمة طويلة ؛ في السفر والحضر ، في كل أحواله ، فهو صاحب حفظ قوي جدًّا ، ضبط تام ، ووافق مع ذلك أنه لازم الزهري ملازمةً كبيرة جدًّا ، هؤلاء أعلى طبقة من الرواة عن الزهري .
الطبقة الثانية : هم طبقة مَنْ كان ثقة ضابطًا ضبطًا تامًّا ، لكنه لم يلازم الإمام الزهري ، وإنما جَلَسَ معه مجلسين ، ثلاثة ، أربعة ، عشرة ، مجالس معدودة لم يلازم الزهري ولم يكن خبيرًا بأحاديثه أو بمروياته .
يقول : لأن الإمام البخاري شرطه الأعلى ، يعني : يحرص ألا يُخرج إلا للطبقة الأولى من الرواة ، وهو أن يكون الراوي ضابطًا ضبطًا تامًّا وملازمًا للشيخ الذي روى عنه ، فإن لم يجد من رواية رجل من هؤلاء حديثًا أصلًا في باب من الأبواب ، عندها ينتقل للطبقة الثانية .
وسيأتي بقية الطبقات والكلام عنها عندما نتكلم عن مناهج بقية الكتب بإذن الله تعالى ، لكن المقصود أن البخاري يحرص ألا يُخرج إلا للطبقة الأولى ؛ هذه قمة حقيقة في النقل وفي التحري وفي التثبت ، فإن لم يجد إلا المرحلة الثانية - وهي أيضًا للثقة التام الضبط - أخرج لها في كتابه " الصحيح " ، لكنها تعتبر شرط فرعي - إن صح التعبير - في كتاب " الصحيح " .
مازلنا نتكلم عن العدالة والضبط ، وقد يَعترض بعض الناس على ذلك لوجود رواة تُكُلِّم فيهم في " صحيح البخاري " ، وقد عدَّهم الحافظ ابن حجر ، قال : إنهم نحو الثمانين راوٍ ، وهناك كتاب آخر واسع في ذِكْر من تُكُلِّم فيه من رجال الصحيحين ، وهو كتاب أبي زرعة العراقي واسمه : " البَيَان والتوضيح لمَنْ مُسَّ بِضَرْبٍ من التجريح أُخْرِج له في الصحيح " لأبي زُرعة أحمد بن عبد الرحيم بن حسين العراقي ، ذكر في هذا الكتاب سبعة وخمسين وثلاثمائة راوٍ تُكُلِّم فيهم في " صحيح البخاري " ، لكن بالطبع أكثر هؤلاء الرواة لم يُتَكَلَّم فيهم بشيء يُنزل مرتبتهم أصلًا ، يعني الذين فيهم كلام فيه شيء من الوَجَاهَة ، فيه شيء من القوة لعلهم لا يبلغون حد الثمانين كما ذكر الحافظ بن حجر هذا العدد الكبير .
ما هو موقفنا من هؤلاء الرواة ؟
نقول : نقسم هؤلاء الرواة إلى أقسام :
القسم الأول : مَنْ تُكُلِّم فيه بالجهالة ، وقلنا : أنه لا يُقبل الحكم بالجهالة على راوٍ من رواة " الصحيح "
القسم الثاني : المُتَكَلَّم فيه ببدعة وهم قسم كبير من هؤلاء الرواة ، بيَّنا موقف البخاري من هن رواية المبتَدِع وموقفه منهم ، والموقف الصحيح الذي صار عليه المحدثون ، وسيخرج أيضًا عددًا كبيرًا من هؤلاء الرواة .
القسم الثالث : مَنْ تُكُلِّم فيه لأنه وَهِم في حديث أو أخطأ في حديثين أو ثلاثة ، لكنه ما زال في درجة الضبط والإتقان ، فمثل هؤلاء لا تُترك رواياتهم كلها من أجل خطأين أو ثلاثة أو أربعة أو من أجل أنه خف ضبطه .
القسم الرابع : من كان ضعيفًا على الواضح عندنا نحن ، وإن كان في علم البخاري قد يكون بخلاف ذلك ، المقصود أنه قد يكون ضعيفًا حتى عند البخاري ، فمثل هؤلاء ربما أخذ البخاري من هؤلاء وانتقى من حديثهم ما ضبطوه وأتقنوه ؛ لأنه حتى سيئ الحفظ لا يُتَصَوَّر أَلَّا يضبط وَلَا حديث ، قد يكون غالب عليه الوهم ، لكن توجد هناك أحاديث أصاب فيها ، فيُخرج لمثل هؤلاء وغالبًا يكون إخراجه لمثل هؤلاء في المتابعات والشواهد .
لكن الحقيقة قبل أن نترك هذه المسألة نقرر قضية مهمة وهي أن البخاري لا يمكن أن يخرج لراو في صحيحه إلا وهو عنده في درجة القَبول ، ولا نَخرج عن هذا الأصل إلا بدليل قطعي يقيني أنه ضعيف عند البخاري لمَّا أخرج له في " الصحيح " ؛ لأن شرط الصحيح كما قلنا : العدالة والضبط ، ولا يمكن أن نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل واضح ، ولا يكون الدليل واضحًا إلا إذا عرفت أنه ضعيف عند البخاري لا عند غيره ، قد يكون ثقة عند البخاري ضعيفًا عند غير البخاري ، هذا لا يهمني ، يهمني أن أعرف رأي البخاري فيه ، قضية الترجيح هذا أمر مختلف ، لكن يريد أن يعرف رأي البخاري في هذا الراوي ، كما قلنا : مجرد إخراج البخاري له يدل على أنه ما زال في درجة القبول ولهذا أدلة متعددة .
نستثني من هذا الإطلاق - كما قلت : كل رواة الصحيح في درجة القبول - الصور الآتية :
أولًا : من أخرج له البخاري مقرونًا ، كيف أخرج له مقرونًا ؟! ما هي صورة الرواية القرناء ؟
المقرون : هو الذي يُسَمَّى في الإسناد مع غيره . فيقال مثلًا : حدثني فلان وفلان . فممن أَخْرَج له البخاري مقرونًا : من قد يكون ضعيفًا عند البخاري .
ما هو وجه الإخراج لهم بهذه الصورة ؟
قد يكون من التقوي وأنه يَعتبر هذا الراوي ما زال يُعتبر به ، فهو معتمد على راوٍ ثقة وإنما أورد هذا من باب زيادة الفائدة .
وقد يورده كذلك لأن البخاري سمعه على هذه الصورة ، يعني سمع الحديث من أحد شيوخه يرويه عن شيخين له ، فيورده كما سمعه تمامًا ، دون زيادة ولا نقص ، حتى لا يُغَيِّر من سياق الإسناد شيئًا ، والحقيقة عندي أمثلة ، لكن أنا كنت أتصور أن " صحيح البخاري " سننتهي منه اليوم ونبتدئ في " مسلم " ، لكن ما زلنا في الكلام عن البخاري وسوف نختصر كثيرًا في الأمثلة .
أو من خلال أيضًا الذين يُوردهم البخاري لا للاحتجاج ، قد يوردهم خلال سِيَاقَة أحد رجال الإسناد بطريقين له ، يعني : في أحد الرواة مثل سفيان بن عيينة .
يقول الإمام البخاري : ?? حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ...?? إلى آخر الحديث .
ثم قال سفيان : ?? وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ?? .
الآن الإمام البخاري يروي هذا الحديث عن شيخه علي بن المديني وشيخه يروي عن سفيان ، وسفيان أورد الحديث بطريقين فالبخاري أوردها كما سمعها ، فكان في الطريق الثاني راوٍ اسمه عبد الكريم بن أبي المُخَارِق أبي أمية ، وعبد الكريم بن أبي المُخَارِق ضعيف ، فالبخاري ما أورده لأنه حجة عنده ولكن لأن سفيان بن عيينة حدث بهذا الحديث بهذه الصورة فأورده كما سَمِعَهُ .
وفي ذلك فائدة مهمة ولذلك أوردها البخاري : أن الراوي قد يخطئ ؛ فيذكر لفظ الراوي الضعيف في رواية الراوي الثقة ، فأراد البخاري أن يبرأ ذمته بنقل الحديث كما سمعه ، فلو وقع وهم أو خطأ يعرف الناقلون أن هذا من قِبل سفيان بن عيينة لا من قِبل شيخه ولا من قِبل البخاري نفسه .
فهذه صورة أخرى تدعو البخاري إلى أنى يذكر الراوي الضعيف في صحيحه وإن لم يكن ثقة عنده .
الصورة الثالثة : أن يورده بمتابعات ، ونقصد من المتابعات الروايات التي يُعَلِّقها البخاري في آخر الصحيح ، فيقول مثلًا بعدما يورد الحديث ، يقول : وقد رواه معمر وفلان وفلان عن - مثلًا - همام أو عن فلان ؛ أحد الرواة ، يذكر من تابع رواة الحديث الذي أسنده عقب الحديث مباشرة ، يذكرها معلقة ، هؤلاء أيضًا لا يُشترط فيهم أن يكونوا عدولًا أو ضابطين .
إذًا الرواة الذين يشترط فيهم أن يكونوا عدولًا ضابطين هم الذي يخرج لهم مُسْنَدَات ، يعني حديث مسند متصل بشرط ألا يكون مقرونًا ولا يكون ورد كذلك بالإسناد ؛ يعني إسناده عقب إسناد ، وبشرط ألا يكون بمتابعاته التي يُسوقها معلقة في آخر الحديث ، من سوى هؤلاء فكلهم عند البخاري لا ينزلون عن درجة القبول ، ولو في آخر مراتبها .
وصلى اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد ( ، وعلى آله ، وصحبه وسلم .
_____________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد ..
فَنُكْمِل ما كنا قد بدأنا به بالأمس وهو بقية الكلام عن كتاب الإمام البخاري وهو :
" الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ( وسننه وأيامه " .
وكنَّا قد تكلَّمنا بالأمس عن منهج هذا الكلام في الترتيب لمَّا تعرضنا لكلمة الجامع لعنوانه ، وتكلمنا أيضًا عن قضية اشتراط الرفع لمَّا تكلمنا عن المسند كلمة المسند في العنوان، ثم لمَّا وصلنا إلى الكلام عن اللفظ السالف في هذا العنوان ، وهو الصحيح تكلمنا عن شرط العدالة والضبط في هذا الكتاب ، وتكلمنا عن منهج الإمام البخاري في إخراجه للرواة المتكلم فيهم.
وخَرَجْنَا بِقَاعِدَةٍ : " أَنَّ كَلَّ مَنْ أَخْرَجَ لَهُمْ البُخَاريُّ فِي الصَحِيحِ فَهُوَ مَقْبول عِنْدَهُ حُجَّة عِنْدَهُ إلا مَنْ تُكُلِّمَ فِيهِ وأَخْرَجَ لَهُ مَقْرونًا ، أو أَخْرَجَ لَهُ خِلَالَ إِسْنَاد " .
يعني: يكون أحد شيوخه أورد إسنادين، فيورد الإسنادين لا احتجاجًا بكلا الإسنادين، وإنما احتجاجًا بأحد الإسنادين، وأورد الحديث كما سمعه من شيخه ، أو أن يكون أورده في المتابعات، ونقصد بالمتابعات أي الأسانيد أو الطرق التي يوردها معلقةً في أواخر الحديث يقول: رواه فلان ، وفلان ، وفلان دون أن يسندها ، وهؤلاء الذين يذكر رواياتهم هؤلاء لا يلزم أن يكونوا عنده من الثقات لا يلزم أن يكونوا من الثقات، وهذا آخر ما ذكرناه بالأمس.
اليوم نكمل الكلام عن بقية عن شروط الصحيح :
والشرط الثالث من شروط الصحيح: الاتصال .
وسبق أن تكلمنا عن الاتصال بشيء من الكلام لمَّا تعرضنا لكلمة المسند، وقلنا بأن الحديث المسند هو المرفوع المتصل، أو مرفوعه صحابي بإسناد ظاهره الاتصال، لا شك أن الاتصال شرط مهم من شروط الصحة.
--------------------------------------------------------------------------------
المهم في شرط الاتصال عند البخاري: أن بعض أهل العلم نسبوا إلى الإمام البخاري أن له شرطًا يخالف فيه مسلمًا أو أن مسلم يخالف البخاري في شرط في طريقة تحَقق الاتصال عند كل واحد منهما، فالبخاري نُسِبَ إليه أنه لا يقول باتصال الحديث المُعَنْعَن الذي يرويه الراوي عن من يرويه عنه بصيغة عن أو قال أو أي صيغة أخرى ليست صريحة بالسماع، مثل: قال وذكر وحدَّث، وأخذت هذه الصيغة بالكلام لأنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم أن الحديث الذي يكون فيه أو يقول به الراوي حدَّثنا أو أخبرنا أو سمعت أن هذا متصل لا خلاف بين البخاري ومسلم في الحديث الذي فيه التصريح بالسماع، إنما الخلاف المنقول والمذكور بين البخاري ومسلم هو في الحديث الذي يرويه الراوي عن من يرويه عنه بصيغة محتملة للسماع كـ "عن " و " قال " وما شابههما، فذكر عن الإمام البخاري أنه يشترط لاتصال الحديث المعنعن أو للحكم على الحديث المعنعن بأنه متصل:
الشرط الأول: أَنْ يكون الراوي غير مدلس .
الشرط الثاني: أن يثبت ولو مرة لقاؤه بمن روى عنه، أن يثبت عند البخاري أنه لقي هذا الراوي الذي روى عنه بصيغة محتملة، فإذا ثبت عنده اللقاء ولو مرة حمل بقية روايات هذا الراوي عن ذلك الشيخ على الاتصال بشرط ألا يكون مدلسًا كما ذكرنا سابقًا.
أما مسلم فشرطه قد صرَّح به في مقدمة صحيحه وسنذكره الآن وإن كان هذا متعلق بـ " مسلم " ، وسنذكره الآن حتى نعرف الفرق بين المذهبين اللذين ذُكِرَا أو نسب للبخاري ومسلم.
مذهب مسلم : أن الحديث المعنعن لا يحكم له بالاتصال إلا بثلاثة شروط:
الشرط الأول: هو نفس الشرط الأول عند البخاري، وهو ألا يكون الراوي مدلس، أو بعبارة أدق ألا تكون عنعنة الراوي مردودة بالتدليس أو لا يوصف بالتدليس الذي يقتضي رد العنعنة، ألا يوصف الراوي بالتدليس الذي يقتضي رد العنعنة، هذا شرط البخاري ومسلم اتفقا في هذا الشرط، ثم ينفرد مسلم بالشرطين التاليين:
--------------------------------------------------------------------------------
الشرط الثاني : أن يكون هذا الراوي معاصرًا لمن روى عنه .
يعني : عاش في زمنه، فلا يكون وفاة الشيخ قبل ولادة الراوي عنه، لا بد أن يكونا عاشا في زمن واحد، هذا الشرط الثاني.
الشرط الثالث : ألا يوجد دليل ولا قرينة تدل على عدم السماع ، ألا يوجد دليل يدل على عدم السماع، ولا قرينة تشهد بعدم السماع من ذلك الشيخ، فإذا اجتمعت هذه الشروط ، فإن الإمام مسلم يحكم على الحديث بالاتصال، فأي الشرطين في رأيكم أكثر تشددً؟ شرط البخاري، مع أنهم شرطين.
كيف يكون شرطين أكثر؟ مسلم ثلاثة شروط.
قلنا البخاري له شرطان، وأما مسلم فله ثلاثة شروط؛ لأنه يشترط العلم باللقاء وهذا لا شك أشد .
هذا الشرط يا إخوان نقل عن الإمام البخاري بالطبع ؛ لأننا قلنا: إن البخاري لم يذكر هذا الشرط، ولم يذكر أصلًا شروطه في مقدمة الكتاب لأن الكتاب ليس له مقدمة، إلا أن هذا الشرط هناك شك في نسبته إلى الإمام البخاري بل الراجح عندي والله أعلم أنه لا تصح نسبته إلى الإمام البخاري، وأن شرط البخاري ومسلم في الاتصال واحد ، ولا فرق بينهما في ذلك، وأن الإمام مسلم لمَّا نقل الإجماع على الشرط الذي ذكره في مقدمة الصحيح كما سيأتي كان ينقل الإجماع بالفعل الذي يتناول البخاري ومسلمًا ، وعلي بن المديني ، وجميع من يعرفهم من أهل الحديث، فشرط البخاري ومسلم في الحديث المعنعن واحد، وهو الشرط الذي نقلناه سابقاً عن مسلم أنهما يحكمان بالاتصال إذا لم يكن الراوي مردود العنعنة بالتدليس، إذا كان معاصرًا، إذا لم يقم دليل ولا قرينة تدل على عدم السماع، هذا هو شرط البخاري ومسلم على الصحيح، والمسألة فيها طول لكن يكفي أن نَعْرِض لهذا الشرط من شروط الإمام البخاري وهو شرط الاتصال .
--------------------------------------------------------------------------------
لا شك أن هذا الشرط كما ذكرنا لا يمكن أن يُصْحِح الحديث إلا بحصوله وهو شرط الاتصال، فهنا ينقدح في الذهن الكلام عن المعلقات، يعني : ولما أخرج البخاري إذًا المعلقات في صحيحه، أو ما وجه إخراجها في الصحيح ؟ هل هي صحيحة عنده ؟هل نحكم بصحتها لمجرد أن البخاري أخرجها في الصحيح؟
لا شك أن المعلقات خارجة عن شرط الصحيح، المعلقات الأصل فيها أنها خارجة عن أصل الصحيح، لما، ليش خارجة عن أصل الصحيح؟ لشرطين أو للكلمتين اللتين وردتا في عنوان الكتاب:
الشرط الأول : كلمة المسند ، والمعلق ليس بمسند لأن ما هو متصل .
الشرط الثاني : وهو الصحة، وشرط الصحة أن يكون الحديث متصلًا، والمعلَّق ليس بمتصل .
ولذلك المعلقات الأصل أنها ليست داخلة ضمن شرط الصحيح ، إلا أن العلماء وخاصة الحافظ ابن حجر قد اعتنى بهذه المعلقات عناية فائقة جدًا ، وكان من أوائل كتبه التي ألفها ، والتي أشتهر بها كتاب خاص بمعلقات صحيح البخاري وهو كتاب " تَغْلِيق التَعْلِيق " الذي وَصَلَ فيه هذه المعلقات؛ أي بيَّن أسانيدها إلى من انتهت إليه ، سواءً كانت منسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعة أو موقوفة على الصحابة أو التابعين أو من جاء بعدهم .
ولذلك لن تجد خيرًا من الحافظ بن حجر معرفة بأنواع هذه المعلقات ، وأقسامها لأنه صاحب عناية فائقة ومتميزة بمعلقات صحيح البخاري، وقد لخَّص هذا الكتاب أيضًا " تَغْلِيق التَعْلِيق " في مقدمة شرحه لصحيح البخاري "فَتْح البَارِي" المقدمة المشهورة باسم " هدي الساري " .
لخَّص كتابه " تغليق التعليق " تلخيصًا كبيرًا وقدَّم هذا الباب بذكر أنواع المعلقات في صحيح البخاري، ويمكن أن نقسم هذه التعليقات بناء على كلام الحافظ بن حجر يعني حاولوا أن ترسموها شجرة في أذهانكم أو في أوراقكم التي معكم .
نقسم هذه المعلقات إلى قسمين أساسين:
معلقات المتون . ومعلقات الأسانيد . أو الطرق والروايات.
هذه لها كلام وهذه لها كلام.
--------------------------------------------------------------------------------
نبتدئ بمعلقات المتون :
معلقات المتون: يعني أن يروي متنًا لكن لتعليقه، نحن نقول معلق ، نحتاج إلى شرح المعلق قبل أن ندخل فيه، ما هو المعلق؟ نحن طبعًا شرحناه السنة الماضية أنا معتمد إنه محفوظ من السنة الماضية المعلق.
- ما حذف من مبتدأ إسناده واحد فأكثر، زاد الحافظ بن حجر: بتصرف مصنفه : هذا هو المعلق.
صورته حتى نعرف: مثل أن يقول الإمام البخاري في حديث ?? إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّياتِ ?? الذي يرويه عن الْحُمَيْدي عَنْ سفيان عَنْ إبراهيم .. إلى آخر السند .
كأن يقول مثلًا: ?? قَالَ سُفْيَانُ .. الحديث ?? .
هل البخاري سمع الحديث من سفيان؟
- لا . إنما سمعه من الْحُمَيدي ، أو أن يقول : قال يحيي بن سعيد الأنصاري ، هل سمعه من يحيي بن سعيد الأنصاري ، أو أن يقول : قال علقمة بن وقاص، هل سمعه من علقمة ؟ لا، أو يقول: قال عمر بن الخطاب، أو يقول يحذف السند كله، ويقول: قال النبي ( ?? إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّياتِ ?? .
فإذا حذف شيخه هذا يُسمى معلق، فإذا أضاف إلى شيخه رجل ثاني أو ثالث أو رابع أو كل السند أيضًا يُسمى معلق ، هذه هي المعلقات، وقد يكون المعلق حديث مرفوع كما ذكرنا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد يكون أثرًا موقوفًا عن أحد الصحابة أو عن أحد التابعين، فمن جاء بعدهم، فنقول: أن هذه المعلقات قد يسوقها الإمام البخاري يسوق بعض السند أو يحذف السند كله، ويذكر المتن المروي سواء كان مرفوعًا أو موقوفًا أو مقطوعًا، فهذه المتون تنقسم أو معلقات المتون تنقسم أيضًا إلى قسمين، ليت عندنا لوحة كان نرسم لكم شجرة؛ هذا لأنها مرسومة عندي أنا في الورقة هذه، فهذه المعلقات المتون أيضًا تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول : الذي وصله الإمام البخاري في الصحيح، معلقات وصلها في كتابه الصحيح.
القسم الثاني : معلقات لم يصلها في الصحيح.
كيف يعني معلقات وصلها في الصحيح؟ ومعلقات لم يصلها؟
--------------------------------------------------------------------------------
بعض المعلقات يذكرها الإمام البخاري في موطن ويحذف من مبتدأ السند واحد فأكثر، ويوردها في موطن آخر مسندةً ، يذكر من سمع منه الحديث إلى منتهى السند .
ما حكم هذه المعلقات التي يصلها البخاري في صحيحه؟
صحيحة وهي على شرطه ؛ لأنه أخرجها مسندة في موطن آخر من كتابه الصحيح .
لما علقها ؟
هنا سؤال: ما دام إنها على شرطه وأخرجها في موطن آخر مسندة، فلم لم يصلها في كل موطن يوردها فيه مع أننا نعرف أن البخاري يكرر حديثه، يعني كثير من الأحاديث يكررها ويقسم الحديث ويوزع الحديث على الأبواب، فلم لم يرو هذا الحديث الذي علقه بإسناد متصل لا منتهاه ؟
يقول : للاختصار .
ولما لم يفعل هذا اختصار في الروايات الأخرى التي أسندها وكررها في أبواب أخرى، يعني لابد في فرق بين الصورتين، مرة لا يعلق الحديث وإن تكرر، ومرات يعلقه إذا تكرر، فما الفرق بين الحالتين؟
يقول: بسبب ضيق المخرج ؟ الإمام البخاري من طبعه وقلنا وهذا من سجيته من ذكائه أنه يكره الإعادة التي لا فائدة فيها، حتى الأحاديث التي كان يكررها مسندة لابد أن يكون هناك إضافة في كل مرة يروي فيها الحديث ولو أقل شيء من ناحية الرواية ؛ كأن يرويه مرة عن شيخ، ومرة يرويه عن شيخ آخر، يرويه مرة بإسناد، ويرويه مرة بإسناد آخر، يرويه مرة بلفظ ويرويه مرة أخرى بلفظ فيه شيء من الاختلاف ينفع في بيان الحكم المستنبط من الحديث.
أما الحديث الذي لا يوجد عنده إلا من وجه واحد، ولم يروه إلا عن شيخ واحد مثلًا، وليس هناك فائدة من إعادته هذا الذي يرى أنه يجب أن يختصر؛ لأنه إن كرره بنفس السند وبنفس اللفظ لا فائدة تذكر في مثل هذا الفعل، ولذلك يقوم بتعليقه من باب كراهية التكرار الذي لا فائدة منه.
نرجع إلى القسم الثاني وهو :
الأحاديث التي علقها ولم يصلها في الصحيح هذه أيضًا تنقسم إلى قسمين :
الشجرة كل مدى تتفرع أكثر وأكثر.
--------------------------------------------------------------------------------
القسم الأول من هذه المعلقات التي لم يصلها في الصحيح: هي المعلقات التي أوردها بصيغة الجزم.
والقسم الثاني التي أوردها بصيغة التمريض .
ما هي صيغة الجزم وصيغة التمريض؟
صيغة الجزم: هي التي يقطع فيها بنسبة ذلك القول إلى قائله كأن يقول: قال فلان، قال عمر، قال سفيان، قال علي بن أبي طالب، قال محمد بن سيرين، أو ذكر أو حدَّث، أي صيغة فيها جزم بنسبة هذا القول أو هذا الإسناد أو الأمر المنقول عن من سَمَّاه.
صيغة التمريض: هي التي ليس فيها جزم؛ كأن يقول: رُوي، قيل، ذُكر عن فلان، لاحظتم.
إذًا: صيغة الجزم هي في الغالب تكون طبعًا بصيغة المبني للمعلوم، وصيغة التمريض تكون بصيغة المبني للمجهول.
نبتدئ بالقسم الأول وهو ما رواه بصيغة الجزم:
ما رواه بصيغة الجزم طبعًا هذا ما رواه بصيغة الحزم ولم يصله في الصحيح لأنه انتهينا الآن مما وصله في الصحيح نتكلم الآن عن الأحاديث التي علقها ولم يصلها في الصحيح، وقلنا إنها تنقسم إلى قسمين، هذه الأحاديث التي عَلَّقها بصيغة الجزم الحافظ بن حجر باستقرائه
القسم الأول : وجد أن بعض هذه الأحاديث صحيحة على شرط البخاري هذا القسم الأول.
القسم الثاني: صحيحة على غير شرط البخاري.
القسم الثالث : في مرتبة الحسن ليست صحيحة.
القسم الرابع: فيها ضعف من قِبَل انقطاع يسير في الإسناد، لا من جهة طعن في الرواة، وأيضًا يكون الحديث هذا مُنْجَبِر.
إذًا: هي أربعة أقسام الأحاديث المعلقة التي يذكرها بصيغة الجزم.
1- ما كان صحيحًا على شرط البخاري، وسنتكلم الآن عن كل قسم .
2- ما كان صحيحًا على غير شرط البخاري.
3- ما كان حسنًا لم يصل إلى درجة الصحة.
--------------------------------------------------------------------------------
4- ما كان ضعيفًا، لكنَّ سبب ضعفه انقطاع يسير في الإسناد وليس من جهة طعن في أحد الرواة، ثم يكون هذا الحديث أيضًا منجبر، أي متقوي بمجيئه من وجه آخر، هذا حسب استقراء الحافظ، يقول: هذه المعلقات التي بصيغة الحزم لا تخرج عن واحد من هذه الأقسام الأربعة، وذكر أمثلة مثلًا للحديث الصحيح:
أول شيء الحديث الصحيح الذي على شرطه، قال لما لم يخرجه في الصحيح ما دام صحيح وعلى شرطه، لِمَ لم يسنده؟
يقول الحافظ بن حجر: لذلك عدة أسباب:
1 - أن يكون قد أخرج ما يقوم مقامه . وقلنا إن شرط البخاري وسيأتي هذا في العنوان أنه مختصر؛ فإذا أورد حديثًا مسندًا بنفس معنى هذا الحديث الآخر يرى أنه ما في داعي لتكرير الحديث الآخر فيورده معلقًا وإن كان صحيحًا على شرط البخاري.
2 - أن يكون أخذه في حالة المذاكرة .
يعني : أخذه في حالة المذاكرة أو تلقاه عن شيخه أثناء المذاكرة .
المذاكرة غير مجالس السماع؛ مجالس السماع هي المجلس الذي يتصدى فيه الشيخ للتحديث ويسمع الطلاب منه، أو يقرؤون عليه وهو يسمع، هذه مجالس إملاء ومجالس تحديث يكون الشيخ فيها متحري ومتوقي ، والطالب منتبه ويكتب أو يحفظ أثناء السماع أو يعارض إذا كان عنده النسخة التي تُقرأ على الشيخ.
أما المذاكرة: ما أشبهها بمجالس المذاكرة التي يعرفها الناس الآن؛ يجلس الحافظ أي الحافظ أي المحدِّث مع بقية المحدثين، ويقول لهم: أنا أروي حديث كذا وكذا وكذا، عندي رواية من رواية فلان عن فلان عن فلان لا يكون فيها متوقي ، ومتحري تحريه الذي يفعله في مجالس التحديث، فاحتمال الوهم فيها أو احتمال الاختصار، أو الرواية بالمعنى واردة ، ولذلك الإمام البخاري يرى أنه يميز هذه الروايات التي تلقاها بالمذاكرة عن الروايات التي تلقاها في مجالس السماع والتحديث فيروي هذه الأحاديث وإن كانت على شرطه بصيغة الجزم معلقة إلى من نسبها إليه.
3 - ألا تكون مسموعة له كأن يكون وجدها وجادة .
--------------------------------------------------------------------------------
يعني : ألا تكون مسموعة عند البخاري لا في المذاكرة ولا مجالس السماع، وإنما وجدها في كتاب من الكتب ولذلك لم يوردها متصلة، واكتفى بتعليقها مجزومة إلى من علقها عنه.
القسم الثاني الذي هو صحيح على غير شرطه:
قال مثاله حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ( ، قد علقه البخاري قال : ?? قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ?? وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في الصحيح، فهو صحيح لكن على غير شرط البخاري، طيب ليش ما أخرجه في الصحيح؟ لأنه على غير شرطه، الجواب معروف.
قال: القسم الثالث: ذكرناه الحسن، ومثاله:
قال: قال بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي ( قال: ?? إِنَّ اللَّهُ أَحَقّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْه ُ?? هذا الإسناد يُضرب به المثل للإسناد الحسن، ولذلك لم يخرجه الإمام البخاري لأنه ليس في المرتبة العليا من مراتب القبول التي هي ما نسميه نحن ، أو المتأخرون يسمونه بالصحيح لذاته ، ولذلك لم يخرجه الإمام البخاري.
مثال القسم الرابع من الأقسام وهو الضعيف الذي يضعه من جهة انقطاع في الإسناد لا من جهة ضعف في الرواة أو طعن في الرواة، وهو مُنْجَبِر، قال: الحديث رواه طاووس عن معاذ في الزكاة أورده الإمام البخاري مجزومًا بنسبته إلى طاووس، وطاووس لم يسمع من معاذ بن جبل، وإن كان عاصره، لكنه لم يسمع منه، ولذلك علقه الإمام البخاري، إلا أن العمل على مقتضى هذا الحديث ولم يخالف فيه الفقهاء، وهناك أدلة تدل على صحة ما جاء في هذا الحديث، ولذلك علقه الإمام البخاري بصيغة الجزم.
ماذا تفيد هذه الصيغة الآن عند البخاري لمَاَّ يقول: قال فلان ؟
تفيد : أَنَّ هذا الحديث أو هذا الأثر صحيح إلى من علقه عنه - انتبهوا للقيد - أن هذا الأثر أو الحديث صحيح إلى من علقه عنه .
من هي فائدة هذا التقييد ، لماذا لم نقل صحيح ونسكت؟
--------------------------------------------------------------------------------
يدل على صحته الصيغة تدل على الجزم أو القطع، فلم لم نقل بأنها تدل على الصحة وإنما قلنا صحيح إلى من علقها عنه لِمَ؟
هو الآن جزم الساقط انتهينا منه، لكن مثلًا يقول: قال طاووس عن معاذ، فهو الآن يجزم لنا أن الإسناد الساقط مقبول في درجة القبول، فلِمَ قال: قال طاووس عن معاذ ولم يقل: قال معاذ؟
أنا الآن بينت السبب ، لأنه هناك احتمال أن يفعل البخاري ذلك إذا كان الباقي في الإسناد الذي يذكره من الإسناد فيه علة، فيه سبب من أسباب الرد، فكيف يجزم بنسبة الحديث إلى معاذ والحديث لم يثبت إسناده إلى معاذ، فهو إذا قال؟: قال فلان فهو يجزم بصحة الإسناد إلى الذي سمَّاه، ثم يجب عليك أن تنظر في بقية الأسماء التي ذكرها بإسناد وتدرس بقية الإسناد المتبقي، فقد يكون مقبولًا وقد لا يكون مقبولًا، ومثاله مثال: طاووس عن معاذ الذي ذكرناه سابقًا، ولذلك لم يقل: قال معاذ، ما قال مثل حديث عائشة السابق: ?? قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ?? ؛ لأن الحديث إلى عائشة صحيح في صحيح مسلم ما في خلاف أبدًا، وقد يقول في أحاديث أخرى: قال النبي ( كما في حديث آخر قال النبي ( ?? الإسْلَام جِهَادٌ وَنِيَّة ?? وجزم بنسبة هذا الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يتردد في ثبوته لأنه صحيح إلى النبي عليه الصلاة والسلام، لكن في حديث معاذ قال: قال طاووس، ومع ذلك يجب عليك أن تنظر في بقية الإسناد الذي ذكره الإمام البخاري فلعل هناك علة في بقية هذه الأسماء التي ذكرها؛ إما طعن في الرواة أو انقطاع في الإسناد، وإذا كان بصيغة الجزم لا يكون انقطاعًا في الرواة وإنما يكون من جهة القطع في الإسناد كما سبق، هذا هو القسم الأول الذي أورده بصيغة الجزم .
--------------------------------------------------------------------------------
القسم الثاني : مما لم يصله في الصحيح : وهو ما أورده بصيغة التمريض وبينا ما هي صيغة التمريض . نقول صيغة التمريض وصيغة التمريض مثالها: " قيل " ، و " ذُكِرَ " و " حُدِّث " .. وما شابه ذلك.
ما هي إفادة صيغة التمريض؟
قلنا: بأن صيغة الجزم تدل على أن الإمام البخاري يجزم بهذا القول إلى من علقه عنه .
وصيغة التمريض تدل على ماذا؟ هل صيغة التمريض تدل على التضعيف؟
هذا هو المهم لأن ؛ لو قلنا تدل على عدم الجزم فهي كلمة عامة ، وقد يكون عدم الحزم مع الدلالة على الضعف، وقد لا تكون كذلك، قد يكون مراده فقط بيان أن هذا الحديث أو يريد أن يُبرئ ذمته من الجزم بنسبة هذا الحديث إلى قائله والصحيح هو هذا الأخير أن صيغة التمريض لا تدل وحدها على التضعيف عند البخاري، فقط تدل أن البخاري لا يقطع بنسبة هذا القول إلى قائله فقط .
ومن ظن أنها دالة على الضعف يرد عليه أن الإمام البخاري أورد أحاديث بصيغة التمريض ووصلها في صحيحه .
ومثال ذلك : أثر ابن عباس الذي قال فيه الإمام البخاري قال : وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : ?? الرُّقَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ?? .
الآن هذه صيغة تمريض ولَّا حزم ؟
صيغة تمريض؛ يُذكر عن ابن عباس ، هذا الحديث هو الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في الصحيح في قصة أبي سعيد الخدري لما رقى سيد القوم الذي لُدغ بفاتحة الكتاب، نفسه البخاري أخرجه في الصحيح، طيب لِمَ أورده بصيغة التمريض مع أنه صحيح وعلى شرطه؟
--------------------------------------------------------------------------------
يقول الحافظ بن حجر: سبب ذلك بالاستقراء الذي قام به الحافظ بن حجر أنه يفعل ذلك إذا ذكر الحديث بالمعنى، ولم يذكره باللفظ، فمثلًا في هذا الحديث يقول: يُذكر عن ابن عباس في الرقى بفاتحة الكتاب، ما ذكر لفظ الحديث، وإنما أورده بالمعنى، فإذا أورد الحديث بالمعنى فإنَّه في بعض الأحيان يعلقه بصيغة التمريض، هذا بالنسبة للأحاديث التي علَّقَها بصيغة التمريض وهي موصولة في الصحيح، انتبهوا، أما الأحاديث التي علقها بصيغة التمريض ولم يصلها في الصحيح، فهذه سيأتي الكلام عنها الآن .
يعني الآن ممكن أيضًا الأحاديث التي علقها بصيغة التمريض ممكن نجعلها قسمين:
قسم : وصله في الصحيح .
قسم : لم يصله في الصحيح.
1 - التي وصلها في الصحيح : علقها بصيغة التمريض ؛ لأنه أوردها بالمعنى .
2 - التي لم يصلها في الصحيح هذه تنقسم إلى أربعة أقسام :
القسم الأول : صحيح على غير شرطه.
القسم الثاني: الحسن.
القسم الثالث: أن يكون الحديث ضعيفًا لكنَّ العمل عليه . ويأتي أمثلتها.
القسم الرابع: هو الضعيف الذي لا جَابِر له ، ولم يفت به عامة أهل العلم .
وهذا القسم الأخير لا يكاد البخاري يذكره إلا وينبه على ضعفه صراحة كما يأتي في الأمثلة التي نسوقها.
مثال القسم الأول - وهو الذي يعلقه بصيغة التمريض - وهو صحيح على غير شرطه:
أَنَّ البخاري قال: يُذكر عن عبد الله بن السائب أن النبي ( ?? قَرَأ بـ " المْؤمِنُونَ" فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ?? وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، أورده بصيغة التمريض، وهو صحيح على شرط مسلم.
مثال القسم الثاني ، هو الحديث الحسن :
قال: يُذكر عن عثمان أن النبي ( قَالَ لَهُ : ?? إِذَا بِعْتَ فَكِلْ وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ ?? .
وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد ، والدار قطني بإسناد حسن ، ولذلك علقه الإمام البخاري بصيغة التمريض.
مثال القسم الثالث: وهو الضعيف لكن عليه العمل :
--------------------------------------------------------------------------------
ضعيف لكن عمل الفقهاء عليه ربما كان إجماع العلماء على العمل به، وإن كان الحديث ضعيف، طبعًا الإجماع لا يُشترط أن يكون مبني على هذا الحديث الضعيف، قد يكون مبني على دلائل الشرع الأخرى الاجتهاد والقياس، المقصود أن هناك وَرَدَ حديث ضعيف والإجماع يدل على ما دلَّ عليه هذا الحديث الضعيف أو عمل الفقهاء أو أكثر الفقهاء بما يدل عليه هذا الحديث الضعيف.
مثال ذلك: قال الإمام البخاري: ?? وَيُذْكَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدَّيْنِ ?? أي في التركة، في الإرث أول ما يُبدأ بسداد الدين ثم بالوصية ثم بتوزيع التركة على المستحقين الورثة .
هذا الحديث أخرجه الإمام الترمذي ، وضعفه وهو ضعيف ، لكن العمل عليه، الفقهاء يفتون بأن نقل عليه الإجماع ولعل الإجماع فيه صحيح أنه يبتدأ بالدين قبل الوصية .
مثال القسم الأخير ، وهو الضعيف الذي لا جابر له :
والذي قلنا إن البخاري لا يكاد يذكره إلا وَيُنَبِه صراحةً إلى ضعفه .
من أمثلته: قال الإمام البخاري: يُذكر عن أبي هريرة عن النبي ( ?? لَا يَتَطَوَّعُ الْإِمَامُ فِي مَكَانِهِ ?? قال الإمام البخاري " وَلَمْ يَصِحَّ " .
ذكر الأثر أو الحديث بصيغة التمريض ثم بعد أن انتهى منه قال: " وَلَمْ يَصِحَّ " ، فصرَّح بضعفه.
ومثال آخر: قال الإمام البخاري في كتاب الهبة: قال : " مُنْ أُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّة وَعِنْدَهُ جُلَسَاؤُهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا " هذا الباب ، قال: " وَيُذْكَرُ عَنْ اِبْن عَبَّاس ?? أَنَّ جُلَسَاءَهُ شُرَكَاؤُهُ ?? . وَلَمْ يَصِحَّ .
--------------------------------------------------------------------------------
أيضًا بعد أَنْ ذكر هذا الحديث قال: " وَلَمْ يَصِحَّ " هذا الحديث أورده ابن الجوزي في الموضوعات، لكن أورده مرفوعًا، أما البخاري فأورده موقوفًا عن ابن عباس، والبخاري مع أنه أورده موقوفًا ومعلقًا بصيغة التمريض نبَّه أيضًا على ضعفه، أما ابن الجوزي فأورد الحديث مرفوعًا يعني من طريق آخر مرفوع وحكم عليه بالوضع، وهذا الحديث هو الحديث الوحيد الذي أورده ابن الجوزي ، أو الكلمة الوحيدة التي أوردها ابن الجوزي في الموضوعات وهي مما ذُكر في صحيح البخاري، طبعًا هذا ليس فيه لوم على الإمام البخاري لأنه :
أولًا : لأنه ليس بمسند، ما هو من شرط كتابه.
ثانيًا: أنه علقه بصيغة التمريض.
ثالثًا: أنه صرَّح بتضعيفه.
رابعًا: أنه إنما أورده موقوفًا وأما الذي حكم عليه بالوضع ابن الجوزي فهو الحديث المرفوع، ولم يحكم على الحديث الموقوف بالوضع، الحديث الموقوف لا يزيد أن يكون ضعيفًا، لا يصل إلى درجة الحكم عليه بالوضع، وهناك حديث آخر نُسب إلى الإمام البخاري خطأً وذكره ابن الجوزي في الموضوعات لعلنا نذكره في ما يأتي من الكلام بإذن الله تعالى.
هذه خلاصة المعلقات أو أقسام المعلقات في صحيح البخاري .
وخلاصة هذا الكلام كله :
" أن كل ما علقه البخاري فهو صالح للعمل إلا ما صرَّح بتضعيفه، أن كل ما علقه البخاري سواء بالجزم أو بالتمريض، سواء وصله أم لم يصله فهو صالح للعمل إلا ما صرَّح بتضعيفه "
تقول لي: كيف ما قلت إن فيه أحاديث ضعيفة ؟
قلنا لكم: إن الأحاديث الضعيفة عليها العمل.
يبقى القسم الأخير: وهو الضعيف الذي ليس عليه العمل، قلنا إن البخاري لا يسكت عن بيان ضعفه، وينبه صراحة إلى ضعفه، ولذلك نحن نقول: إن كل معلقات البخاري صالحة للعمل إلا ما بيَّن ضعفه، هذه خلاصة المعلقات في صحيح البخاري .
لكن ننبه إلى كلمة أخيرة :
--------------------------------------------------------------------------------
وهو أن هذا الحكم لم نصدره على هذه المعلقات لمجرد أن البخاري علقها في الصحيح، وإنما أُصدرت هذه الأحكام وعرفنا هذه الأقسام لما وُصِلَت هذه المعلقات، وَصَلَها الحافظ بن حجر في " تغليق التعليق " وحكمنا على أسانيدها بما يليق بها من القبول والرد ، فليس لِذِكر الإمام البخاري لهذه المعلقات في صحيحة مزية خاصة يبقى الحديث المنقطع ليس بحجة سواء عند البخاري أو عند غيره، ولذلك اضطر الحافظ أن يجتهد ويحاول أن يصل هذه الأحاديث ليعرف مراتبها من القبول والرد، هذا أمر مهم حتى نعرف أن المحدِّثين ساروا على قاعدة مُطَّرِدَة في رد المنقطع وعدم قبوله، وأن الأصل في المنقطع عدم القبول ولو كان مُخَرَّجًا في كتاب اشترط صاحبه فيه الصحة، وإن كان طبعًا اشتراطه كان خاصًا بالأحاديث المسندة ولم يتناول الأحاديث المعلقة إلا أن ذكره لهذه المعلقات في الصحيح لا شك أنها تُلْمِح إلى أنها في الغالب ستكون في درجة القبول، ولذلك بالفعل واقع هذه المعلقات كما ذكرنا أنها في أقل أحوالها صالحة للعمل كما ذكرنا في خلاصة هذا التقسيم .هذا فيما يتعلق بمعلقات المتون.
باقي القسم الآخر الذي هو : " معلقات الأسانيد " .
وقلنا: نفصد بمعلقات الأسانيد أو الطرق: هي الأسانيد التي يذكرها أو الطرق التي يذكرها الإمام البخاري في سياق المتابعات، بعدما يسوق الحديث يقول: ورواه سفيان والزهري ، وفلان ، وفلان ، وفلان عن شعبة مثلًا ، ولا يذكر الإسناد إلى هؤلاء ، ساق الحديث قبل ذلك متصلًا من أحد الوجوه ثم يذكر هذه المتابعات معلقة، هذه المعلقات سبب تعليق الإمام البخاري لها :
السبب الأول : أنه إنما ذكرها متابعةً لا أصالةً .
--------------------------------------------------------------------------------
السبب الثاني : يقول الحافظ بن حجر: أَنَّه وَجَدَ الإمام البخاري إذا حصل اختلاف في الحديث في إسناده ، أو في متنه، فإنه يخرج في صحيحه الرواية الراجحة مسندة متصلة ، ثم يعلق الرواية المرجوحة ليبين لك أنه على علم بالخلاف ، لا يأتي واحد ويقول: والله الإمام البخاري فاته الخلاف ولعل الرواية التي تركها هي الأرجح من الرواية التي ذكرها ، فيذكر الرواية المرجوحة مُعَلَّقة حتى يعرف القارئ أن الإمام البخاري كان على إطلاع بهذه الرواية وإنما تركها لأنها عنده مرجوحة أي خطأ ووهم ممن رواها، ولذلك اكتفى بأحد الوجهين أو أحد الأوجه من الخلاف وترك الوجه الآخر واضح يا إخوان؟ هذا فيما يتعلق بمعلقات الأسانيد، وبذلك ننتهي من شرط الاتصال والكلام عنه.
ننتقل إلى شرط " عدم الشذوذ " .
طبعًا اشتراط عدم الشذوذ الذي يُذكَر في الحديث الصحيح هناك حقيقة طبعًا أول من ذكر هذا التعريف، تعريف الحديث الصحيح بشروطه الخمسة المشهورة أول من ذكر هذا التعريف هو ابن الصلاح ذكره بهذه الشروط المعروفة هو ابن الصلاح، ثم تابعه بعد ذلك العلماء ومنهم الحافظ بن حجر، فاخْتُلِفَ في تفسير الشذوذ الوارد في هذا التعريف؛ لابن الصلاح تعريف للشذوذ، وللحافظ بن حجر تعريف آخر للشذوذ، فأي التعرفين هو المراد في تعريف الحديث الصحيح ؟
الحافظ بن حجر ماذا عرف الشاذ يا من درست النزهة ؟
- ما خالف فيه المقبول من هو أولى منه بالقبول .
إذًا: شرط الشاذ عند الحافظ بن حجر أن يكون هناك مخالفة بين راويين مقبولين الأصل فيهما القبول لكنَّ أحدهما أرجح من الآخر إما من جهة العدد يعني يخالف شخص عددًا من الأشخاص، أو من ناحية زيادة الإتقان والضبط؛ يكون أحدهما أكثر ضبطًا واتقانًا فتكون روايته أرجح من رواية الآخر، هذا الشاذ عند الحافظ بن حجر، فهل هذا هو الشاذ الذي أراده ابن الصلاح لما عرَّف الحديث الصحيح وقال: إنه من غير شذوذ ولا علة، هل هذا هو الشاذ؟
--------------------------------------------------------------------------------
هذا الشاذ يا إخوان هو قسم من أقسام العلة، ما هي العلة؟ كيف تُكتشف العلة في الحديث؟
من خلال الموازنة، الموازنة بين الروايات، فإذا رجحت رواية على رواية، هذا هو الشذوذ عند الحافظ بن حجر، فإذا كان الشذوذ قسم من أقسام العلة لِمَ يذكره ابن الصلاح في تعريفه كان يكتفي بالعلة، ويقول من غير علة، ليش ينص على الشذوذ خاصة؟
الواقع أن ابن الصلاح أراد بالشذوذ معنى آخر وقد صرح ابن الصلاح ، صرَّح بتعريف الشاذ في كتابه، وذكر أن الشاذ قسمان:
القسم الأول: قال: " هو مخالفة الراوي لمن هو أولى منه " .
أول شيء انتبه هذا القسم الأول من الشاذ، أنه لم يقل: مخالفة الراوي المقبول، لم يقيده بأن يكون مقبولًا، وإنما أطلق أي راوي، مخالفة أي راوي لمن هو أولى منه، هذا القسم الأول من الشاذ، وهذا هو الذي قلنا بأنه من أقسام العلة، فلا يمكن أن يكون ابن الصلاح أراد هذا القسم من الشاذ لأنه داخل ضِمن العلة، ولا يصح التكرار في التعريف كما هو معروف.
القسم الثاني : " تفرد من لا يقع في ضبطه وإتقانه ما يجبر تفرده ".
يعني : الآن قد يكون الراوي في الأصل مقبول الرواية، لنفترض مثلًا أضرب لكم مثال واقعي حتى نقرب الصورة أن هناك شخصًا تتلمذ على أحد العلماء فترة طويلة جدًا أو تلامذة كثيرون تتلمذوا على أحد المشايخ المشهورين سنوات طويلة ، وهم أعرف الناس بأقواله وآرائه، ثم جاءنا في يوم من الأيام أحد الناس الثقة نثق في دينه ونقله وضبطه وكل شيء ، لكنه نقل لنا فتوى عن هذا العالم لم ينقلها أحد من تلامذته الملازمين له ، وهذا الشخص نعرف أنه ما لقي هذا العالم إلا مرة أو مرتين ، ولقيه في مجلس عام أيضًا ليس في مجلس خاص مثلًا هل يمكن نقبل منه هذه الرواية هذا النقل؟
- ما يمكن . نحمله على الكذب؟ لا؛ هو صادق .
إذن نحمله على أَيْش ؟
--------------------------------------------------------------------------------
- الوهم والخطأ، أخطأ . هذا هو تفرد الراوي أن يتفرد الراوي بحديث ويقع في ضبطه وإتقانه ما يجبر تفرده ؛ كأن يأتي رجل إلى الزهري ، والزهري إمام مشهور كان يُقْصَد من كل مكان له تلامذة كثيرون لازموه حضرًا وسفرًا كما ذكرنا، وهذا الشخص لم يلق الزهري إلا يوم أو يومين أو في مجلس أو مجلسين، ثم ينفرد عن الزهري بحديث لا يرويه أحد من تلامذة الزهري إلا هو، ما في مخالفة، هو ينفرد بحديث أصل، لو كان مخالفة كان يرجع للصور الأولى ، لا ، هو ينفرد بحديث لا يشاركه في أصل روايته أحد، ففي مثل هذه الحالة يشك العلماء في صحة نقل هذا الراوي ولو كان هذا الراوي عدلًا ضابطًا؛ لأن تفرده هذا يوقع الريبة في صحة نقله .
هذا هو القسم الثاني من الشاذ، وهذا ليس من العلة؛ لأنه لا يدرك من خلال جمع الطرق، وهذا هو الذي يريده ابن الصلاح من اشتراط الشذوذ في الحديث الصحيح ليش نقول هذا؟ لأننا نريد أن نقول بأن هذا هو الشرط أيضًا يشترطه البخاري في أحاديث كتابه: ألا ينفرد من لا يقع في ضبطه وإتقانه ما يجبر تفرده، أما مخالفة المقبول لمن هو أولى منه: فهي داخلة ضمن اشتراط عدم العلة؛ لأنه من العلل، مخالفة الراوي المقبول لمن هو أولى منه هذا من أقسام العلل القادحة، فهي مشترطة بقولنا: ولا يكون مُعلًا ، خلاص انتهينا من هذه الصورة يبقى الصورة الأولى إذا ما فسرنا الشاذ بهذا التفسير يبقى فيه طعن في الصحيح من جهة أنه هناك أحاديث تصحح وهي في الأصل أو في قواعد المحدثين يجب أن تكون مردودة لأنها لم يقع في ضبط راويها ما يجبر روايته التي تفرد بها، واضح .
رواية السجود: مثل رواية محمد بن حسن عن أبي الزناد التي تفرد بها وأبو الزناد إمام مشهور من أئمة أهل المدينة وله تلامذة كثيرون وتفرد به رجل كان يسكن البادية وليس معروفًا بصحبة أبي الزناد فهذا داعي رد روايته، وأمثلة ذلك كثيرة وهناك مقالات قرأتها في هذا الموضوع .
--------------------------------------------------------------------------------
على كل حال لا نريد أن ندخل في تفاصيل هذه المسألة.
المهم أن نعرف أن الشاذ المقصود بالتعريف ليس هو الشاذ الذي عَرَّفه به الحافظ بن حجر، وإنما هو القسم الثاني من الشاذ الذي ذكره ابن الصلاح، وهذا لا شك أنه شرط في الصحة وقد أعلَّ الإمام البخاري أحاديث فيما نقل عنه الترمذي وفي كتابه التاريخ الكبير بالتفرد فدلَّ ذلك على أن هذا شرطًا عنده في قبول الحديث أن الراوي إذا تفرد ولم يقع في ضبطه وإتقانه ما يجبر تفرده أن هذا داعٍ لرد الحديث، وما دام أن الإمام البخاري كان متبع لهذا المنهج فلا يمكن أن يصحح حديثًا هو نفسه يعل ما شابهه ونَاظَره لتحقق هذا النوع من أنواع الشذوذ فيه.
يبقى الشرط الأخير : اشتراط " عدم العلة " .
لاشك أيضًا أن هذا الشرط واضح عند جميع المحدثين وقد ملأ الإمام البخاري كتابه التاريخ الكبير ببيان العلل وبرد الأحاديث بأمثال هذه العلل، وهذا أمر لا يخفى على الإمام البخاري، وسيأتي أنه حتى في صحيحه نبه على بعض العلل في صحيحه، لكن قبل أن نأتي للأمثلة نذكر عبارة للحَاكِم فيها شيء من الإشكال لأنه ما دام تطرقنا للكلام عن العلل لابد أن نذكر الأشياء التي قد يتمسك بها من يظن أن الإمام البخاري لم يشترط هذا الشرط، لمَّا ألَّف الإمام الحاكم أبو عبد الله كتابه المستدرك على الصحيحين والذي سيأتي الكلام عنه .
قال في مقدمة هذا الكتاب وَهو يَتَكَلَّم عَنْ شَرطِهِ فيه قَالَ:
" أَنْ أَجْمَعَ كتابًا يَشْتَمِل عَلَى الأَحَادِيث المْرَوية بِأَسَانيد يَحْتَج مُحَمَّد بْنُ إِسْمَاعِيل وَمُسْلِم بْنُ الْحَجْاج بِمِثْلِهَا ، إِذْ لَا سَبِيل إِلى إِخْراج مَا لَا عِلَة لَهُ، فَإِنَهما رَحِمَهُمَا الله لَمْ يَدَّعِيا ذَلِكَ لِأَنْفََُسِهِمَا " .
هنا الإشكال؛ أيش ظاهر هذه العبارة؟
--------------------------------------------------------------------------------
يقول: أنا سأخرج أحاديث أخرج البخاري ومسلم أمثالها - يعني هي على شرط البخاري ومسلم- ثم يقول: وإن كان لبعض هذه الأحاديث علل، قال: سأخرجها، ثم يبين لما أخرجها مع أنها علل، قال: لأن حتى البخاري ومسلم ما ادعيا أن الأحاديث الموجودة في كتابيهما لا علة لها.
معنى ذلك : أن هناك يعني الحاكم يعتبر أن اشتراط انتفاء العلة ليس شرطًا في صحيح البخاري هذا ظاهر العبارة، هل يمكن أن يقصد الحاكم هذه العبارة؟
- لا يمكن أبدًا؛ الحاكم إمام ويعرف أن اشتراط العلة، انتفاء العلة شرط أكيد في الحديث الصحيح، وقد صَرَّح بذلك، فليست قضية إحسان ظن به، مع أنه أهل لإحسان الظن، لكن أيضًا صرح بهذا الشرط في كتابه " معرفة علوم الحديث " لما عرَّف الحديث الصحيح، وسنقرأ كلامه حتى نعرف بالفعل أننا إذا أوَّلنا هذا الكلام عندنا القرينة الصارفة لكلام الأول عهن ظاهره، وهي تصريح باشتراط عدم العلة في الحديث الصحيح حيث قال في كتابه " معرفة علوم الحديث " :
قال لما ذكر ثلاثة أحاديث ظاهر أسانيدها الصحة لكن لها علل خفية تقدح في صحتها، هذا ذكره في معرفة علوم الحديث، وهو كتاب في المصطلح كما هو معروف ومن أقدم كتب علوم الحديث.
ثم قال بعد ذلك قال: ففي هذه الأحاديث الثلاثة قياس على ثلاثمائة أو ثلاثة آلاف وأكثر من ذلك.
يعني : هذه يقول الثلاثة أحاديث هي أمثلة فقط أسوقها وهناك ألوف الأحاديث مثلها، ظاهر إسنادها الصحة وهي غير صحيحة.
يقول: إن الصحيح لا يُعرف بروايته فقط، وإنما يُعْرف بِالفَهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع، أي لمعرفة الصحيح نوع معرفة الصحيح، وليس لهذا النوع عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث " .
--------------------------------------------------------------------------------
ثم يكمل فيقول: فإذا وُجد مثل هذه الأحاديث – الأحاديث التي ظاهرها ظاهر أسانيدها الصحة – فإذا الصحيحة غير مُخَرَّجةٍ في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقيب عن علته ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته، هذا كلام صريح .
يقول: أغلب الأحاديث التي ظاهر أسانيدها الصحة وهي غير موجودة في البخاري ومسلم ما تركها البخاري ومسلم إلا لأن فيها علة، إذًا: هذا كلام صريح من الحاكم أنه كان يعتبر أن ما أخرجه البخاري ومسلم يشترطان فيه انتفاء العلة، لا يمكن أن يكون قائل هذا الكلام يرجع ويقول مرة أخرى: فإن البخاري ومسلم يخرجا أحاديث فيها علل قادحة للصحيح، إذًا: ما هو مراده بالعبارة الأولى؟
يحتمل ذلك أحد معنيين، العبارة التي ذكرها في المستدرك التي تدل على أن البخاري ومسلم قد يخرجا أحاديث فيها علل لها أحد توجيهين:
التوجيه الأول: أن يُحمل على العلل غير القادحة؛ لأن العلل في منها ما هو قادح، وفي منها ما هو ليس بقادح، مطبق الاختلاف هذا يُسمى علة، لكن ليس كل اختلاف يقدح في صحة الحديث .
مثلًا: كالاختلاف في الصحابي هل هو ابن عباس أو ابن عمر ؟ هل يقدح في صحة الحديث؟ ما يقدح، لِمَ؟ لأن الصحابة كلهم عدول.
مثل: الاختلاف في لفظ لا يؤثر في المعنى، اختلاف في لفظ لا يؤثر في المعنى مثل حديث ?? إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّات?? الذي أخرجه الإمام البخاري مختصرًا في موطن وكاملًا في موطن آخر، أيضًا هذا اختلاف ويُسمى علة عند المحدثين، لكنها ليست علة قادحة، فقد يكون مراد الحاكم أن العلل غير القَادِحة لا تنافي شرط الصحة وهذا لا خلاف فيه، هو يريد أن يبين أنه إذا وجدت اختلاف فمعنى ذلك أن هذا اختلاف لا يصل إلى درجة القدح في الحديث ولذلك أخرجته في كتاب المستدرك.
--------------------------------------------------------------------------------
التوجيه الثاني : أن يُحمل على أنه سيخرج أحاديث لها علل قادحة وأن البخاري ومسلمًا قد أخرجا أحاديث لها علل قادحة، لكن مع بيان علتها، وهذا صحيح وسيأتي أن البخاري ومسلمًا قد أخرجا أحاديث وأعلَّاها -هما أنفسهما- في كتابيهما الصحيح، فإذا أخرجا أحاديثًا لها علة قادحة يبين ذلك البخاري ومسلم أن هذا الحديث له علة قادحة، فإما أراد هذا المعنى أو أراد هذا المعنى، وكلا المعنيين صحيح، سواء أراد هذا أو ذاك.
ننتقل غلى قضية مهمة : أثارها الحافظ بن حجر، ونقلها عنه اثنان من تلامذته وهما: السخاوي والبقاعي وأحد تلامذة تلامذته وإن كان له من إجازة وهو السيوطي، نقلوا عن الحافظ بن حجر كلامًا أنه يقرر في هذا الكلام أن الشذوذ بتعريفه هو لا يناقض وصف الحديث بالصحة، الشذوذ بتعريف الحافظ له، الآن انتهينا من الشذوذ عند ابن الصلاح وبينا أنه هو المراد في تعريف الحديث الصحيح، لكن الحافظ بن حجر يقول بأن الشاذ الذي هو مخالفة الراوي المقبول لمن هو أولى منه ليس شرطًا منافيًا للصحة، وهذا قاله صراحة ونقله عنه كما قلت ثلاثة من العلماء منهم تلميذه السَخَاوي ، وتلميذه البِقَاعي وأيضًا الإمام السيوطي كلهم نقلوا هذا الكلام عن الحافظ بن حجر وهو يعني بنقل هؤلاء ثابت وإن كنا لم نجده في شيء من كتبه لأن هناك كتاب اسمه " النُكَت الكُبْرَى " للحافظ بن حجر مطبوع عليه " النُكَت الصُغْرَى" النكت على كتاب ابن الصلاح للحافظ بن حجر هذه هي النكت الصغرى، هناك " النكت الكبرى" لا نعرف عن مكان وجودها شيئًا فلعل ما نقل أو ما نقله هؤلاء العلماء من النكت الكبرى والتي كان السيوطي يصرح بالنقل منها في كثير من الأحيان فلعل هذا النقل من النكت الكبرى للحافظ بن حجر.
المقصود: أن الحافظ بن حجر يستدل على هذه الدعاوى بأمثلة ، يقول: يدل على أن الشذوذ لا ينافي وصف الحديث بالصحة أي مخالفة الراوي المقبول لمن هو أولى منه استدل بعدة أمثلة منها :
--------------------------------------------------------------------------------
1 - حديث شراء النبي ( لجمل جابر ، وما وقع في هذا الحديث بالاختلاف وساق البخاري هذا الاختلاف في الصحيح، فوقع مثلًا اختلاف في هذه القصة في ثمن الجمل؛ أحد يذكر كذا وكذا من الدراهم، وبعضهم يذكر عدد آخر، والثالث يذكر عدد آخر، ويورد البخاري أكثر من رواية في صحيحة مع أننا نعرف أن الجمل واحد والقصة واحدة فهو إما بيع بهذا الثمن أو بيع بهذا الثمن، وما يمكن أن يكون بِيعَ بِكِلا الثْمَنين.
أيضًا في القصة نفسها أمر له علاقة بالفقه وهو اشتراط الركوب ، هل اشترط النبي ( لما اشترى الجمل من جابر هل اشترط عليه جابر أن يركبه إلى أن يدخل إلى المدينة ثم يعطيه للنبي عليه الصلاة والسلام أو لا؟
جاءت رواية فيها اشتراط الركوب، وجاءت رواية ليس فيها اشتراط الركوب، وأخرج البخاري كلا الروايتين .
فيقول الحافظ بن حجر : إخراج البخاري لهذا الحديث مع هذا الاختلاف يدل على أن الشذوذ ليس شرطًا، انتفاء الشذوذ ليس شرطًا في الصحة .
لأن لابد أن تكون إحدى الروايتين خطأ، ومع ذلك أخرجها في الصحيح .
ومثال آخر أيضًا يضربه الحافظ بن حجر قال: - وقع في صحيح مسلم - : مثل ركعتي الفجر، سنة الفجر، فإنه من المعروف أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى ركعتا الفجر اضطجع اضطجاعه خفيفة إلى أن تُقَام الصلاة، ثم يقوم ويصلي الفرض بالمسلمين ،كل الرواة اتفقوا على أن هذه الاضطجاعة بعد ركعتي الفجر، بعد سنة الفجر الراتبة إلا الإمام مالك انفرد فذكر أن هذه الاضطجاعة قبل سنة الفجر، وأخرج الإمام مسلم الروايات كلها، ومنها رواية الاضطجاع التي قبل النافلة، والتي بعد النافلة، مع أنه لا يمكن أن يكون إلا أحد الأمرين .
فيقول الحافظ بن حجر: معنى ذلك أن الإمام مسلم كان يعرف إن إحدى الروايتين خطأ ومع ذلك أخرجها في الصحيح، ما وجه إخراجها في الصحيح؟
- قال لأن انتفاء الشذوذ ليس شرطًا في الصحة.
--------------------------------------------------------------------------------
طبعًا هذا الكلام حقيقة فيه قدر كبير من الغرابة ؛ لأن الحافظ لمَّا عرَّف الحديث الصحيح اشترط فيه ألا يكون شاذًا، وفي تعريفه قد تقول لعل هو أراد بالشاذ الذي عند ابن الصلاح، لا، لكنه عرَّف في شرحه لتعريف الحديث الصحيح الشاذ، وبيَّن أنه مخالفة الراوي لمن هو أولى منه، فما في احتمال أن نحمله على الشاذ عند ابن الصلاح، عرَّفه بهذا التعريف في كتابه النزهة، وفي كتابه النكت وكل كتبه وكل كلامه فيه اشتراط هذا الشرط، ثم يؤكد هذا الشرط أيضًا لمَّا تكلم عن زيادة الثقة ورد على من ادعى أن زيادة الثقة مقبولة مطلقًا حيث قال: كيف تجمع بين اشتراطك عدم الشذوذ مع قولك بأن زيادة الثقة مقبولة مطلقًا هذا تناقض ، نفس الحافظ بن حجر يقول هذا، يؤكد أن اشتراط انتفاء الشذوذ عنده شرط أكيد في الحديث الصحيح، فحقيقة هذا الموقف فيه شيء من التناقض ولا أعرف له توجيهًا في كلام الحافظ بن حجر، لكننا ندع كلام الحافظ بن حجر الآن جانبًا مُشْكِل، لا أعرف له توجيهًا ولا قرأت له توجيهًا لأحد من أهل العلم .
لكن الذي يُهمنا أكثر وهو المتعلق بشرط البخاري: كيف أخرج البخاري مثل هذه الأحاديث بالفعل؟ وكيف أخرج مسلم هذه الأحاديث مع أننا جميعًا متفقون أن شرط الصحيح ألا يكون الحديث شاذًا، كيف أخرج هذه الروايات التي بعضها ينقض بعضًا، وبعضها يخالف بعضًا؟
--------------------------------------------------------------------------------
قبل الدخول في بعض التقسيمات نقول بأنه لا يمكن أن نعتبر إخراج البخاري ومسلم لهذه الأحاديث التي وقع فيها شيء من الاختلاف دالًا على أن اشتراط الشذوذ ليس أو أن اشتراط عدم الشذوذ ليس من شروط الصحة، لا يمكن أن نقول هذا إلا إذا عرفنا أن البخاري كان يعتبر أن هذه الرواية شاذة بالفعل، ومع ذلك أخرجها في الصحيح، إذا عرفنا أن البخاري أخرج رواية وهو يعلم أنها شاذة في الصحيح عندها نقول هذا إشكال ويخالف ما قررناه سابقًا من أن الحديث الصحيح يحب ألا يكون شاذًا، لكن إذا لم يكن عندنا علم أن البخاري كان يعلم بشذوذ هذه الرواية أو كان مقتنع بشذوذها هل يمكن أن أعترض عليه وأقول له بأن هذا الحديث شاذ وكيف تخرجه في الصحيح، قد يكون شاذ عندي لكنه ليس بشاذ عند البخاري ، وقد يكون اجتهاد البخاري هو الصواب وقد يكون اجتهاد غيره ممن حكم عليه بالشذوذ هو الصواب، لكن المهم أن البخاري عند نَفْسِهِ ما نقض شرط الصحة، فلا يمكن أن أعتبر مجرد إخراج البخاري للحديث الذي فيه شذوذ دالًا على عدم اشتراط الشذوذ إلا إذا عرفت أن البخاري يعرف أن هذا الحديث فيه شذوذ ومع ذلك أخرجه في الصحيح ، بغير ذلك لا يمكن أن أعترض على البخاري، هذا واضح .
الأحاديث التي لا نشك أنها واضحة الشذوذ مثل حديث جمل جابر .
لا يمكن أن البخاري اعتبر كل الروايات صحيحة قلنا القصة واحدة .
لِمَ أخرج البخاري هذا الحديث مع الاختلاف الظاهر الذي فيه ؟ فما هو التوجيه فيه؟
نقول له جوابان :
الجواب الأول: أن يكون الإمام البخاري أخرج هذا الحديث الذي وقع في بعض ألفاظه اختلاف لا يحتج بالألفاظ التي وقع فيها الاختلاف وإنما يحتج بما اتفقت عليه الروايات .
--------------------------------------------------------------------------------
يعني مثلًا: اختلاف في الثمن، لم يحتج البخاري بهذه المسألة في ثمن الجمل على مسألة فقهية عنده ، فهو لا يهمه اختلاف الرواة في الثمن هذا غير مهم عنده ، يريد أن يقص لنا القصة وما حصل فيها من أمور يستنبط منها أحكام فقهية لا علاقة لها بثمن الجمل سواءً كان عشرة دراهم ولَّا عشرين ولَّا ثلاثين ولَّا مائة ، هذا لا علاقة له بالحكم الفقهي، فهو أخرج هذا الحديث مع ما فيه من الاختلافات لكنه لم يحتج بموطن الاختلاف ، وإنما احتج بما اتفق عليه الرواة ، والصورة طبعًا تكون أوضح في مثل جمل جابر ؛ لأن ثمن الجمل أصلًا لا علاقة له بالفقه أصلًا ، فقد تكون المسألة أصلًا التي اُخْتُلِفَ فيها لا يُستنبط منها حكم ، هل نستفيد حكم إذا كان بعشرة ولَّا ثلاثين ولَّا أربعين يخرج عندنا، يعني لو قلت ثمن الجمل أربعين درهم ما يجوز إنه يزيد أو ينقص؟ ما يقول هذا أحد، لا علاقة لقيمة الجمل بالفقه أصلًا، ولذلك الاختلاف ليس مهمًا، ولذلك لمسلم يضبط الرواة هذا الثمن أصلًا ، فإذا كان الأمر المختلف فيه ليس له قيمة من ناحية الحكم الفقهي ، أو حتى لو كان له أثر لكن البخاري لم يستند إلى هذا الجزء الذي وقع فيه الاختلاف وإنما استند إلى بقية الحديث التي لم يقع فيها اختلاف، إذًا هذا لا اعتراض فيه على البخاري لأنه أورد حديثًا شاذًا في صحيحه مع علمه به .
الجواب الثاني : أن يكون البخاري أخرج هذا الحديث الشاذ وهذه الرواية الشاذة لبيان شذوذها، وهذا قد وقع في قصة جمل جابر أيضًا صراحة، فمثلًا قضية اشتراط الركوب، صرَّح البخاري بأن اشتراط الركوب هو الأصح، حيث أوردها بعد ما أوردها قال: أصح من غيره من الروايات، بعد أن أورد اشتراط الركوب قال : "هذا أصح من غيره من الروايات" ، فبيَّن أنه الصحيح اشتراط الركوب، أما الرواية الأخرى التي ليس فيها اشتراط الركوب فليست بصحيحة عنده.
--------------------------------------------------------------------------------
إذًا: لمَّا أخرج هذه الرواية أخرجها منبهًا على ضعف الرواية الأخرى وأن الرواية التي فيها اشتراط الركوب أولى وأرجح فهي المحفوظة، وتلك الشاذة حسب تعريف الحافظ بن حجر للشاذ والمحفوظ.
ومثله تمامًا الإمام مسلم وسيأتي الكلام عن ما وقع التجاذب بين مدلوليه عند الإمام مسلم وذكر الأمثلة، حتى القصص نافلة الفجر الإمام مسلم أوردها لبيان علتها ومن نظر في الباب الذي أورده الإمام مسلم في هذه القصة يظهر له ذلك جليًا ، وكذلك غيره من الأحاديث التي وقع التجاذب بين مدلوليها في صحيح مسلم أوردها لبيان الاختلاف الذي فيها ، ولبيان علة الرواية التي يرى أنها مرجوحة، وبهذا التوجيه لا يمكن أبدًا يعني بهذين الجوابين:
الجواب الأول: أن نقول بأَنَّه أَثْبِت أولًا أن هذا الحديث شاذ عند البخاري، إذا ما أثبت أن هذا الحديث شاذ عند البخاري لا يمكن أن تقول أن البخاري لا يشترط الشذوذ؛ لأنه قد يكون شاذ عندك وليس بشاذ عند البخاري ، إذا كان الحديث يظهر من سياق الروايات أنه لا يمكن أن يكون البخاري لا يرى خطأ إحدى الروايات؛ لأنه مما وقع التجاذب ، والتعارف بين مدلولين ولا يمكن أن تكون كلا القصتين أو كلا الخبرين صحيح لابد أن يكون أحدهما صواب والآخر خطأ .
في مثل هذه الحالة نوجه بأحد احتمالين:
إما بأن نقول بأن البخاري إنما احتج بالجزء الذي اتفق عليه الرواة للحديث لا بالجزء الذي اختلفوا فيه مثل ما قلنا في الثمن، أو يدخل في هذا أن أصلًا الجزء المختلف فيه لا يستنبط منه حكم فقهي، ولذلك لا قيمة للاختلاف فيه.
--------------------------------------------------------------------------------
الصورة الثانية : أَنَّ يكون البخاري قد صرَّح بشذوذ تلك الزيادة أو ذلك الاختلاف وبيَّن الراجح والمرجوح عنده ، بذلك لا يُقال بأن البخاري أو أن شرط الشذوذ ليس مشترطًا في الحديث الصحيح، انتفاء الشذوذ، وبذلك نجيب عن الإشكال الذي أورده الحافظ بن حجر، والذي جعله يقول كلام ظاهره التناقض مع كل كلامه السابق وكلام من سبقه ومن لحقه من أنهم عرَّفوا الحديث الصحيح واشترطوا فيه عدم الشذوذ، الأحاديث التي استشكلها الكلام عليها الجواب عليها لائق وظاهر، ما في إشكال الحمد لله رب العالمين، وانتهت المشكلة من أساسها.
يبقى قضية موقف الحافظ بن حجر من هذه المسألة ، لا شك أن فيه شيء من التناقض والغموض الله أعلم بصوابه وبصحته.
بعد هذا الكلام عن اشتراط الشذوذ والعلة نريد أن نعطي إحصائيات معينة عن:
الأحاديث التي أُعلت في صحيح البخاري :
يذكر الحافظ بن حجر أن عدد الأحاديث التي أعلَّها الدار قطني في الصحيحين بلغت مائتين وعشرة حديث، أعلَّ الدارقطني هذه الأحاديث في كتاب " التَتَبُع " .
--------------------------------------------------------------------------------
أما كتاب " الإلزامات " ليس فيه انتقاد، وإنما يلزم البخاري ومسلم بإخراج روايات يرى أنها على شرطهما في كتاب التتبع ، وهو مطبوع باسم " الإلزمات والتتبع " ، ولكن الصواب أنه كتابان كتاب الإلزامات كتاب، وكتاب التتبع كتاب آخر منفصل ، يقول: بأن عدد الأحاديث التي انتقدت على البخاري ومسلم في هذا الكتاب مائتين وعشرة، هذه إحصائية الحافظ بن حجر، يقول: اختص البخاري منها بأقل من ثمانين، الأحاديث التي تخص البخاري ثمانين ، يخص مسلم منها مائة وثلاثين تخص مسلم ، يعني هذا ظاهر كلام الحافظ بن حجر في "النزهة" ، وفي " الفتح" ، وفي " النكت" وفي غيرهم لمَّا ذكر الإحصائية هذه، لكنه في الحقيقة الظاهر أنه لم يَتَعن بإحصائها بدقة ؛ لأنه هو نفسه لمَّا ذكر الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على البخاري في كتابه "هدي الساري" لأنه عقد بابًا في "هدي الساري " الذي في مقدمة الفتح، ذكر فيه كل الأحاديث التي وقف عليها مما أعلها الدار قطني في التتبع، وبعض العلماء سوى الدار قطني ممن انتقدوا البخاري، وعقد لها فصلًا خاصًا وأوردها حديثًا حديثًا ودافع عنها حديثًا حديثًا، وتكلم عنها كلام في غاية الجودة ، ولخص نتائج ذلك في آخر كلامه، لمَّا ذكرها بلغت عنده الأحاديث التي انتقدها الدار قطني اثنين وتسعين حديث ، الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على البخاري بلغت حسب ما ذكره الحافظ في " الهدي " اثنين وتسعين منها ثلاثة أحاديث يقول الحافظ بن حجر أنه وقف عليها في كتاب سوى التتبع ، في كتاب للدار قطني سوى التتبع وهو جزء حديث مخطوط حتى الآن لم يطبع خصه الدار قطني ببعض الأحاديث المنتقدة على البخاري ولم يذكرها في كتابه التتبع، ما طبع حتى الآن ، ونسمع أن شيخكم الشيخ سَعد الْحُمَيد يقوم بتحقيق هذا الجزء نسأل الله عز وجل أن يوفقه هو أو غيره ممن يحقق هذا الكتاب، المقصود أن هذا الجزء موجود واطلع عليه الحافظ بن حجر.
--------------------------------------------------------------------------------
المقصود : أَنَّ عدد الأحاديث التي في التتبع اثنين وتسعين حديث حسب إحصاء الحافظ بن حجر، لكن هذا الإحصاء يخالف إحصاء آخر، والغريب أن الكتاب واحد، كتاب التتبع مطبوع بتحقيق الشيخ مقبل بن هادي الوادعي عليه رحمة الله ، فأحصى الإمام الشيخ الوادعي عليه رحمة الله أحاديث التتبع فقال: أن عدد هذه الأحاديث التي يَنْتَقد فيها الدار قطني البخاري ومسلمًا مائتين حديثًا فقط في التتبع التي ينتقد فيها البخاري ومسلم، ليست مائتين وعشرة، يقول: لأن بعضها أحاديث مكررة، وبعضها أحاديث أوردها إلزام لا من باب التتبع، وبعضها أحاديث ينسبها للبخاري ومسلم أو لمسلم وهي غير موجودة في واحد منهما، فمجمل الأحاديث الموجودة في البخاري ومسلم التي انتقدها الدار قطني مائتين حديث فقط ، وهناك كتاب للدكتور ربيع بن هادي المدخلي بعنوان " بين الإمامين مسلم والدار قطني " جمع فيها الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على مسلم ، وسنتكلم عليها حديث ونبين أي القولين هو الراجح ، فبلغ عدد الأحاديث المنتقدة على مسلم من الدار قطني في هذا الكتاب أربعة وتسعين حديث، يقول: هذه هو الأحاديث التي انتقدها الدار قطني على مسلم، إذًا يبقى : أربعة وتسعين من مائتين ، مائة وستة، وهذا غريب يعارض ما نعرفه دائمًا من أن عدد الأحاديث المُعلة في صحيح البخاري أقل من الأحاديث المعلة في صحيح مسلم وهذا الذي قرره الحافظ بن حجر قبل قليل كما ذكرنا عندما قال: إنه نحو ثمانين فقط في البخاري والباقي عند مسلم فخرجنا أن مائة وثلاثين عند مسلم، وثمانين فقط عند البخاري، لكن هذه الإحصائية الحديثة تبين أن هذا الكلام يحتاج إلى إعادة نظر، والغريب أن هذه الكتب متخصصة في هذا الجانب، يعني في كتاب التتبع هو نفسه قام بالإحصائية، وذكر أن عدد الأحاديث المنتقدة مائتين فقط، جاء أحد الباحثين وهو الدكتور ربيع واستخرج التي انتقدت على مسلم فيقول: إنها أربعة وتسعين حديث، إذًا: الأصل أن
--------------------------------------------------------------------------------
يبقى الباقي خاص بالبخاري وهي مائة وستة أحاديث.
على كل حال هي على نحو المائة حديث التي انتقدها الدار قطني وهناك علماء آخرون انتقدوا البخاري سوى الدار قطني منهم أبو مسعود الدمشقي في كتابه " أطراف الصحيحين " انتقد أحاديث أخرى وذكر بعضها الحافظ في " الهدي" وأيضًا أبو علي الغساني في كتابه " تقييد الْمُهْمَل وتمييز الْمُشْكَل " وهو كتاب مطبوع ، وربما نجد أيضًا أقوال أخرى متناثرة في بعض الكتب تنتقض أحاديث أخرى في صحيح البخاري ، لكن بعد ذكر هذه الإحصائيات :
ما هو وجه إخراج البخاري لبعض هذه الأحاديث المعلة ؟
نحن قلنا: إِنَّ الحديث الْمُعَل أو اشتراط عدم العلة هذا شرط لازم لوصف الحديث بالصحة، فكيف يخرج البخاري لهذه الأحاديث المعلة بهذا العدد الذي هو يسير على كل حال؟
فنقول لذلك عدة أجوبة:
الجواب الأول: أن البخاري يخرج بعض الأحاديث ليبين علتها، يخرج بعض الأحاديث في صحيحه ليبين علتها، ومن أمثلة ذلك الحديث الذي أتيت به الآن أورده الإمام البخاري في كتاب باب الخلع وكيف الطلاق فيه .
قَالَ: ?? حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ جَمِيلٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ : حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ ...??
بعدما أورده البخاري قال : " قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ – يعني البخاري - : لَا يُتَابَعُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .أهـ .
--------------------------------------------------------------------------------
ثم أورد هذه الرواية نفسها من طريق عكرمة مرسلة دون ذكر عبد الله بن عباس ، وأورد اختلاف في هذا الحديث منهم من يصله ومنهم من يرويه مرسلًا ، وهذا الحديث ذكره الدار قطني ورجح فيه الإرسال، والذي يظهر لي أن البخاري أورده لِيُبَين علته، وخاصة أنه صرَّح لما ذكر رواية ابن عباس قال : قال أبو عبد الله : ولا يُتابع عليه . أي من قال إنه عن ابن عباس لا يُتابع على هذه الرواية، طبعًا الحافظ بن حجر أوَّل هذا الكلام بأنه يقصد خصوص هذه الرواية، رواية خالد الحذاء أنه ما أراد عن ابن عباس، لكن ظاهر كلام البخاري في بقية الباب أنه يقصد أن هذا الحديث ما صح متصلًا من وجه من الوجوه، وقد نص على هذا الحافظ ابن حجر في أكثر من موطن أن البخاري قد يخرج الحديث لبيان علته، لكن الذي استوقفني مرة في حديث عند البخاري أنه يبدي لنا أن البخاري ربما كان في بداية تصنيفه للصحيح يورد الأحاديث المُعَّلة وينبه على عللها في نفس الصحيح، ثم أصبح في غالب الأحاديث هذه التي في علل يضرب عليها، يعني يشطبها كما نقول، بقيت بعض الأحاديث التي فيها علل مبينًا لعلتها، يدل على ذلك الحديث التالي الذي أورده الإمام البخاري برقم [6443] حديثًا لزيد بن وهيب عن أبي ذر بعد أن أورده عن أبي ذر مرفوعًا للنبي عليه الصلاة والسلام ..
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ : " حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مُرْسَلٌ لَا يَصِحُّ إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ " .أهـ.
انتبه لهذه الكلمة : " إِنَّمَا أَرَدْنَا لِلْمَعْرِفَةِ " هذه العبارة في كل طبعات صحيح البخاري التي أعرفها رجعت إليها فتوثقت منها، إنما أردنا للمعرفة .
ثم يقول البخاري: " وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ " .
--------------------------------------------------------------------------------
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ - هذا الراوي ينقل لنا ما حصل في ذلك المجلس ، يعني سُئل البخاري لما روى هذا الحديث أثناء روايته لكتابه الصحيح - حَدِيثُ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ مُرْسَلٌ أَيْضًا لَا يَصِحُّ وَالصَّحِيحُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ وَقَالَ اضْرِبُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا ?? إِذَا مَاتَ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ?? .
يعني : الذي فيه هذه الزيادة، هذا فيه إشارة إلى أن هذا الحديث كان في صحيح البخاري، وأن البخاري لأنه مرسل وكان قد أورده في كتابه، وبيَّن أنه مرسل قال: اضربوا عليه، وكأن البخاري كان في أول تصنيفه يورد الأحاديث التي فيها علل منبهًا على عللها ، ثم صار يضرب على الأحاديث حديثًا حديثًا وبقيت هناك أحاديث ببيان عللها في كتابه .
الغريب طبعًا هذه العبارة ما شرحها الحافظ أصلًا في الفتح، ما تطرق إليها، تكلم عنها قليلًا العيني شرحها شرح يسير العيني في كتابه " عمدة القاري" هذا التوجيه الأول لإيراد الإمام البخاري للأحاديث المُعلَّة .
الجواب الثاني : أن الحافظ بن حجر بيَّن أن الإمام البخاري قد يورد الأحاديث التي فيها علل لأسباب قال :
1- إذا كان الحديث من بعض وجوهِهِ صحيحًا فإن البخاري قد يخرج الوجه الصحيح، وغيره – أي وغير الصحيح- اكتفاء بالصحيح، يخرج الصحيح ويخرج غير الصحيح، لكن هو مكتفي بالوجه الصحيح، هذا التوجيه الأول وذكره الحافظ بن حجر في " هدي الساري" وفي " الفتح " .
2- الوهم اليسير في متن الحديث لا يقدح في الحديث خاصةً إذا أخرج البخاري كلا الوجهين.
--------------------------------------------------------------------------------
قال: قد يكون هناك وهم يسير في المتن، لا يعتمد عليه البخاري في الاستنباط وإنما يعتمد على الجزء الذي ليس فيه وهم كما ذكرنا سابقًا، قال: هذا الوهم اليسير الذي لا يؤثر في الحديث لا يقدح في صحة الحديث ويورده البخاري وقد يورد الرواية التي ليس فيها وهم كما فعل أيضًا في حديث جمل جابر.
3- قد يخرج البخاري حديثًا منقطع إذا أخرج المتصل من وجه آخر، هذه قضية مهمة، أنك قد تجد الحديث في صحيح البخاري وهو منقطع عند البخاري ؛ لأنه أخرجه متصلًا من وجه آخر، فهو اعتماده على الوجه المتصل، لا على الوجه المنقطع، فليس كل إسناد في صحيح البخاري يلزم أن يكون متصلًا، هذا الأصل ، ونعتمد عليه إلا إذا جاء ما يدل على أن هذا الحديث أورده البخاري مع علمه بانقطاعه لأنه اعتمد أنه أيضًا أخرج من وجه آخر متصلًا .
4- قد يقصد البخاري من إخراج الوجهين بيان الاختلاف لا للاحتجاج بكلا الوجهين، قد يخرج الوجهين والاختلاف لبيان أن هذا الحديث وقع فيه اختلاف، وقد لا يكون يحتج بكلا الوجهين - وهذا غريب ، وهذا ذكره الحافظ بن حجر وهو أعرف الناس بصحيح البخاري كما هو معروف - ومن ذلك أنه قد يخرج المنقطع أو المتصل ليبين أنه يعني هذا وجه آخر قد يتعلق بما سبق أنه يرجح المتصل.
قبل أن ننتقل من هذه المسألة مسألة العلل نتكلم عن كتاب التتبع بكلام يسير:
--------------------------------------------------------------------------------
الذي ذكرناه كتاب التتبع للدار قطني الذي بيَّن فيه علل بعض الأحاديث نقول: ننبه إلى مسألة مهمة وهو أنه ليس كل ما في كتاب التتبع أحاديث يرى الدار قطني أنها ضعيفة في البخاري ومسلم فبعض الأحاديث التي يذكرها الدار قطني في كتاب التتبع إنما أوردها لبيان الاختلاف فقط، يعني قد يكون الدار قطني نفسه يرى أن الحديث صحيح من الوجه الذي أورده البخاري، لكن يريد ينبهنا إلى أن الحديث قد وقع فيه اختلاف، وهذا صرَّح به الدار قطني نفسه في بعض الأحاديث، وقد يورد بعض الأحاديث من باب الإلزام فهي كان ينبغي أن تُذكر في كتاب الإلزامات، لكن معروف أن العلماء قد يستطرد فيذكر أشياء ليست من شرط الكتاب، فيذكر ويقول: هذا الحديث يلزم البخاري إخراجه وهو ليس في البخاري أصلًا، وإنما يُلزم البخاري بإخراجه، وقد نتكلم عن قضية الإلزام إذا سنحت الفرصة.
--------------------------------------------------------------------------------
أكثر الأحاديث التي ينتقدها الدار قطني انتقادها راجع إلى الصنعة الحديثية ؛ يعني يكون المتن لا خلاف عند الدار قطني في أنه صحيح، لكن بعض الرواة رواه عن حماد بن سلمة، وبعضهم رواه عن حماد بن زيد، فيرى مثلًا أن رواية حماد بن زيد هي الأصح وأن البخاري أورده برواية حماد بن سلمة التي هي مرجوحة ، المتن لا خلاف في صحته مروي من وجوه كثيرة صحيحة وإنما يخالف في هذا الإسناد يرى أنه لا يصح من هذا الوجه ، فهو في الصنعة لا في نقد المتن، وإنما في نقد السند، أكثر انتقادات الدار قطني من هذا الباب، فلا يَهُولَنَّك إنها مائتين ولَّا مائة ولَّا خمسين أكثر هذه، في مسلم كما سيأتي عدد المتون المنتقدة عند الدار قطني لا يتجاوز ثمانية أحاديث وحسب إحصائي السريع غير الدقيق في البخاري لعلها لا تتجاوز خمسة أحاديث المتون التي ينتقدها الدار قطني ويبقى إنه قد يكون الراجح قول البخاري وطبعًا نحن نتكلم عن الدار قطني فقط، وإلا هناك علماء آخرون كما ذكرنا انتقدت البخاري ومن حق العالم المتأخر أنه يرجح أحد القولين على الآخر.
تكون الأسئلة في بداية الدرس القادم بإذن الله تعالى غدًا في أول الدرس نقرأ الأسئلة.
________________
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ..( (1) هذه المقدمة سَقْطٌ ليست مِنْ الْمَسْموع.1)
نبدأ اليوم ببعض الأسئلة المتعلقة ببعض الدروس السابقة ؛ ثم نبدأ بلقائنا اليوم إن شاء الله .
السؤال الأول : ما المقصود بالأصول والشواهد والمتابعات في الصحيحين ؟ وكيف نميز بينها ؟ وما دلالة إفراد صاحبي الصحيحين للراوي في أحد الفرعين السابقين ؟
أما بالنسبة للأحاديث التي يخرجها أصحاب الصحيح فكل ما أخرجه أصحاب الصحيح فهو صحيح عندهم إلا ما بينوا علته صراحة أو تلميحاً ؛ فليس هناك حديث في الصحيحين لا يحتج به صاحب الصحيح إلا أن يكون قد بيَّن علته صراحة أو تلميحاً ؛ فبهذا المعنى كل أحاديث الصحيح هي من أحاديث الأصول عندهم إذا قصدنا الاحتجاج فكلها صحيحة إلا ما بيَّن علته كما ذكرنا لا نستثني إلا هذا .
أما بالنسبة للرواة ؛ فلا شك أن هناك رواة يعتمد عليهم صاحب الصحيح أكثر من بعض ، وهؤلاء هم الذين عليهم غالب الكتب الصحاح ، وهناك مرتبة أقل منهم في الدرجة هؤلاء إذا ضاق على صاحب الصحيح مخرج الحديث فلم يجده إلا من حديث أمثال هؤلاء فإنه يخرج الحديث لهم ، وهؤلاء هم الذين أخرج لهم صاحب الصحيح وخاصة البخاري الأحاديث المسندة المتصلة ، أما رواة المتابعات فهم الذين يذكرهم البخاري في الروايات المعلقة التي يقول فيها عقب الحديث ورواه فلان ، وفلان ، هؤلاء هم رواة المتابعات .
--------------------------------------------------------------------------------
إلا أنه في الحقيقة بالنسبة للقسمين الأوليين وهم من أخرج لهم وهم أصل الاحتجاج ، ومن أخرج لهم دونهم في الدرجة تمييز هؤلاء من أولئك ليس بالأمر الهين ، وهم محل اجتهاد لا يمكن في كثير من الأحيان أن أجزم أن هذا الراوي ليس من الطبقة العليا عند البخاري وإنما هو من الطبقة الثانية ؛ لأنه يحتاج إلى أنك تستعرض الصحيح كاملاً ، وتنظر في رواية هذا الراوي وكيف أخرج له البخاري ؛ ثم في كثير من الأحيان أو في كل الأحيان تقريباً يبقى الأمر ليس مقطوعاً به ؛ لأن ما هي طريقة معرفة أن هذا الراوي هو أصل الاحتجاج أو لا ؟ يعني لو وجدنا مثلاً في الباب ثلاثة أحاديث ؛ أو حديث واحد رواه بثلاثة أسانيد الذي يعمله العلماء أنه إذا وجدوا راوي في أحد تلك الأسانيد فيه شيء من الكلام قالوا : هذا أخرج له متابعة .
معنى هذا لا يلزم قد يكون عند البخاري هذا الراوي أوثق ممن لم يُتكلم فيه ، وأضبط ؛ فكون نحن نقسم هؤلاء الرواة بناءً على اجتهادنا نحن وبناءً على ما ننزل عليه نحن الرواة هذا ليس عملاً صحيحاً ؛ لذلك في الحقيقة أنا من البداية أؤكد على قضية أن كل من أخرج له البخاري فهو في درجة القبول إلا من استثنيناهم من روى له مقبولاً ، أو هكذا وقع في الإسناد أو ذكره في المتابعات ، وهذا يؤيده يا إخوان أمور كثيرة أنا في الحقيقة تعرضت لهذه القضية في شرح ابن الصلاح و توسعت فيها جداً لإثبات أن كل من أخرج له أصحاب الصحيح فهو في درجة القبول من بين الأدلة على ذلك ولأبين أنه رأي لبعض كبار الأئمة .
--------------------------------------------------------------------------------
الدار قطني مثلاً في كتابه " رجال البخاري " اعتبر كل من أخرج له البخاري حديثاً مسنداًَ أنه ممن احتج به البخاري ، ولم يذكر إلا في آخر الكتاب قال : من أخرج له البخاري في المتابعات ، وذكر أن هؤلاء الرواة الذين سنذكرهم في الروايات المعلقة ؛ أما عموم رواة البخاري وهم أكثرهم فاعتبر أنه يخرج لهم البخاري احتجاجاً ، و لذلك كما ذكرنا سابقاً ينتقد بعض العلماء أصحاب الصحيح لإخراجهم لبعض من تُكلم فيهم ولا يقولون إن كانوا أخرجوا لهم متابعة ، أو في الأصول ، أو في الشواهد والمتابعات لو كانت هذه قضية مُسَلم بها و مقبولة لما انتقدوا على صاحبي الصحيح أنهم أخرجوا لفلان أو لفلان ليأتي بعض المتأخرين ويقول : قد أخرج له في المتابعات ، وفلان نقده يتوجه على البخاري أو مسلم .
و المقصود : أن تمييز هؤلاء الرواة ليس أمراً متفقاً عليه ، و يبقى محل اجتهاد ، وهو الطبقة الأولى والثانية ، وكلهم يحتج بهم البخاري لكنها مرتبة دون مرتبة هذا كل ما في الأمر الذين نقول بأنه لا يمكن نقول بأنهم احتج بهم البخاري الذين لم يخرج لهم روايات مسندة ؛ وإنما أخرج لهم في المتابعات بمعنى أنه في الروايات المعلقة هؤلاء الذين يمكن أن نقول بأنه ليس لدي دليل أَنَّ البخاري يحتج به ، قد يكون البخاري يحتج به لكن من خلال تصرفه في الصحيح ، لكني لا أجزم بأنه احتج بهم ؛ فهذا الذي يمكن أن يعين في هذا الجانب ؛ فالأصل فيمن أخرج لهم أصحاب الصحيح أنه مقبول هذه القاعدة ؛ إلا من استثنيناه .
السؤال الثاني : هل ألفاظ مسلم ومتونه أضبط من ألفاظ ومتون البخاري ؟
--------------------------------------------------------------------------------
لا يمكن إطلاق مثل هذه العبارة ؛ فلا شك أن كتاب البخاري قمة من الضبط والإتقان ؛ لكن لكون البخاري يقطع الحديث ، ولكونه يريد أن يبين موطن الشاهد في الأحاديث ؛ فربما اضطر أثناء اختصاره أن يذكر عبارة في بداية الحديث ، أو في آخر الحديث تنبه على حصول اختصار فيه ، أو تبين السياق الذي ورد فيه ذلك الحديث فهو ليس من باب أضبط أو ليس بأضبط لو قلنا أضبط يعني مسلم أكثر ضبطاً من البخاري ؛ لكن نقول بأن ميزة مسلم أنه يسوق الأحاديث بألفاظها أما البخاري فربما تصرف في اللفظ لغرض الاختصار ، ولغرض بيان موطن الشاهد في الحديث ، أمر آخر وهو ليس دليل قطعي بأن مسلم أضبط من البخاري - كما يقول السائل - وإنما أشاعوا عند العلماء أنه لو وقع خلاف في اللفظ بين البخاري ، ومسلم فإنه قد يميل إلى إثبات لفظ مسلم لأن مسلم ألف كتابه ، وبين يديه أصوله ، وفي حياته كثير من شيوخه أما البخاري فكان يؤلف كتابه أثناء ترحاله في الأمصار ، والبلدان .
السؤال الثالث : هل هناك علاقة بين التاريخ الكبير للبخاري وصحيح البخاري ؟
الجواب : هما كتابان منفصلان لمؤلف واحد لكن يمكن أن ننتفع بكتاب التاريخ الكبير للبخاري لمعرفة آراء للبخاري مختلفة حول بعض الأحاديث ، وحول بعض الرواة الذين أخرج لهم في الصحيح لا شك أن أولى ما يُرجع إليه لدراسة أسانيد البخاري هو رأي البخاري نفسه في هذا الراوي ، وهذا الذي يُعرف من خلال كتبه المختلفة ، هذا لا شك فيه لكن أنه يتمم العمل أو كذا أو لا يمكن أن يُستفاد من صحيح البخاري إلا بالتاريخ الكبير للبخاري فهذا محل نظر ؛ لأنهما كتابان منفصلان للإمام البخاري .
السؤال الرابع : أسانيد الأحاديث لها نفس الاستقامة لأسانيد أثار في صحيح البخاري ؟
--------------------------------------------------------------------------------
الجواب : لعل مقصود السائل هل الآثار الموقوفة صحيحة كما أن الأحاديث المرفوعة صحيحة في نفس الدرجة ، قلنا بأن البخاري إذا أسند الحديث الأصل فيه أنه على شرطه إلا ما بين علته ، وأنه أخرج بعض الأحاديث الموقوفة وهي على شرطه هذا الأصل في ذلك ؛ إلا إذا ظهرت لنا قرينة أن البخاري أراد الإعلال فهذا أمر مختلف يكون أمراً آخر لكن الأصل فيه ما أخرجه في صحيحه من أحاديث و أثار مسنداً أنه على شرطه .
السؤال الخامس : ما توجيه صنيع الحافظ الزيلعي في " نصب الراية " حيث قال في أحد المواضع كما بوَّب مسلم ، هل التبويب من صنيع مسلم ؟
قلت لكم إن أكثر أهل العلم نصوا على أن مسلم لم يبوب الصحيح ، وهناك نسخة من صحيح مسلم متقدمة موجودة حتى اليوم ليس فيها تبويبات لمسلم ، توجيه الزيلعي إما أنه وقف على نسخة فيها هذه التبويبات فظن أن بعض هذه التبويبات من مسلم ، أو لعل صحيح مسلم في بعض رواياته وضع بعض الأبواب اليسيرة القليلة ، الاحتمال وارد في بعض الروايات في بعض نسخه و لا يعارض ذلك أن غالب الصحيح ليس مبوباً . والأدلة على أن صحيح مسلم غير مبوب كثيرة من بينها اختلاف التبويبات المتابينة تبايناً كبيراً بين نُسخ صحيح مسلم ، و بعض هذه التبويبات موجودة في الشروح مما يبين أنها مأخوذة من هذه الشروح شرح النووي ، شرح القرطبي ، شرح فلان ، وفلان ، وهذا يؤكد أنها ليست من مسلم هذا التباين الكبير يؤيد أنها ليست من مسلم.
يعني البخاري مع كثرة نسخه تكاد تجد في الغالب التبويبات متفقة مما يؤكد أنها من البخاري وهذا اشهر من أن يستدل عليها لأن فيها فقه البخاري كما ذكرنا ، ودقة استنباطه البالغة ، وتكلم عنها حتى تلامذة البخاري ومن جاء بعدهم ، أما مسلم فليس كذلك .
السؤال السادس : نريد إفادتنا ببعض المراجع للبحث الذي بعنوان (تبيين وجه إخراج الآثار في صحيح البخاري ) ؟
--------------------------------------------------------------------------------
هذا المشروع الذي ذكرت لكم ليس فيه الحقيقة مرجع معين إلا صحيح البخاري نفسه ، ترجع إلى صحيح البخاري وتجرده ، وتستخرج ما فيه من الآثار الموقوفة المسندة ؛ أما المعلقة ما لنا علاقة فيها الآثار الموقوفة المسندة التي رواها البخاري بالإسناد إلى الصحابي ثم تحاول تدرس هذه الآثار ما وجه إخراج البخاري لها ؟ فستجد مثلاً ممكن تقسمها مثل كما ذكرنا سابقاً أن ما له حكم الرفع فيكون هذا هو توجيه إخراج البخاري لها وهذا يكون ظاهراً حديث موقوف ولكن له حكم الرفع فيكون هذا هو توجيه إخراج البخاري له ، وستقف على أحاديث أخرى لا ترى فيها دليلاً على أن لها حكم الرفع هذه هي التي تحتاج إلى توجيه لما أخرجها البخاري في الصحيح ؟ وما هو عدد هذه الآثار الموقوفة التي لا يمكن أن يكون لها حكم الرفع ؟ وتحاول توجه إخراج البخاري الذي اشترط أن لا يخرج في كتابه إلا الحديث المسند أي المرفوع المتصل ، وعلى كل حال المشاريع حول البخاري ومسلم مشاريع متعددة حقيقة ، وما زال يحتاج إلى جمع .
يعني مثلاً السؤال الذي سبق قضية الرواة الذين أخرج لهم في المتابعات ، و الشواهد ممكن ينقدح في الذهن يعني موضوع وهو مهم جداً الرواة الذين انتقدوا على البخاري ، ومسلم من خلال كتاب " البيان والتوضيح " ندرس هؤلاء الرواة الذين أخرج لهم البخاري وانتقدوا عليه من ناحية مراتبهم في الجرح والتعديل ما هو الراجح فيهم ؟ كل راوي يدرس ؛ ثم نعرف معنى طريقة إخراج البخاري لهم ونحاول أن نعرف كيف اخرج البخاري لهم ؟ هل أخرج لهم في المتابعات كما يقال ؟ هل اعتمد عليهم فأخرج لهم مفاريد – حديث ليس في الباب إلا هو وأخرجه من طريق هذا الراوي - ؛ ثم يدل على أنه اعتمد عليه اعتماداً كاملاً ؛ هل كلما أخرج لهم يقرنهم بغيرهم مثلاً ؟ يعني يعرف ما هو موقف البخاري من هؤلاء الرواة ؟ وكذلك مسلم ؟ نفس هذا المشروع مهم ، ونافع جداً .
--------------------------------------------------------------------------------
الأحاديث المنتقدة على الصحيحين ليس فقط في التتبع ، والتي ذكرها الحافظ في الهدي لأن هناك أحاديث ما ذكرها الحافظ لا في الهدي ولا في الفتح موجودة في كتب العلل ، وفي كتب الجرح والتعديل ، والسؤالات ، وغيرها فلو جمعت هذه الأحاديث كاملة ، ودرست ، وبين ما هو نوع النقد الموجه إليها هل هو في الصنعة فقط أم في المتون أم ما شابه ذلك؟ أيضاً مشروع مهم ولا أعرف كتاباً استقصى فيه الاستقصاء الكامل لدراسة مثل هذه الأحاديث ، المقصود أن المشاريع كثيرة حقيقية ، ولعل الأسئلة هي التي تذكرني ببعض المشاريع التي أقترحها لمن يريد أن يعمل ، وأن يجتهد في تعلم السنة .
مشروع هو يتعلم ويستفيد منه ؛ ولو أتمه تمكن من خدمة ينفع الأمة به ، تكون خدمة نسأل الله عز وجل أن تكون في ميزان حسناته يوم القيامة .
السؤال السابع : ما أسباب التفضيل لكتاب البخاري على كتاب مسلم عند الجمهور ؟ ذكرنا الأسباب قلنا إن هناك أكثر من سبب :
هناك سبب اختلاف الرواة ، ومن ناحية الأحاديث المعلة .
الأحاديث المعلة في صحيح البخاري كما يقول الحافظ ابن حجر أقل من الأحاديث المعلة في صحيح مسلم ؛ لكن هناك وجه آخر لعله ليس عليه انتقاد وليس عليه مَلْحَظ بالنسبة للأحاديث المعلة ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : بأن أكثر ما انتقد على البخاري أو نسبة ما انتقد على البخاري والصواب فيه للبخاري أكثر من نسبة ما انتقد على مسلم ، والصواب فيه مع مسلم فهذا أيضاً وجه آخر يرجح فيه صحيح البخاري على صحيح مسلم و ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ فهذه الأوجه التي يرجح بها صحيح البخاري على صحيح مسلم .
السؤال الثامن : هل يوجد ضعف في الإسناد في صحيح البخاري كما في الإسناد الثالث في سنن أبي داود ؟
قلنا بأن شرط الصحيح أن لا يكون فيه ضعف فكيف يكون صحيح وضعيف ، إلا أن يكون الحديث أخرجه البخاري لبيان علته فقط أما أن يكون ضعيف عند البخاري ويخرجه ويسكت عليه هذا يعارض شرط الصحة .
--------------------------------------------------------------------------------
السؤال التاسع : ماذا تعني عبارة " على شرط البخاري أو مسلم " أو " على شرط الصحيحين " ؟
هذه سنتعرض لها عندما نتكلم عن شرط الحاكم في المستدرك .
السؤال العاشر : هل يوجد في صحيح البخاري حديث ضعيف ولم يبين علته ؟
الجواب: تكلمنا أيضاً عن هذا .
السؤال الحادي عشر : ما رأيكم في المحدثيْن " أبي رملة ، ومخنف بن سُليم " ؟
لا أذكر الآن الكلام فيهما .
السؤال الثاني عشر: هل يؤخذ كلام الأقران بعضهم في بعض ؟
كلام الأقران بعضهم في بعض من أقوى الكلام يعني القرين أعلم الناس بقرينه فالأصل قبول كلام الأقران بعضهم في بعض إلا إذا وجدت لدينا قرينة أو دليل يدل على أن هذا الكلام خرج بغير إنصاف كأن يكون بينهما عداوة معروفة أو يكون بينهما اختلاف في المذهب مثل أن يتكلم ناصبي في شيعي مثلاً فعندها نعرف أن الناصبي لن ينصف الشيعي ، أو أن الشيعي لن ينصف الناصبي , فإذا ظهرت عندنا قرينة تدل على أن هذا الكلام خرج بغير إنصاف أو مثلاً كلام القرين أحد القرينين تكلم في قرينه ، وقرينه هذا ممن ثبتت عدالته كل الأمة على توثيقه وتعديله ، وجاء هذا وحده فقط وخالف وتكلم فيه هذا دليل واضح على أنه كلام بغير إنصاف ؛ فالمقصود أن كلام الأقران في بعض من أقوى الكلام لأن القرين هو أعلم الناس بقرينه ، ولذلك فمن المرجحات التي نذكرها دائماً أن كلام المعاصر أولى من كلام المتأخر عن عصر الراوي لأن المعاصر اعرف بالراوي ، وأدرى به بخلاف المتأخر خاصة إذا كان الكلام متعلق بالعدالة أي إذا كان النقد متعلق بالعدالة ؛ لأن المعاصر رآه وربما سمع منه ، وربما عاشره فترة طويلة وربما ماشاه فعرف من أخباره ، وأحواله ما لا يعرفه عنه من لم يره ومن لم يلقه فقاعدة كلام الأقران يطوى ولا يروى هذه القاعدة يجب أن تقيد بما ذكرت وهو فيما لو ظهرت قرينة أو دليل يدل أن الكلام خرج بغير إنصاف أما بغير ذلك فهذه القاعدة ليست على افتراضها .
--------------------------------------------------------------------------------
السؤال الثالث عشر : لماذا تطلقون على السند إسناد ، وأنتم تعلمون أن هناك فرق بين السند ، والإسناد ؟
كما نعلم أن هناك فرق بين السند ، والإسناد من ناحية اللغة ؛ فإننا نعلم أن المحدثين لم يفرقوا بين السند ، والإسناد من جهة الاستخدام ولذلك لا نفرق بينهما نحن أيضاً في الاستخدام .
السؤال الرابع عشر : هل يقال إن كل الأحاديث المنتقدة على مسلم ، والبخاري أنها كلها إما لبيان علتها أو أنه ذكرها مع المتابعات ؛ أو أن له شواهد ذكرها لفائدة أو أن تكون هذه القاعدة مطردة ؟
لا ؛ بل هناك لاشك أن البخاري ومسلم عملهم عمل بشري , ولا بد أن يكون فيه نقص أبى الله أن يتم إلا كتابه ؛ فلابد أن يكون هناك نقص في هذا العمل البشري ؛ فهناك أحاديث أخرجها البخاري ، ومسلم واعتقدا صحتها , وخالفهم بعض أهل العلم ، وقد يكون الراجح كما نقول دائماً ما ذهب إليه البخاري ، ومسلم ؛ وقد يكون الراجح في بعض الأحيان ما ذهب إليه المنتقد ؛ فكون أنه كل الأحاديث المنتقدة , والبخاري ومسلم يعرفان علتها , و أنهما أخرجاهم لبيان علتها , وهذا يعارض الواقع ؛ فإننا نجد أحاديث منتقدة ما بين البخاري ومسلم علتها , ولا بأي وجه من وجوه البيان ، وإذا بلغ البيان لدرجة الخفاء ولدرجة أنه لا يظهر لأحد فما أصبح بياناً .
السؤال الخامس عشر : ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه قصة الإمام البخاري مع أهل بغداد ما صحة هذه القصة ؟
--------------------------------------------------------------------------------
لا أرى داعي للوقوف عندها كثيراً ، القصة المشهورة عندما ورد على أهل بغداد فقلب عليه عشرة من المحدثين كل واحد منهم عشرة أحاديث قلبوا أسانيدها ومتونها فكان كلما ألقى عليه واحد منهم الحديث يقول لا أعرفه لا أعرفه حتى انتهوا من المائة ؛ فلما انتهوا عاد البخاري إلى تلك الأحاديث ، وبيَّن خطأ كل واحد من هم وصوابه يقول ؛ أما حديث كذا فصوابه كذا ، وأما حديث كذا فصوابه كذا حتى انتهى من الأحاديث المائة كاملة ، وهذه القصة أخرجها ابن عدي في كتابيه " الكامل " , " مشايخ البخاري " , وخاصة في كتاب مشايخ البخاري أنا موقن بأنه أخرجها فيه ولعله أخرجها أيضًا في الكامل ، والمقصود أنه أخرجها في كتاب " مشايخ البخاري " في ترجمة البخاري في مقدمة الكتاب يقول في بدايته : حدثني عدة من شيوخي وابن عدي يروي عن البخاري بواسطة واحدة مثل الدولابي , ومثل غيره ممن روى عنهم عن البخاري , يروي عن عدد من تلامذة البخاري عن البخاري فكونه يقول حدثني عدة من شيوخي في قصة ليس فيها أمر مستنكر بالنسبة لحافظة الإمام البخاري هذا يكفي ، وأنا أضرب مثال للأخوة دائماً حتى يعرفوا مثل هذه الأخبار والقصص لا تحتاج لقواعد المحدثين حتى نقبلها ونردها .
--------------------------------------------------------------------------------
لو أن أحدكم سمع مثلاً الشيخ ابن باز رحمه الله , أو الشيخ ابن عثيمين رحمه الله , أو أحد مشايخنا الشيخ صالح الفوازان في الموجودين حفظهم الله يقول : حدثني عدة من شيوخي أن فلان من علمائنا كان يفعل كذا ، وكذا ؛ هل يمكن لأحد أن يجد في نفسه أن يشكك في هذا ؟ الخبر لو سمع الشيخ ابن باز يقول : حدثني عدد من شيوخي عن فلان من علمائنا أنه كان يفعل كذا ، وكذا أو يقول كذا ، كذا , ويوردها مورد يعني الثقة بهذا الخبر هل تقولون والله هذا الخبر نرده وما نقبله من الشيخ ما أظن في أحد يتجرأ على مثل هذه العبارة فليش لما قالها : ابن عدي نتوقف , و نردها يعني عامل العلماء السابقين كما تعامل من تجلهم من المعاصرين خاصة وأن من شدة ثقته كأنه يرى ما في داعي أن يقول : حدثني فلان أو فلان فهذا الخبر عنده مسموع عن عدد من شيوخه ، والقصة ليست أثرا يستنبط منه حكم ، ويكفي فيها مثل هذا الإسناد , ولو لم يذكرها بإسناد ابن عدي لربما أيضاً احتججنا بها قال : وقع للبخاري كذا وكذا , وهو قريب عهد به يكفي في القصة مثل هذا النقل من إمام متثبت متحري مثل ابن عدي ، وخاصة أنه لن ينبني على هذه القصة استنباط حكم نخالف به نصوص ثابتة في الكتاب والسنة .
السؤال السادس عشر : ما مذهب الإمام مسلم ؟
ذكر الإمام مسلم من بين تلافي الشافعية ، وأيضاً من ضمن الحنابلة لأنه روى أيضاً عن الإمام أحمد , والظاهر كما نقول دائماً أن هؤلاء الأئمة الكبار لا يصح نسبتهم نسبة تقليد إلى أئمة المذاهب , لكن ربما استفادوا من هؤلاء ولا شك في علمهم ، والإمام مسلم يجل الشافعي كما في أحد كتبه المفقودة و الذي نقله عنه الخطيب في كتابه " مسألة الاحتجاج بالشافعي " , ولعل هذا أيضا من أسباب إيراد الإمام مسلم في طبقات الشافعية ، لكن لا يمكن الجزم بأنه متبع أو أنه مقلد لأحد الأئمة .
السؤال السابع عشر : الإمام مسلم يورد العلل في الصحيح لأني قرأت لأحدهم أنه ينفي ذلك ؟
--------------------------------------------------------------------------------
ما في أكثر من الأدلة التي ذكرناها هذا السؤال ليس له محل من الإعراب في الحقيقة بعد الأدلة التي ذكرناها من أن مسلم يذكر العلة ، ويضعف الحديث وهو نفسه في التمييز يضعف حديث وأورده في الصحيح , وكلام العلماء الذين سبقوا ، وطريقة إعلاله للأحاديث المختلفة بطرق مختلفة كل هذا يبقى هل يخرج الحديث الذي فيه علة فلن نكرر الكلام مرة ثانية .
السؤال الثامن عشر : أرجو أن تلخصوا الدرس في مذكرات كما فعله الشيخان يحيى البكري و سعد الحميد .
هناك من سينسخ هذه الدروس ، وقد بلغني بذلك جزاه الله خيراً وإذا نسخها انتفع بها الجميع إن شاء الله .
السائل : ممكن تفيدنا في المراجع ؟
تكلمنا عنها مصادر السنة ذكرنا ها بالأمس .
السائل : ما رأيك في هذا الحديث ؟
ليس متعلقاً بالدرس .